أعظم الرجال من زاد أباه شرفاً، وأطال في عمره ذكراً، وحَسَّنَ بين الناس سيرته، وجمَّلَ بين العبادِ مظهره، وزين في العيون صورته، وغرس في القلوب محبته، وجعل الناس يترحمون عليه في الحياة وبعد الموت، أنه ترك من بعده خلفاً، يسر الناظرين مظهره، ويسعد السامعين منطقه، وترضي الحائرين كلمته، ويقول صدقاً، وينطق حقاً، ويتحدث دراً، ويفصل حكماً.
أَعْظِم برجلٍ افتخر بأبيه، واعتز بالنسب إليه، وأبقى على اسمه علماً يتوسط اسمه والعائلة، ليقول لكل من يسمعه أو يقرأه، أنا ابنه وهو أبي، وهو والدي الذي رباني، وهو الذي منحني وأعطاني، وهو الذي سماني وكناني، وهو الذي علمني وأدبني، فأحسن تأديبي، وأكرمني من فيض عطائه، وعظيم حبه وحنانه.
هنيئاً لكلٍ مفتخرٍ بأبيه ومعتزٍ به، يرفع به رأسه زهواً، ويتعالى بالانتساب إليه أمام العالمين شرفاً، ويرى نفسه دون أبيه مكانةً، وأقل منه وجاهةً، وأحوج إليه صديقاً، وأنه به يكتمل، وبذكره يُعرف، وبحضوره يكون، وفي وجوده يعرف الناس قدره ومقامه.
وبئس الرجل الذي يخجل من الانتساب لأبيه، أو يعيبه أن يُلحق به، ويكره أن يُذَّكره الناس به، أو يقرنون اسمه باسمه، ولا يقبل أن يراه الناس معه أو عنده، ويشعرون بالخزي من مظهره وهيأته، ويغمضون عيونهم خزياً من ملبسه أو مشيته، ويرفضون أن يدخل بيتهم ساكناً أو زائراً، وإن حل فللحظاتٍ لا تطول، ولبرهةٍ لا تمتد، واقفاً لا يجلس، أو جالساً لا يرحب به ولا يكرم، على الباب ينتظر الرحيل، مخافة أن تغضب الزوجة، أو يجرح مشاعرها وجوده، أو يتلف مال زوجها إن أعطاه، أو ينقص من حاجاتها إن منحه.
وتعساً لرجلٍ أساء إلى سمعة أبيه وأضر به، وجرأ الناس عليه، ودفع السفهاء للإساءة إليه، والحط من قدره، والتقليل من شأنه، وسهل سبه وشتمه، وإلحاق الأذى به وبنسله، ولعنه وخلفه، أنه كان السبب في أولاده، فما أحسن تربيتهم، ولا أجاد تعليمهم، ولا أفلح في تأديبهم، فكانوا سبةٌ بين الناس، وفحشاً في المجتمعات، وعيباً لا يستره مالهم ولا عظمة سلطانهم، ولا قوتهم ولا سطوة لسانهم، وإن بدوا أمام الناس بثيابٍ قشيبة، ومظاهر أنيقة، ويركبون السيارات الفارهة، ويسكنون البيوت الوارفة.
غفر الله لكل أب، ورحم كل والدٍ، وحفظ الأحياء منهم، وتغمد الراحلين بواسع مغفرته، وعظيم رحمته، وجعلهم في جنان الخلد فرطاً لأبنائهم، وسابقين لفلذات أكبادهم، يشفعون لهم، ويدعون الله لهم بالرحمة والمغفرة، وبالتوفيق وحسن الخاتمة.
رحمة الله عليك أبي، رحمة الله عليك في الخالدين، وجعلك وكل أبٍ في جنان الخلد، في الفردوس الأعلى، مع الرسول الأكرم وأصحابه الأخيار، الغرُ الميامين.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
د. مصطفى يوسف اللداوي