بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته




(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (يونس /54).
لكل فعل وموقف يفعله الانسان ويتخذه عاقبة ونتيجة.. والعاقبة هي نتيجة طبيعية لذات الفعل والموقف.. والنتيجة والآثار التي يتركها الفعل والموقف الانساني لها بعدان.. بعُد في العالم الخارجي.. كما في الوضع الاجتماعي و الاقتصادي و الصحي و السياسي و الامني.. الخ. وبُعد يمثل طبيعة الاستجابة النفسية ورد الفعل النفسي للفعل والموقف.. فمن يفعل الخير والمعروف.. يشعر بالرضا والسرور عن فعله وعمله.. ويزداد نشاطاً نفسياً وروحياً واقبالاً على افعال الخير والمعروف.. ومن يفعل الشر والاذى والاساءة لنفسه وللآخرين، ثم يستفيق وعيه وضميره يشعر بتأنيب الضمير والندم والمعاناة النفسية نتيجة فعله السيئ الشرير.. والندم هو شعور بالحسرة والالم النفسي والوجداني على امر فائت.. ويتمنى النادم لو انه لم يفعل ذلك الفعل الذي جلب له الحسرة والالم والندامة، ولكن بعد فوات الاوان ووقوع الكارثة.. كمن يقتل نفسا، او يغتصب مالاً، أو يظلم احداً، أو يؤذي بريئاً.. ثم يستفيق ضميره ووجدانه او يرى العذاب والمصير المظلم، فيرى سوء ما فعل ارتكب من جريمة وعدوان فيندم، وتنهش الحسرات أعماق نفسه..
والندم عذاب الضمير، وعقاب النفس المنطلق من الوعي الباطن عند مرتكب الجريمة.. عند من ضيع الحق، وارتكس في اوحال الباطل..
والقرآن يفيض علينا بالوعي والثقافة السلوكية، والارشاد النفسي فيدعونا الى أن نتسلح بالوعي والفهم العميق والدقيق للمواقف والاعمال والاقوال التي تصدر عنا فنقيمها ونزنها ونقدّر عواقبها ونتائجها قبل أن نقدم عليها؛ لئلا تكون العاقبة هي الحسرة والندم على ما فعلناه.. فالمغرور الذي ركبه الطغيان والغرور.. غرور الثروة والمال والسلطة والقوة والشهوة فاندفع بلا وعي ولا تقدير لأفعاله ومواقفه فارتكب الجرائم والمعاصي والعدوان على الآخرين، أو وضع نفسه في مواضع فوق طاقته اوستحقاقه وقدره، أو اندفع تحت ضغط الشهوة والغضب والانفعال.. أو لم يلتزم بأصول العمل ومراعاة نظم الحياة وقوانينها، فأعقب الحسرة والندم.. فكم من شخص ذهب ضحية الشهوة المحرمة.. وكم من شخص ذهب ضحية العجلة وسرعة السير.. وكم من شخص ضيَّع امواله واهله واسرته بسوء تصرفه.. فأصبح يقلّب كفه ويعض على يديه حسرة وندماً.. ويتمنى لو انه استمع الى نصيحة من نصحه، او اتعظ بغيره، اأو التزم باحكام الشريعة وارشادها أو عاقه عائق فلم يفعل.. ولكن بعد فوات الأوان.. فبقي هذا المخطئ فريسة للحسرة والندم والملامة، وضحية لسوء تصرفه ودوافعه الشريرة..
والقرآن يتحدث عن اولئك الخاطئون العصاة.. الذين كفروا بنعم الله وسخروا من شريعة الله وحاربوا الحق.. وظلموا وأجرموا وطغوا وبغوا في البلاد، ويصور لنا عاقبتهم في الدنيا والآخرة، ويحذرنا من الكفر والظلم والمعصية والطغيان.. ويصور لنا عظم هذه المعاصي على الانسان يوم الحساب والجزاء.. ان هذا الانسان يود لو انه ملك الدنيا التي نازع الناس عليها وسفك الدماء وهتك الحرمات، ومارس الوان الظلم والطغيان من اجلها.. يود لو انه يستطيع ان يقدم كل ذلك مقابل دفع العقاب وانقاذ النفس.. وها هو يصطلي بنار العذاب، وبجحيم الحسرة والندم..
ذلك ما نقرأه في قول الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (يونس/ 54).
ويتوالى تحذير القرآن وانذاره من الغفلة وعدم التهيؤ ليوم الحساب والجزاء، ومن ان يندم الانسان بسبب افعاله السيئة وجرائمه وظلمه ومعصيته لخالق الوجود.. ويسمى ذلك اليوم بيوم الحسرة على الظالمين والعصاة والمجرمين.. جاء هذا التحذير في قوله تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (مريم/ 39).. لقد فات الأوان، وانتهت فرصة التلافي، وهم في غفلة ساهون.. فلا ينفع الندم..
ويتحدث القرآن عن ندامة الاتباع لابتاع قياداتهم الضالة المنحرفة التي خدعتهم وضللتهم وجنت عليهم واوصلتهم الى الهاوية في الدنيا والاخرة، واصبحوا مجرمين ومعذبين بسبب هذا الاتباع، وتلك القيادات..
كلّ هذا التثقيف القرآني ليعي الانسان مسؤوليته في اختيار العقيدة والجماعة والقيادة التي ينتمي اليها.. لاسيما ذلك الانتماء الذي يقرر مصيره..
نقرأ ذلك في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ/33).
وفي موقع آخر يحذّر القرآن ويكرر التحذير من قيادات السوء الذين يخدعون البسطاء والاتباع، ويجعلونهم سلماً للوصول الى اهدافهم، فاذا واجهوا ساعة الندم والعقاب، وخسروا ما كانوا يوعِدون به، أو ما قد حصلوا عليه من حطام الدنيا من السلطة والمال والوجاهة وغيرها، تبرأوا من اتباعهم، وراحوا يحمّل بعضهم بعضاً اسباب الكارثة ويلعنه، ولكن بعد فوات الأوان، وقد احاطت بهم الحسرات وساعة الندم..
لنقرأ مرة اخرى بيان الوعي والنذير: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة/ 167).
ويتواصل تحذير القرآن وتثقيفه وتوعيته في قضية عقيدية وسياسية واجتماعية خطيرة، وهي قضية الولاء.. فكما تحدث عن الولاء للقيادات الظالمة والمنحرفة التي تقود الى الندم والحسرة كذلك تحدث عن الولاء المزدوج.. والنفسيات القلقة في ايمانها وولائها للاسلام والمسلمين، والتي تبطن الولاء لاعداء الاسلام والمسلمين العقيدين.. كشف لنا القرآن عن الظاهرة النفسية المرضية والنفاقية بقوله: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) (المائدة/ 52).
وبذا يوضح القرآن ان اصحاب هذه النفسيات المزدوجة الولاء.. المذبذبين في عقيدتهم ومواقفهم، يبحثون عن المكاسب المادية والسياسية والاجتماعية ويتخذون العقيدة ستاراً ووسيلة لتحقيق اهدافهم الدنيوية.. ينطبق عليهم قول الشاعر:
لا خير في ود إمرئٍ متلون****إذا الريح مالت مالَ حيثُ تميلُ
ان هؤلاء سيكون الندم والحسرة عاقبة مواقفهم وانتماءاتهم المضطربة عندما يتحقق الفتح والنصر للحق..
ويشخص لنا القرآن حالة اخرى من حالات العداء للعقيدة ولمصالح الامة ولأمنها واستقرارها التي تعقب الحسرة والندم والعقاب.. وهي ظاهرة الانفاق المالي في سبيل الشيطان ومحاربة الحق والعدل والايمان.. ان هؤلاء المتمولين، أصحاب المال والثروة التي ينفقونها ليصدوا الناس عن الايمان، وعن مناصرة الحق، ولنشر الكفر والفساد والطغيان.. ان اولئك سينفقون هذه الاموال، ثم يغلبون، ثم تكون اموالهم واعمالهم حسرة عليهم.. وتلك دعوة الى ان ينفق المال لنصرة الحق، ونشر دعوة الهدى وقيم الاخلاق واصلاح المجتمع، كما هي دعوة لردع اولئك المنفقين اموالهم لنصرة الباطل والضلال والعدوان والفساد..
ويتواصل بيان القرآن وتثقيفه وتوعيته للانسان، محذراً من التأثر بقرناء السوء، ومن يعاشر الانسان من الناس السيئين ويخالطهم ويتأثر بطباعهم وعقائدهم واخلاقهم السيئة.. ويصور هذا الانسان الذي صار ضحية الاستماع الى اولئك الناس والتقبل منهم.. يرسم صورته المأساوية، وهو يعض على يديه ندما وحسرة، ويتمنى لو انه لم يتعرف على هذا المجرم الذي قاده للجريمة، وجعله ضحية الانحراف والمعصية.. يتمنى لو انه استمع الى كلمة الحق وهدي النبوة وتخلق بمكارم الاخلاق.. ولكن بعد فوات الاوان؛ لذا يحذر القرآن الانسان ويدعوه لان يبتعد عن الظلم والكفر والفساد، ويتخذ مع الرسول (ص) الذي جاءه بالهدى سبيلاً..
تلك الصورة نقرؤها مجسده في تصوير القرآن المعبّر بنصه:
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا) (الفرقان/ 27ـ29).
وصورة اخرى من صور الحسرة والندامة ينقلها القرآن لنا مُعبّرة على لسان المجرمين والعصاة والكافرين عندما يقرأون سجل اعمالهم، وصحيفة جرائمهم ووثائق ادانتهم.. ما كان قولهم: لننصت اليهم عبر بيان الكتاب الالهي الامين: (أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ* يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) (الحاقة/ 25ـ27).
بل تشتهد الحسرة والندامة واحتقار الذات، عندما يرى هذا الانسان العاقبة والمصير المخزي.. يتمنى لو انه كان تراباً.. نطأه الاقدام، ولا يلقاقي ذلك العذاب والمهانة..
(إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) (النبأ/ 40).
ولسوء ما يلقاي هؤلاء المضيعون واللاهون والعصاة الذين لا يعيدون الحساب والتقييم ونقد الذات.. لسوء ما يلاقي هؤلاء من العقاب والعذاب والخسران، يطلق القرآن الحسرة عليهم فنستشف منها الرحمة واللطف الالهي بالعباد، والحرص على هدايتهم وخيرهم واصلاحهم، وتجنيبهم الشقاء والعقاب في الدنيا والاخرة.. ذلك ما نقرأه في قوله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ* أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ) (يس/ 30،31).
كلّ هذه التعبئة الثقافية والتحذير وسوق الامثال.. كلّ ذلك ليحذر الانسان مما يقوده الى الحسرة والندامة في كلّ مجال من مجالات الحياة.. و: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق/ 37).