ميسان ليست مدينة عابرة يمكن تجاهلها وعدم الوقوف بحضرتها للتبرك تاريخيا على الاقل،
فهي وليدة سومر وعلى ضفافها ازدهرت اولى حضارات العالم، فطاف بها المستكشفون وهام بها الرحالة من كل حدب وصوب، حتى باتت اهوارها موئلا لهم، وفناجين مضايف اهلها مقرات اولئك السياح الدائميين،لا استطيع النكران ابدا لمتهميني بعشق هذه المدينة والميل الى الايغال بغرامها الى حد النخاع، فهي كاروك الدلول وصوت مسعود العمارتلي وهو يصيح(عزيزين بويه...والله عزيزين)، ولم يكن يسمّي الشاعر حين كتبها من هم العزيزون؟ انها كلمة جنوبية خالصة تلوكها ألسنة الصابئة والمسيحيين والمسلمين في هذه المدينة المتعايشة بطوائفها ومذاهبها واديانها وقومياتها ولم ولن تخدش جمالية لحنها الوحدوي اية موسيقى "داعشية" ناشزة،اي ميساني لا يفخر ويتباهى بعالم الفيزياء المندائي عبد الجبار عبد الله او بشاعرة العراق لميعة عباس عمارة، او بصائغ الملوك زهرون الملا خضر،او بعائلة حنا الشيخ وما انجبت،اووووووووووو..او تراني قد بالغت بمحبتي....فهي مدينتي.سمراء بلون الحنطة.. بطاقتها الشخصية تقول الاسم ميشا. اسم الأب : الهواء.اسم الام :الطبيعة.التولد ...قبل ثلاثة آلاف سنة ،الجنس :انثى ....الديانة:تعددت الاديان والرب واحد،القومية :عراقية حد الوجع .اللون :سمراء بلون الحنطة. العلامات الفارقة: الاهوار.رقم الهوية والسجل (1035ق.م)، هكذا يقول التاريخ ولست انا المتمادي بحب هذه المدينة. الحديث عن ميسان يطول ويتسع ولايمكن لتحقيق او استطلاع مهما طال او عرض يستوعب ماعاشته المدينة من احداث على مدى تاريخها الطويل، ولكن حديثنا سينحصر بالتعايش الاجتماعي الذي يميز هذه المدينة المتنوعة الاديان والقوميات والمذاهب،وعلى الرغم من ذلك لم تشهد اية حادثة تهجير او تمييز فيها في وقت شملت هذه الظاهرة جميع مدن العراق ،لكنها وبفضل وعي اهل المدينة حافظوا على وحدتهم وامنهم السلمي في جميع مناطق المحافظة المتحضرة والريفية.
ممثل طائفة الكلدان المسيحية في محافظة ميسان السيد جلال دانيال توما الذي بيّن أن في المحافظة توجد كنيستان هما كنيسة أم الأحزان للكلدان، وكنيسة مار يوسف للسريان، وعن أم الأحزان قال إنها أنشئت العام 1880 في منطقة المحمودية التي ضمت العديد من مكونات الشعب العراقي كالمسلمين الشيعة والسنة والمسيح والصابئة، ويتعايشون جميعا بهوية عراقية خالصة بعيدا عن أي تناحر أو تفرقة طائفية، مضيفا ان مساحة الكنيسة تبلغ (1600) متر مربع، المنطقة التي فيها الكنيسة كانت تسمى بالتوراة وحاليا يطلق عليها منطقة اليرموك، مؤكدا ان الجميع يمارسون شعائرهم بحرية تامة سواء كان مسلما أو مسيحيا أو مندائيا، وأوضح توما بأننا نحضر في أفراح إخوتنا المسلمين والصابئة وكذلك نحضر أحزانهم فنحن متشاركون ومتآلفون بالسرّاء والضرّاء، وكذلك بالمناسبات الدينية.
دعم حكومي مستمر
وعن الدعم الحكومي للكنائس بيّن توما أن الحكومة المحلية خصصت لكنيسة أم الأحزان مبلغا ضمن موازنة 2011 قدره (400) مليون دينار عراقي وذلك ببناء قاعة للمناسبات، وروضة مصغرة للأطفال وملحق خاص بالراهبات، وتم ترميم الكنيسة بطبقة من المرمر، وتأثيث الكنيسة وكذلك الروضة وقاعة المناسبات، وفي موازنة العام 2012، تم تخصيص (200) مليون دينار لإقامة السياج وبناء نافورتين وسط الكنيسة وتجديد أثاثها، مؤكدا ان المحافظ ورئيس مجلس المحافظة متعاونان جدا ويوليان عناية خاصة للكنائس الموجودة وكذلك المعابد على مختلف دياناتهم، ويؤكد توما انه على امتداد تاريخ الكنيسة لم تشهد مثل حالة الإعمار التي تمر بها الآن، وبالنسبة لكنيسة مار يوسف للسريان التي تضم العديد من اللوحات القديمة وكذلك القبور التاريخية، لكنها تعاني من الإهمال وتحتاج إلى ترميم مماثل لما حدث لكنيسة أم الأحزان،ولم اتمالك نفسي بالالتفات صوب الموصل الحبيبة، خاصة ان توما تعود جذوره الى تلك المدينة،وانا ارى هذا الاهتمام من قبل المحافظ علي دواي لازم بمعابد الاديان الاخرى ،وما تتعرض له تلك المعابد والمساجد على يد عصابة "داعش" الاجرامية، فمن المأساة ان تدمر تحفة معمارية جميلة مثل مرقد وجامع النبي يونس عليه السلام وكذلك مرقدا شيت وجرجيس والكنائس الجميلة التي هي شاهد على تاريخ وحضارة ام الربيعين.
المسلمون يؤدون الصلاة فيها
في قاعة المراسيم المشيدة حديثا شاهدت صورتين كبيرتين تمثلان السيد المسيح والسيدة مريم العذراء وكتب عليهما مهداة من احمد صابر راضي الساعدي، ولاحظت وجود سجادة صلاة وترب داخل القاعة، وحين سألت جلال دانيال توما عن مبررات وجودهن قال إن الكثير من المسلمين الذين يزورون الكنيسة يقومون بأداء صلاتهم في القاعة، مؤكدا ان الكنيسة هي ملك لجميع أبناء ميسان بمختلف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم، تمنيت لحظتها أن تأتي الطبقات السياسية الطائفية لزيارة تلك الكنيسة والتعلم من أبناء تلك المدينة قوانين المحبة والتعايش بهوية عراقية خالصة، ويذكر توما أن محافظة ميسان تضم 21 عائلة مسيحية يبلغ عدد أفرادها المئة وتتوزع ضمن مركز واقضية ونواحي المحافظة، ويبين توما ان عدد العوائل في السابق يبلغ 45 عائلة في عموم المحافظة، والعوائل تضاءلت الى النصف بسبب هجرة البعض خارج البلاد.
الكنيسة ملك جميع الأديان
وعن أصول العوائل المسيحية الموجودة هناك يشير توما إلى ان اغلب العوائل هي من محافظة نينوى وسكنت المنطقة منذ عقود مختلفة،وبشأن الزيارة إلى كنيسة أم الأحزان أكد توما أن العوائل المسلمة شيعة وسنة هي أكثر زيارة من العوائل المسيحية للكنيسة لاسيما يوما الخميس والجمعة، وكذلك تأتي عوائل من الصابئة لزيارة الكنيسة، فتجد على باب الكنيسة وجدرانها الحناء كنذور لمريم العذراء عليها السلام، وتجد عيدان البخور تملأ الجدران وكذلك الشموع التي تشعلها العوائل الزائرة تبركاً وتطهراً بهذا المكان المقدس وكذلك المكانيس، لان البعض منهم يقوم هو بكنس ارض الكنيسة طلبا للأجر والثواب، لأن أم الأحزان تعد ملكا لجميع الأديان الأخرى وليس للدين المسيحي فقط، فأدياننا جميعها أديان محبة وألفة وسلام كما يوضح توما، والتفرقة التي حصلت هي ظاهرة مستوردة وغريبة على مجتمعنا الميساني وحتى العراقي، والى الآن عشائر ميسان والمرجعيات الدينية والأحزاب تكنّ محبة خاصة للأقليات من غير أي تفرقة، فهم إخوة لنا ونحن أيضا نبادلهم الشعور ولن يتغير موقفنا إلى يوم الدين.
قبر المرحوم حنا الشيخ
وتجاور أم الأحزان كنيسة أخرى هي ماريوسف للسريان الكاثوليك وقد بنيت كما يقول توما العام 1940 على يد عائلة المرحوم حنا الشيخ وقد نقلت قبور حنا الشيخ وزوجته والعائلة إلى داخل تلك الكنيسة، والكنيسة الآن مهملة بل آيلة للسقوط وقبل فترة قام السيد المحافظ بزيارتها وبعد اطلاعه على حجم الضرر الذي أصاب الكنيسة اجتمع برئيس مجلس المحافظة وتم تخصيص مبلغ قدره (400) مليون دينار لإعادة تأهيل الكنيسة كما يقول توما، كما قام السيد وزير السياحة والآثار بزيارة الكنيسة وقد تم تشكيل فريق عمل مؤلف من محافظة ميسان ودائرة الآثار ومهندسين متخصصين لإعادة بناء الكنيسة وتأهيلها على صورتها القديمة وكلّفتُ أنا بالإشراف عليها بحسب قول توما.
استهداف الصاغة دفعهم للهجرة
معبد الصابئة الذي يقع على ضفاف دجلة وسط مدينة العمارة يسمى بالمندى ومعناها بيت المعرفة، استقبلنا في قاعة المعبد السيد بدر جاسم حمادي وهو رئيس مجلس شؤون الطائفة الصابئية في محافظة ميسان، الذي حدثنا في البداية عن أوضاع الصابئة في المحافظة، مبينا ان مركز الطائفة الرئيس هو محافظة ميسان وبالتحديد منطقة الطيب، وتوزعت بين بقية المحافظات مثل الناصرية والبصرة، وكذلك العاصمة بغداد. وللأسف هذه الطائفة بدأت بالهجرة إلى خارج العراق والى بلدان ومجتمعات غريبة جدا عن تقاليدنا وعاداتنا وطقوسنا، والهجرة سببها إما لطلب الرزق أو البحث عن الأمان ، خاصة بعد استهداف الصابئة من أصحاب محال الصاغة التي هي من مهنهم الرئيسة من قبل بعض العصابات وأصحاب النفوس الدنيئة، وتمنى حمادي أن يعود الأمن الى ربوع الوطن ليعود أبناؤه لديارهم يساهموا في بنائه، مضيفا بان خسارتنا كبيرة كعراقيين في فقدان أهم وابرع الصاغة في العالم من الطائفة، فالصياغة هي من اختصاص المندائيين منذ القدم،وعن أعداد الصابئة يقول حمادي أنهم الآن ثلاثة آلاف نسمة، في حين كان عددهم حوالي (75) ألف نسمة، موزعين بين العمارة مركز محافظة ميسان، وكذلك في أقضية المجر الكبير وقلعة صالح والكحلاء.
موكب لتوزيع الطعام
يقول حمادي نحن نقيم وبالتعاون مع إخوتنا المسيحيين في كل عام موكبا نقوم من خلاله بتوزيع الطعام على السائرين بأربعينية الإمام الحسين (ع)، وهناك قسم من الصابئة والمسيحيين يقومون بالطبخ في العاشر من محرم، وكذلك بأيام الأعياد نقوم نحن بزيارة المسؤولين في الحكومة المحلية، وكذلك مباركة وجهاء المدينة والتيارات الدينية والحزبية والمواطنين، وهم يبادلوننا الزيارات نفسها في أعيادنا ومناسباتنا، والسيد المحافظ أو من ينوب عنه دائما ما يتفقد أحوال الطائفة والسيد رئيس مجلس المحافظة الذي قال لي مرة "جميع المجتمع الميساني يتألم حين يسمع بهجرة أي شخص من إخوتنا الى خارج محافظة ميسان"، ولا أنكر بان جميع أبناء العمارة مسؤولون ومواطنون هم إخوة لنا في السراء والضراء، وشكر حمادي اهتمام اعضاء مجلس المحافظة الذين يحرصون دائما على الاهتمام بشؤون الطائفة بحسب قول حمادي.
صليوه الدراجي ودانيال البهادلي
هناك أمر كان غريبا بالنسبة لي ولكنه أمر طبيعي في شريعة وتقاليد أبناء المدينة، والحقيقة أنا عرفته عن طريق الصدفة حين سألت صديقي وائل جلال دانيال: هل المسيحيون ينتمون إلى قبائل وعشائر خاصة بهم، فردّ عليّ طبعاً فأنا - والكلام لوائل - من عشيرة البهادل التي ينتمي لها والدي وجدي منذ عشرات السنين، وعائلة المرحوم صلاح صليوه تنتمي إلى عشيرة البودراج، مضيفا بأنهم جزء لا يتجزأ من تلك العشائر يشاركوننا بأحزاننا وأفراحنا ويقومون بالدفاع عنا في حالة حصول أي مكروه لا سمح الله، وعن الصابئة يقول دانيال: اغلبهم ينتمون إلى عشيرتي البومحمد والسواعد، وهذا الأمر مثبت حتى في هويات أحوالهم المدنية وشهادات جنسياتهم، ولا يختلفون عن تلك العشائر إلا في حقل الدين، فالجميع يمارس طقوسه الدينية بكل حرية ونحترم طقوسهم وهم كذلك يحترمون طقوسنا، تحت يافطتي (لا إكراهَ في الدين) و(لكم دينكم ولي ديني).
رسالة الى "الدواعش"
ولايمكن تجاهل مرقد نبي الله (العزير) في ميسان الموجود بمنطقة سميت باسمه،وعلى الرغم من كونه من انبياء بني اسرائيل الا ان المسلمين يتبركون بزيارته من جميع مناطق المحافظة، وبعد رحيل اليهود من العراق اصبح المرقد برعاية المسلمين وبالتحديد الوقف الشيعي ويشهد المكان الذي يقع على ضفة نهر دجلة حملة اعمار واسعة بمتابعة ميدانية من قبل المسؤولين في المحافظة، وما يميز ميسان وبالتحديد مركزها العمارة هو انها مدينة سنية،فهي عاصمة متآلفة بالحب والتصاهر بين المذهبين الشيعي والسني وكل مواطن فيها يتباهى ومن حقه ان يتباهى بهذا التجانس والتعايش الجميل ويعد الجامع الكبير لاهل السنة من اكبر الجوامع الموجودة في ميسان،وهذا التعايش الممزوج بالحب والألفة ماهو الا رسالة الى عصابة "داعش" ومن يتبعها في الضلالة ان العراقيين سواء كانوا شيعة او سنة او مسيحيين او صابئة ،عربا او كردا لم ولن تفرقهم شعارات الفتنة الطارئة والمستوردة من الخارج،ويبقى انتماؤهم للعراق فوق اي انتماء آخر
المصدر العدالة