الاستشراق هو دراسة كافّة البنى الثّقافيّة للشّرق من وجهة نظر غربي، وتستخدم كلمة الاستشراق أيضاً لتدليل تقليد أو تصوير جانب من الحضارات الشرقية لدى الرواة والفنانين في الغرب. المعنى الأخير هو معنى مهمل ونادر استخدامه، والاستخدام الأغلب هو دراسة الشرق في العصر الاستعماري ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر. لذلك صارت كلمة الاستشراق تدل على المفهوم السلبي وتنطوي على التفاسير المضرّة والقديمة للحضارات الشرقية والناس الشرقيين. وجهة النظر هذه مبيَّنة في كتاب إدوارد سعيد الاستشراق (المنشور سنة 1978).
مراحل الاستشراق
من أبرز المراحل الّتي يُقسّم إليها الاستشراق ما ذهب إليه الدّكتور المبروك المنصوري في كتابه "الدّراسات الدّينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النّسبيّة الثّقافيّة: الاستشراق، القرآن، الهويّة والقيم الديّنيّة"، إذ قسّم الاستشراق إلى ثلاث مراحل أساسيّة هي: الاستشراق الاستعماري (Colonial Orientalism): ويشمل كلّ ما أٌنتج من بداية تشكّل هذا التوجّه مع الحركة الرّومانسيّة الغربيّة إلى حوالى 1960. الاستشراق ما بعد الاستعماري (Post Colonial Orientalism): وهو التوجّه الّذي تشكّل في المرحلة ما بعد الاستعماريّة. ويرتكز أساسا على الجانب الثّقافيّ واللّغويّ وقد تلبّس لبوسا جديدا. الاستشراق الجديد (New Orientalism): وهو التيّار الّذي تشكّل في بداية هذا القرن. وقد دشّنه كريستوف لكسنبرغ بكتابه "القراءة السّريانيّة الآراميّة للقرآن" [1].
تاريخ الاستشراق
من الصعب أن نكون دقيقين عن أصل الفرق بين الغرب والشرق. لكن ازدهار المسيحية والإسلام خلق خلاف حضاري كبير بين أوروبا المسيحية والشرق وشمال أفريقيا الإسلامي. في العصور الوسطى كان الأوروبيين المسيحيين يرون المسلمين كأعداء جهنميين لهم. وكان معرفة الأوروبيين للحضارات أبعد شرقاً من الشرق الإسلامي أكثر خيالاً. ولكن كان هناك معرفة قليلة للحضارات الهندية والصينية من حيث كان تأتي سلع غالية مثل السيراميك والحرير. وبكثرة الحملات الاستعمارية والاستكشافية صار هناك تمييز بين الحضارات الغير كاتبة، مثل في أفريقيا والأمريكتين، والحضارات الكاتبة والمثقفة في الشرق.
في القرن الثامن عشر، المفكرين المنورين يصفون أحياناً جوانب من الحضارات الشرقية كأحسن من الغرب المسيحي. مثلاً: فولتير روَّج البحث والدراسة عن الزردشتية، في أنها ديانة تدعم الربوبية العقلانية أحسن عن المسيحية. آخرين مجدوا التساهل الديني في الشرق الإسلامي بدلاً من الغرب المسيحي، أو منزلة العلم في الصين والشرق عامةً. مع ترجمة الافيستا واكتشاف اللغات الهندوروبية، وضِّح الاتصال بين التاريخ الشرقي والغربي القديم. ولكن صار ذلك الاكتشاف في وسط المنافسة بين فرنسا وبريطانيا في الهيمنة على الهند، وكان الاكتشاف متعلق في فهم الحضارات المستعمرة كي يتحكم عليها المستعمر بسهولة. ولكن الاقتصاديين الليبيراليين مثل جيمس ميل ذم الأمم الشرقية بأن الحضارات تلك كانوا ثابتات وفاسدة أو فاسقة. حتى كارل ماركس وصف أسلوب التصنيع الأسياوي كرافضة التغيير. والمبشرين المسيحيين كانوا يثلبون الديانات الشرقية كمجرد خرافات.
في المعنى الاصطلاحي: علم يقضي بمسائل الشرق ودراسة وتحليل واقعه، وبعبارة أخرى: هو الدراسات التي تتعلّق بالشرق. أمّا المعنى اللغوي للفظ (شرق) بالإنجليزية فهو (بالإنجليزية: Orient)، والدول الشرقية تسمّى (The orient)، والإنسان الشرقي (بالإنجليزية: Oriental)، وكلّ من يبحث في تاريخ الشرق وأحوال أُممه يُدعى (بالإنجليزية: Orientalist) أو مستشرق.
ظهور الاستشراق
يعتبر الاستشراق حديث الظهور إلاّ أنّ معرفة الشرق وما يتعلّق به من أفكار فذلك يعود إلى الأزمان الغابرة، ويؤيّد ذلك ما عثر عليه في التنقيبات من النقوش الأثرية على الأحجار، ثمّ تلت ذلك حركة الاستشراق في القرون الوسطى، لتؤكّد ذلك من خلال الوقائع التاريخية والنصوص الجغرافية، وكتب الأسفار وغيرها.
أمّا ما هو الزمن الذي أخذ فيه الاستشراق نموّه الحقيقي، وأصبح علماً يُدرّس، فيمكن القول: إنّ المساعي التي بذلها الباحثون من إيطاليا وبريطانيا والبرتغال لدراسة الشرق، كان في القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، وكان من بينهم على سبيل المثال توماس هربرت.
كان هذا الباحث الشاب ذكياً وماهراً، استطاع الوصول إلى السواحل الجنوبية لإيران قادماً من الهند، بالتنسيق مع السفير البريطاني آنذاك، فبدأ بكتابة بحوثه حول إيران والإيرانيين. في القرن السابع عشر والثامن عشر أخذ الاستشراق بالانتشار حتّى أنّ كتاب (كلستان سعدي) طبع لأوّل مرّة في أوروبا خلال تلك الفترة.
ومنذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي أصبحت مدينتا لندن وباريس من المراكز الرئيسية في تدريس الاستشراق، ثمّ توسّع حتّى أصبحت أكثر البلدان الأوربية في الوقت الحاضر لديها معاهد خاصّة بتدريس الاستشراق بجميع أقسامه، وتخرّج في كلّ عام أعداداً كبيرة من الأساتذة، الذين يغذّون البحوث والدراسات في أوروبا في مجال الاستشراق.
أقسام البحوث والتخصّصات
يمكن تقسيم البحوث التي كتبها المستشرقون إلى ما يأتي: التاريخ، الاقتصاد، الجغرافية، اللغة، الآداب، علم الإنسان، الفنون، الأديان، الفلسفة، علم الآثار.
أمّا الفروع الموجودة في الجامعات الغربية، والتي اختصّت بدراسة تاريخ الأُمم السابقة وأحوالها، فهي: فرع دراسة المصريين، فرع دراسة الآشوريين، فرع دراسة الإيرانيين، فرع دراسة العرب، فرع دراسة الأتراك، فرع دراسة الصينيين، فرع دراسة الهنود، فرع دراسة اليابانيين، فرع دراسة الساميين والسومريين.
ملاحظة: توسّع قسم دراسة أحوال المصريين حتّى شمل جميع أنحاء القارة الأفريقية.
المستشرقون الحقيقيون
إنّ الذين جاءوا لدراسة الشرق كانوا أفراداً متفاوتين، فمنهم من جاء بلباس عسكري أو غير عسكري، أو بصفة أطباء أو معلّمين، لكنّهم في حقيقة الأمر قساوسة كان هدفهم التنصير بالدين المسيحي، وكانوا يتردّدون بكثرة على لبنان وسورية ومصر. ظلّت حركة الاستشراق موضع شكّ لدى الكثير، وبسبب هذا الغموض انقسم الناس نحوها إلى فريقين:
الأول: ينظر إلى المستشرقين بعين الاحترام.
والثاني: ينظر إليه على العكس من ذلك، لأنّه كان من بينهم أُناس مهّدوا للاستعمار الغربي، وكانوا أداة لتسلّط الغرب على الشرق، كما لا يخفى أنّ منهم جماعة دفعهم شوق التعرّف على الشرق وأسراره، وتحمّلوا في سبيل ذلك كثيراً من الصعوبات والمشاق. وعلى أيّ حال مهما كانت الأغراض والدوافع التي دفعت للاستشراق، فإنّ الاستشراق شيء، والمستشرقين شيء آخر.
منقول