إنه لشرف لنا الجلوس في حضرة التاريخ لاستحضار ذكريات مضت لنساء صنعن مجدا بدمائهن الزكية واتخذن نغمة الرشاش لحنا، تجاوزن بذلك نواميس الطبيعة التي جعلت منهن جنسا لطيفا يحملن في قلوبهن الرأفة والشفقة إلى جنس قويت سواعده وزادت صلابته من أجل كرامة هذا الوطن العزيز، محنتهن تحت وطأة المستعمر أيقظت فيهن همتهن فسرن بذلك جنبا إلى جنب رفقة الرجل في المسالك الوعرة بخطى ثابتة مستقيمة نحو مستقبل مشرق في تاريخ الجزائر.
نعيش اليوم في بلد آمن مطمئن سقي من جدول صاف نقي من كل الشوائب، ينبعث منه عطر أجساد ناعمة مخضبة بدماء الحرية، كانت "مليكة قايد" زهرة أخرى منه تفتحت في بلد الكرامة وأبت أن تذبل في ظلمة المهانة.
"مليكة.. سليلة النساء الخالدات"
هي وردة من الورود اللواتي تتزين بهن بساتين وحدائق جزائر اليوم، يستنشق عطرها جيل الاستقلال كلما فتح شبابيك الثورة الجزائرية، لقد كانت حياتها للكثير من بنات جيلها رمزا للأنوثة التي لم تروضها المدافع ولا الرشاشات، بل زادتها عزما وإصرارا على الوقوف إلى جنب أخيها الرجل أمام طغيان واستبداد الاستعمار، كما زادتها رعونة الطغاة كبرياء لاستقبال الموت في ساحات الوغى وكان لها ذلك، فلا التهديد ولا الوعيد أدخل الشك إلى نفسها يوما بأن هذه القضية التي خيرت ان تدفع روحها ثمنا لها سوف تذهب في مهب الريح، فأقسمت ووفت القسم على أن تموت شريفة عزيزة وأن تحيا الجزائر حرة مستقلة.
إن هذه اللحظات للتأمل في مذكرة شهيدات الثورة الجزائرية، وعن اسم "مليكة قايد" تضعنا أمام نساء لسن عاديات، حيث نقف مع شخصية حملت بداخلها القضية الجزائرية منذ نعومة أظافرها رغم صغر سنها، فلم تكن تلك الفتاة الجزائرية التي تحلم بيوم زفافها إلى بيت زوجها، بل كانت من اللواتي رأين أن العيش الهنيء لا يكون إلا في جو لا يعكر صفوه الظلم وقهر الاستعباد، لذا تربت على الكرامة والذود عن الشرف برغم قلة العتاد، لم تكن الدنيا يوما مطمعا لها، بل كانت حرية الجزائر فوق كل اعتبار فسارت على خطى "لطفي" و"عميروش" وغيرهما من رجال وصلوا في سموهم إلى قمم الجبال الشامخات،
اليهم جبالنا اليوم ومدنها، فهم من رسموا مستقبلا آمنا مطمئنا في الجزائر، سرن جنبا إلى جنب نساء ورجالا وحتى أطفالا في ذلك الزمان، لأن المطلب كان أسمى من الروح ولا شيء آخر وهي "الحرية، السلام، الكرامة".
"الممرضة التي اختارت التمريض في الجبل على عيادات فرنسا"
ولدت الشهيدة "مليكة قايد" في أحد أحياء العاصمة وبالضبط في حي بلكور عام 1933، زاولت دراستها بالمدرسة الابتدائية سنة 1939، ثم انتقلت إلى برج بوعريريح سنة 1942 أين نالت شهادة التعليم الابتدائي سنة 1947.
كما تحصلت على شهادة في التمريض سنة 1953 ومن هنا كانت البداية للتفكير في الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني الذي كان هذا الطموح يلازمها منذ كانت صغيرة،وشاءت الأقدار أن تجعل منها ممرضة وهو ما كانت تحتاج اليه الثورة في أعوامها الأولى،كانت تنتظر الدعوة للانضمام إلى صفوف جيش التحرير إلى أن أذن الله لذلك، واستدعيت من طرف "العقيد عميروش" سنة 1955 وعملت من خلالها المرأة المناضلة من أجل مبادئ الشعوب الداعية إلى التحرر من المستعمر بكل جوارحها، استعانت بها الثورة الجزائرية لعلاج الجرحى الثوار، وكانت تمثل المرأة الثائرة نهارا رفقة المجاهدين والممرضة الساهرة ليلا إلى جنب إخوانها المجاهدين المجروحين في ساحات المعارك.
"صفعة الشرف التي أهدتها الشهادة في سبيل الجزائر"
إن الحديث عن الموت هو بمثابة تذكير بأن الأيام مداولة بين الناس، وذكر الاستشهاد هو بركة خصها الله بالخيرة من عباده في الجهاد في سبيله، وقد كانت "مليكة قايد" من بين النساء اللواتي أكرمهن الله بالشهادة، شهادة في سبيل الجزائر وفي سبيل الكرامة والحرية، بعد العمل الثوري الذي قامت به "مليكة" رفقة العديد من نساء الجزائر على غرار "خديجة لصفر خيار" و"هجيرة" وغيرهما وما أكثرهن، جاءت لحظة الفراق الأبدي بين من جمعتهم كلمة الحق، هذه الكلمة هي التي جمعت بين من فرقهم الجنس وجمعهم الهدف وهو استقلال الجزائر ولو بدفع كل نفس ونفيس، وبين من عزلتهم المدن والمداشر، لكن الجبال ضمتهم ووحدت صفوفهم.
تقص إحدى رفيقات درب "مليكه قايد" وهي "خديجة لصفر خيار" عن ذلك اليوم الذي رحلت فيه "مليكة" إلى جوار ربها تضم علم الجزائر إلى صدرها مخضب بدمائها الزكية الطاهرة، بعد معركة دامية شارك فيها قائد فرنسا "بيجار" رفقة ما يقارب ثلاث آلاف جندي فرنسي، ولما كانت الكثرة تغلب الشجاعة، وبعد وشاية من أحد عملاء فرنسا ألقي القبض عليهن هي و"لصفر خيار" و"هجيرة " في "رقة اواقورن" في مغارة بالقرب من البويرة،عندما همت بالخروج تحمل العلم الوطني وصوت التكبير يدوي بين الجبال ومسامع الجيش الفرنسي، أراد احد عملاء فرنسا أن يجذبها إليه أمام ضباط فرنسا من أجل مكانة يرجوها في صفوفهم وأن يستأسد على إحدى بنات الجزائر الشريفات، التفتت إليه بنظرة المرأة التي طعنت في شرفها وصفعته أمام أسياده لتبين لهم جبنه، فما كان منه إلا أن رفع سلاحه وأتم رصاصاته في صدرها فسقطت في ساحة الوغى تاركة وراءها اليوم جيلا ينعم بتضحيتها وبسالتها التي زعزعت فرنسا وأتباعها.
هي إذا وقفة أخرى أردناها أن تكون في حضرة شهيدات الثورة الجزائرية، شاءت الأقدار أن يجعل منهن نساء لسن عاديات لسبب واحد وهو الذود عن شرف الجزائر وكرامتها والسعي إلى استرجاع استقلالها ولو على حساب أرواحهن، طلبن الشهادة فأكرمهن الله بها، هي مثال آخر لمسيرة شهيدة لم تأخذها أطماع المناصب ولم يلهها لا جمالها ولا دراستها عن واجب التضحية في سبيل هذا البلد الكريم الذي يقطف اليوم جيل الاستقلال ثمرات الحرية التي اكتست بدماء الكثيرات ممن هانت عليهن الدنيا من أجل حياة الكرامة لهذا الجيل.
أردنا أن ننفخ الروح في يوميات شهيدة لتكون عبرة لمن نسي طعم السلام والأمن الذي نعيشه اليوم، فلم يكن أبدا مجانا ولا هدية منحت للجزائر، بل حق استرجعه الكثير من آبائنا وأمهاتنا بدفع أرواحهم مقابل الحصول عليه.