كيف نحمل اليوم رسالة الحسين (ع)؟..
يظن البعض أن مسألة النهضة الحسينية واقعة تاريخية، انتهت بموت العناصر المتواجهة فيها، وهذا خطأ جسيم.. فكما أن تاريخ المواجهات لم يمت -طوال التاريخ- بين الأنبياء وأعدائهم، ومن هنا جعله القرآن عبرة لأولي الألباب، فكذلك قضية الحسين (ع) خالدة؛ لأن منهجه -منهج المواجهة مع الظلم الفكري والعملي- لا زال حياً ماثلاً للجميع.. فمتى مات الباطل، لتموت المواجهة معه؟.. يمكن تقسيم حياة الحسين (ع) إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: هي الفترة التي عاش فيها مع أبيه علي (ع) وأخيه الحسن (ع).. فالذي يميز هذه المرحلة نقطة ملفتة للنظر؛ ألا وهي التعبد المحض لإمام زمانه.. إن الحسين (ع) في زمان أخيه الحسن (ع) كان رمزاً لطاعة إمام زمانه، رغم أنه يشترك مع أخيه في صفة السيادة لأهل الجنة، كما ورد عن رسول الله (ص): (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، ويشترك معه أيضا في صفة الإمامة: (الحسنُ والحُسين؛ إمامان: إنْ قاما، وإنْ قعدا).. ولهذا نراه يتعامل مع أخيه الإمام؛ معاملة المأموم.. انظروا إلى أدب الإمام في حياة الإمام الذي يعيش معه!.. تقول الرواية: (لما بويع معاوية خطب فذكر علياً -عليه السلام- فنال منه، ونال من الحسن -عليه السلام-، فقام الحسين -عليه السلام- ليرد عليه، فأخذ الحسن -عليه السلام- بيده، فأجلسه ثم قام فقال: "أيها الذاكر علياً!.. أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة.. فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً").. هذه حركة وموقف من مواقف الإمام الحسين (ع).
فإذن، إن الإمام الحسين (ع)؛ يعطينا درسا في التعبد، والخضوع المحض، أمام إمامه.. وهذا درس لنا في زماننا المعاصر، وهو أن نعيش حالة الطاعة المطلقة لبقية الماضين من سلسلة الأئمة الإثني عشر.. وثمرتها في زمان الغيبة، هو الرجوع إلى المجتهد: الصائن لنفسه، والمطيع لمولاه، والمخالف لهواه، كما ورد في الحديث الشريف: (فأما من كان من الفقهاء: صائناً لنفسه، حافظا لدينه، مخالفاً هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلدوه).
المرحلة الثانية: هي الفترة التي عاشها بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن (ع).. وهنا تبدأ المرحلة التدريجية من حركته (ع)،فكانت بداية الحركة من المدينة، عند المواجهة مع عتبة ابن أبي سفيان.. إذ أعلن الرفض كلمة قاطعة، وبين للأمة أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر أبداً، حيث قال: (يا عتبة!.. قد علمت أنا أهل بيت الكرامة، ومعدن الرسالة، وأعلام الحق الذين أو دعه الله عز وجل قلوبنا، وأنطق به ألسنتنا، فنطقت بإذن الله عز وجل.. ولقد سمعت جدي رسول الله يقول: إن الخلافة محرمة على ولد أبي سفيان، وكيف أبايع أهل بيت قد قال فيهم رسول الله هذا)؟!..فالإمام (ع) رأى بأن هذه الشجرة، ينبغي أن تُفضح، من خلال الثمرة.. أراد أن يُبين للأمة ثمرة هذه الشجرة، التي زُرعت في غير أرضها، والتي لا يُرى منها إلا الأغصان والأوراق، ولعلها أوراق جميلة مُلفتة وزاهية.. وهي الشجرة المعروفة في القرآن الكريم.
فإذن، إن الحسين (ع) بحركته الخالدة التي تعرض فيها هو وعياله لما قل مثيله في التاريخ -سواء قبل الاستشهاد وحينه وبعده- أراد أن يبـّين للأمة ثمرة الغرس الذي نشأ بعيداً عن: نمير الغدير، ودوحة المباهلة، وواحة الثقلين.. ولولا هذه الهزّة العنيفة لضمير الأمة، لسارت الأمور في مجرى آخر لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.. ومن هنا نعلم معنى قول النبي (ص): (حسين مني، وأنا من حسين).
المرحلة الثالثة: وهي الفترة التي عاشها بعد خروجه إلى كربلاء.. وهنا علينا أن نستلهم الدروس، وإلا فإن التفاعل مع مصائبهم (ع) يكون في أي وقت.. البعض يذكر أهل البيت (ع) في عمله فتجري دموعه.. كما أنه يذكر الله فيخشع، كذلك يذكر أهل البيت وما جرى عليهم؛ فيبكي أيضاً.. وهذا الخشوع وهذا البكاء؛ متصل بذلك البكاء؛ لأنهم جسدوا عبودية الله -عز وجل- في الأرض.
الدرس الأول: العبودية.. إن مأساة الحسين (ع) بدءً من خروجه من المدينة، إلى عودة سباياه إلى المدينة مرة أخرى، وما بينهما من الأحداث الجسام، رغم تعدد ألوانها المأساوية، إلا أنها مصطبغة بلون واحد، وهو العنصر المميز لكل حركته، ألا وهي العبودية المطلقة لله رب العالمين، وهي تتجلى تارة: في مناجاته مع رب العالمين يوم عاشوراء: (هوّن ما نزل بي، أنه بعين الله تعالى).. وتارة في صلاة أخته زينب (ع) في جوف ليلة الحادي عشر من محرم.. وتارة في مناجاة السجاد (ع) مع ربه، والأغلال الجامعة في عنقه الشريف!.. ما هذه العبودية؟.. زينب (ع) ترى تلك المناظر المفجعة، التي لا تتحمل أبداً، ومع ذلك عندما تعلق على هذه الأحداث تقول: (ما رأيت إلا جميلاً)!..
فإذن، إذا أردنا أن نتأسى بهؤلاء، فعلينا بتعلم درس العبودية في كل الأحوال: الرضا بالقضاء والقدر، والتسليم لأمر الله -عز وجل- في كل الحالات.
الدرس الثاني: حمل هم الدين.. من معالم الثورة الحسينية، حرص سبايا الحسين (ع) على تبليغ رسالته، في شتى الظروف القاسية، وذلك بمنطق المنتصر، وان كان مغلوباً ظاهرا.. فهذه زينب (ع) يصفها الراوي: ما رأيت خفرة (أي شديدة الحياء) بأنطق منها!.. فإنها جمعت بين: كمال الالتزام بما تمليه الشريعة على الأنثى عند حديثها مع الرجال، وبين بيان المنهج الفكري الذي ينبغي أن ترجع إليه الأمة، والتي من أجلها ضحى أخوها الحسين (ع) بنفسه.
قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي -عليه السلام- يومئذ، فلم أر خفرة قط أنطق منها.. كأنها تفرغ من لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس.. ثم قالت: (الحمد لله، والصلاة على جدي محمد وآله الطيبين الأخيار.. أما بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟!.. فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزالها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذرون أيمانكم دخلاً بينكم.. ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف، والصدر والشنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء؟!.. أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.. أتبكون وتنتحبون؟!.. إي والله فأبكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا.. وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شاب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفرغ نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدرة سنتكم.. ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم سحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.. ويلكم يا أهل الكوفة!.. أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟!.. وأي كريمة له أبرزتم؟!.. وأي دم له سفكتم؟!.. وأي حرمة له انتهكتم؟!.. لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء.. وفي بعضها: خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض وملاء السماء.. أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون.. فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد).. قال الراوي: فوالله!.. لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم.. ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته، وهو يقول: "بأبي أنتم وأمي!.. كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يبزى".
نعم إنهم نماذج متكاملة في شتى الألوان، هذه زينب.. وأما فاطمة الصغرى -المفجوع لا يملك التركيز لشدة ما وقع، وأي فجيعة أعظم من فجيعة فقد الحسين (ع) ولكن هؤلاء نساء النبوة-!.. روى زيد بن موسى قال: حدثني أبي، عن جدّي (ع) قال: خطبت فاطمة الصغرى على أهل الكوفة، بعد أن وردت من كربلاء فقالت: (الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثَّرى.. أحمده، وأؤمن به، وأتوكل عليه.. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله -صلّى الله عليه وآله- وأن أولاده ذبحوا بشط الفرات بغير ذُحل ولا ترات.. اللهم!.. إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالب: المسلوب حقه، المقتول من غير ذنب -كما قتل ولده بالأمس- في بيت من بيوت الله تعالى.. فيه معشر مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته، ولا عند مماته حتى قبضته إليك: محمود النَّقيبة، طيبّ العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذهُ فيك اللهم لومة لائم، ولا عذل عاذل.. هديته اللهم للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً.. ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك -صلواتك عليه وآله- حتى قبضته إليك: زاهداً في الدنيا، غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك.. رضيته فاخترته، وهديته إلى صراط مستقيم...).
وخطبت أم كلثوم بنت علي (ع) في ذلك اليوم من وراء كلتها، رافعة صوتها بالبكاء فقالت: (يا أهل الكوفة!.. سوءة لكم، ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟!.. فتبا لكم وسحقا!.. ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم؟.. وأي وزر على ظهوركم حملتم؟.. وأي دماء سفكتموها؟.. وأي كريمة أصبتموها؟.. وأي صبية أسلمتموها؟.. وأي أموال انتهبتموها؟.. قتلتم خير رجالات بعد النبي (ص)، ونزعت الرحمة من قلوبكم.. ألا إن حزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون...).
ولكن تصل المصيبة قمتها عندما نرى كيف يُتعامل مع هذه الأبدان الطاهرة؟.. رحم الله زيد بن أرقم!.. هذا الموقف من زيد صحابي النبي (ص) موقف مشكور، عندما رأى الخيزرانة وهي تهوي على ثنايا أبي عبد الله الحسين، قال: (إرفع عصاك، فوالله!.. لطالما رأيت الرسول (ص) يقبِّل هذا الموضع).. ولكن هل سُمع كلامه؟..
إن الطبع البشري يميل إلى تخليد الذكر، وبقاء الأثر بعد الرحيل من هذه الدنيا الفانية.. ولا سبيل إلى ذلك، إلا بالارتباط بمبدأ الخلود.. فهو الذي لو بارك في عمل أو وجود؛ ربطه بأسباب الدوام والخلود، كما ورد في حديث قدسي:(إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت؛ وليس لبركتي نهاية).. وهو ما نراه متجليا في نهضة الحسين (ع).. ففي كل سنة تمر علينا ذكراه، وكأنها ذكرى جديدة، وسيبقى الأمر كذلك إلى ظهور الدولة الكريمة لولده المهدي (ع)، الذي يثأر لخط الظلم الذي بدأ بقتل هابيل، واستمر طوال التاريخ مرورا بكربلاء، إلى اليوم الأخير لما قبل الظهور