كان يرتعد من البرد ومن شيءٍ آخر ولعله الخوف.
كان يتحرّك في الحانوت كالواقف في مكانه، خطواته وئيدة وثقيلة، حركاته بطيئة وبليدة، وكانت أوامر مُشغّله، أي معلّمه كما يسمونه والتي هي أقرب إلى الزمجرة، تضيف ارتباكاً إلى ارتباكه، أما هو فكان يقابل هذه الزمجرة بلا مبالاة وكأنه اعتاد عليها أو لعلّها أقل وطأة من تلك التي اعتاد عليها في بيته.
من هو: انه طفل في العاشرة أو الحادية عشر من عمره ومن إحدى قرانا، يقول انه تعلّم بعض هذا العام الدراسي وفي الصف الخامس الابتدائي ويؤكد أنه أنهى الصف الرابع الابتدائي في العام الدراسي المنصرم ومع سائر أترابه.
أما كيف وصل إلى هذه الحانوت فأنه لا يعرف بالضبط، أنه يعرف أنه موجود داخل حانوت بقالة في المدينة المجاورة ويذكر أن والده كان قد أتى به إلى هذه المدينة ظاناً أنه سيأخذه إلى حديقة البلدية حيث الألعاب المسلية، ولكن بدلاً من ذلك فقد قاده إلى هذه الحانوت وسلّمه إلى الحانوتي «المعلم»، لقاء دراهم معدودة يقبضها الوالد آخر كل شهر. قلت له بعد أن شاهدت هذا المنظر المأساوي والذي هزّني من الأعماق هزّاً وبعد أن اختفى المشغل داخل حانوته لبعض الوقت:
ما اسمك وابن من تكون ومن أي بلدةٍ أنت؟ اسمي سعيد واسم أبي عبد الرؤوف وأنا من قرية (ع).
قلت في نفسي يا للغرابة: أيكون هذا الطفل سعيداً وأبوه رؤوفاً؟!! وهل لك أخوة؟! نعم أخت وأخوين اثنين، أختي وأخي يتعلمان في المدرسة وأخي يعمل مثلي... قلت له: وأنا أطلب منه أن يناولني قنينة عصير برتقال وبعد أن شعرت أنه اطمأن إلي قلت: هل تحب هذا العمل؟ فأجاب بحسرة ومرارة: لا... وأردفت: والمدرسة هل تحبّها؟ّ طبعاً. هل تتوسط لدى والدي أن يعيدني إلى المدرسة لأتعلم وألهو مع رفاقي. قلت وقد رأيت قطرات دمعٍ وقد انهمرت من عينيه وسقت وجنتيه:
أعدُك بأنني سأتصل بوالدك بعد أن تزودّني بعنوان والدك الكامل. خرجت من الحانوت وفي نفسي لوعةٌ ونقمةٌ على الأب وعلى المشغّل اغتيالهما طفولة سعيد وبراءته، خرجت وأنا أساءل نفسي:
ما ذنب هذا الطفل البريء، هذه النبتة الغضّة، ما الذي جناه حتى يُعاقب بمثل هذه العقوبة القاسية الصارمة، أو ليس من قانون يحمي هذا الطفل البريء والكثيرين مثله ويعاقب هذا الأب، ومن هو على شاكلته وهذا المشغّل وأمثاله الذين قست قلوبهم ونُزعت الرحمة من صدورهم... وضابط الدوام المنتظم، الموظفون المعنيّون من قِبل السلطات البلدية والمحلية والمسؤولون عن انتظام دوام الطلاب في المدارس أين دوْرَهم؟! وأين مسؤوليتهم؟!
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
(باقة الغربية)
بقلم: الأستاذ حسني بيادسه