أين أنا من الحقيقة
من أنا؟ هل أعرف نفسي؟ تعلمت قليلاً . امتلكت ثروة كالبحر، وأنا الآن واضع يدي على أرض يجري فيها الذهب أنهاراً. حاولت أن أخرج من بدائيتي الزراعية إلى عالم الصناعة والآلة. حاولت أن أدخل العالم الحديث...
لكن هل أستخدم السيارة حقاً أم أنني أستخدم فرساً من حديد؟
هل أقود الطائرة حقاً، أم أنني أقود "إحدى أعاجيب الفضاء"– شيئاً غريباً "نصفه طير ونصف بشر" هل تعلمت الهندسة حقاً، أم أنني أخذت شهادة تزينت بها كالوسام؟
هل أستخدم الطاقة الكهربائية، أم أنني أستخدم شموعا من الزجاج ومصابيح تشتعل بلا زيت؟
هل الدولة التي أبنيها نظام حقاً، أم هي قبيلة ثانية؟
هل ما أسميه نهضة أو ثورة أو إنقلاباً، نهضة أو ثورة أو إنقلاب بالفعل؟
الفكر العظيم ، وحده ، يصنع القضايا العظيمة. هل أنا في حياة لا تعرف الفكر العظيم؟ ليس لها، إذن ، قضية عظيمة ، ليس لها إذن عمل عظيم ؟
وإن قلت إنني مفكر، أتساءل أين أنا موجود وكيف ؟ أين مجال تأثيري وفعلي، وأية سلطة لي، وما القيم التي أنشأتها؟ الحرية؟ العدالة؟ المساواة؟ المحبة؟ البحث؟ التساؤل؟ هل دافعت عن الفكر، أم عن أفكاري أنا وحدي؟
هل اضطهدت أو سجنت من أجل إقامة الفكر وحق الفكر، أم أخون كل فكر غير فكري وأنفيه؟ وإن كنت أخون كل فكر في بلادي غير فكري، أفلا يعني هذا أنني جزء من وطن خائن بمعنى ما، ومن شعب خائن بمعنى ما، وأنني قابل جاهز كل لحظة لأن أكون، بدوري خائناً ؟
وحين خونت غيري هل كنت أميناً، وهل كنته بقوة حقيقة أم بقوة الشعب أم بقوة السيف؟ وبأي أسلوب حكمت على غيري : بالحوار والإقناع أم بالسجن والرصاصة؟ وما مقياسي في الحكم عليه؟ وهل السلطة التي حكمت بها عليه سلطة السجن، أم سلطة العقل؟ وحين نفيته ماذا أثبت؟ وحين قلت إنه طاقة هدم وسلب فهل كنت أنا طاقة إيجاب وبناء؟
هل أنا شخص آخر؟ هل يحيا في أسلافي الذين ابتكروا الأبجدية، وقرءوا المحيطات، ومدوا قوس الحضارة تتلألأ بين سمرقند وغرناطة، أم الخصي القهرمان، المملوك هو من يحيا؟
هل أنا في يقظة حقاً، أم في وهم لليقظة وأحلامها ... في انحطاط خصيب أخضر؟
هل أنا إنسان كان، لا إنسان يكون؟ إنسان اكتمل منذ ولادته. الزمن ليس مجالاً لتحوله أو لصيرورته ، بل وسيلة لاستعادة كماله. ولأنه المستعيد أبداً، يحول نظره عن الواقع. يؤوله مثالياً: الفقر مثلاً، امتحان النفس، لا خنق للإنسان. الانكسار نكسة لا هزيمة. ليس العدو المباشر هو من يغلبني. يغلبني العدو الآخر، غير المباشر المستتر.
هل أنا فكر لا يعني بالموضوع، وإنما يعني بعلاقته الشخصية مع هذا الموضوع؟ لا يرى من الأشياء والموضوعات إلا التماعاتها وجوانبها. فكر يتنزه، لا فكر يبحث. يحول الأشياء إلى انفعالات وانطباعات، لا إلى قضايا .
كل شيء يصير نسبياً، جزئياً: الحقيقة هي التي يعلنها هذا الفرد أو ذاك، وما عداها باطل. الحرية هي هذه لا تلك، وما عداها الفوضى أو ما يشبهها. والحق هو أنا لا هو. هو يصير حقا حين يفنى في ما أريده .
هل أعيش في نسيج زماني خالص، في معزل عن الأرض؟ هل المكان عندي جسر؟ هل هو اصطلاح لفظي وحسب؟
هل الأرض عندي لكي أزرعها وأستمتع بخيراتها وحسب، وليست جزءا حياً من جسدي، وبعداً من أبعاده؟ هل الأرض بالنسبة إلي متساوية، ولهذا أحب الهجرة وأتأقلم حيث أكون وأذوب؟
هل الأرض فرس ثانية أمتطيها في طريقي نحو الآخرة.. وإذا ماتت الفرس أو قتلت أو سرقت.. هل سأستمر في سيري؟
هل حين أدافع عن المكان الذي أسكنه أدافع حقاً عن الأرض، أم عن ملكي على هذه الأرض؟ هل الأرض كالملك: تتبدل، تنقص، تزيد... تتضمن إمكان أن تزول– تتضمن، لذلك إمكان التخلي عنها ؟
هل أنا نموذج "المهاجر"؟ لا تهمه الأرض، بل يهمه أن يظل في هجرة. الأرض التي يحبها هي الأرض التي تطيب له، لا التي ولد فيها، بالضرورة ؟
ثمة سهولة عندي أن أترك بيتي. كأنني مستعد أن أموت في سبيل فكرة ما، لا في سبيل أرض ما. كأنني في اللوغوس، في المطلق، في اللغة، لا في الطبيعة.
هل أنا نموذج تراجيدي من نوع فريد؟ ليست الأرض لي مستقراً، بل ممر.
أحب المندفعين معي من الماضي. أكره الآتين من المستقبل ومن المجهول. أحارب لأسترجع حرية مروري على الأرض، لا الأرض ذاتها. ليس وطني هنا الآن– بل الآخرة التي تلتقي بالماضي في مكان آخر من نوع غير أرضي.
هل أنا شخص ينظر إلى الشعب نظرته إلى الأرض ؟ الشعب كالأرض ممر هجرة. أحارب لا لأنقذه ، بل لأنقذ فيه وعليه .
الشعب قناع لي، لباس، سلاح . يتغير لون القناع، يتمزق الثوب، يتكسر السلاح: كذلك الشعب. يهمني أن أبقى متسلحاً مقنعاً، لابساً بشكل أو آخر .
أنا "الملك" – قيمة ثابتة والشعب قيمة متحولة. أنا الأصل وهو الظل. ألذلك أتراجع بين قطبين: ملك وشحاذ، طاغية وسجين، نبي ودجال؟ هل فوق الإنسان ودونه في آن؟ العالم، لذلك فوق طاقتي ودونها في آن. كأنني أحيا خارج العالم .
هذه الأسئلة وما يشابهها تحتم عليَّ إعادة النظر في كل شيء.
الأخ يوسف يونو عجم الراهب
الرهبنة الأنطونيّة الهرمزديّة الكلدانيّة