والنهضة الحسينية هي طليعة هذه التجارب وهل قضايا الفكر الإسلامي وقضايا الأمة الراهنة إلا الحرية والكرامة والإحساس بالمسؤولية والضمير الأخلاقي الذي شكل مقاصد
النهضة الحسينية؟! فهي
نهضة حية لا تموت من خلال القيم التي كانت تنطق من داخل الميدان وترسم للأمة نهجا في التحرر وعدم القبول بالذل .
فكل كلمة نطق بها أبو
الشهداء عبرت عن منتهى ما يطلبه الأحرارإن النهضة ا
لحسينية كانت أولى النهضات التي شهدها التاريخ جعلت لها مطلبا للتحرر والكرامة لم تكن
ثورة من أجل الخبز على شرف ثورات الخبز ولا
ثورة ضد التمييز العنصري على شرف الثورات التي قامت ضد التمييز .
فلقد كان
بنو هاشم كرام القوم لا يملك أحد إذلالهم إلا وذل وذاق من كأس الهوان لكنها كانت
ثورة من أجل الكرامة ومن أجل الحرية والذين صمموا على إذلاله يدركون أن مغامرتهم تلك جاءت بعد أن حسم
الحسين ف ي موقفه من يزيد وتموقعه في صفوف المظلومين فكان إذلال يزيد
للحسين إذلالا لرمز يمثل ضمير هذه الفئة المستضعفة والمستباحة كرامتها .
فسير الأحداث يؤكد على أن الحسين أبى إلا أن يكون درعا واقية لهؤلاء ومعبرا شجاعا عما لا يقوى التعبير عنه آخرون فلقد قدم الحسين أكبر دليل على خدعة الإسلام الأموي ولولا قتل الحسين بتلك الطريقة الهمجية لما سمعنا يزيد يكشف عن نوايا التيار الأموي من خلال تمثله للأبيات الشهيرة التي جاء فيها:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
فلقد أظهر الحسين أنه ليس طالب ملك بل طالب كرامة وليس طالب غلب بل طالب تحرر وليس طالب دنيا بل طالب آخرة وليس طالب ثأر بل طالب عدالة .
في تصوري أن قضايا الأمة الراهنة هي من سنخ قضايا النهضة الحسينية ذلك لأنها قضايا إنسانية تكررت على امتداد هذا الزمن المهدور على إيقاع فظاعات الإنسان في ربوعنا وما دامت القيم النبيلة التي استشهد من أجلها الحسين لم تتحقق فحتما سيظل كل زمان عاشوراء وكل مكان كربلاء .
على أنه يجب فهم العبارة في عمق محتواها وفلسفة تجادل القيم مع الواقع حيث كل بحسبه فالتاريخ يعيد نفسه لكن بصورة أكثر تعقيدا وتركبا وإذا كانت الثورة الحسينية النهضوية هي أول ثورة في تاريخ النوع جعلت عنوانها التحرر والكرامة فإنها أول ثورة من داخل التجربة الإسلامية ضد استغلال الدين للإستبداد السياسي وإذلال الخلق وقبل حركات التنوير والإصلاح الديني الذي شهدته أوربا الحديثة يطلب الإصلاح في الوعي الديني ولعله أول من جعل الكرامة والإحساس بالحرية عنوانا لا بشرط لنهضة الأمة .
س: كلما أمعنا النظر في بيان مشروعية الثورة الحسينية نجد أنفسنا في مواجهة نماذج أكثر تعصبا ومعاداة لمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) أين الخلل هل هو كامن في أسلوب خطابنا أم أنه في طريقة تلقي الآخر لهذا الخطاب ؟
ج: ثمة خلل وأختلاف في المعنى بلا شك وهو خلل على تفاوته يظل مشتركا بين الإثنين خلل في الخطاب وخلل في ذهنية المتلقي للخطاب وأعتقد أن مقتضى النهضة الحسينية ومحتوى حركتها الرسالية هو الإنصاف والعدالة والاعتراف لذا يتعين الحديث عن خلل يصيب الجهتين معا .
حيث أن ثمة أمر آخر يشكل مقصدا مؤطرا وموجها لكل قراءتنا وهو المقصد نفسه الذي فجر الثورة الحسينية أعني وحدة الأمة وإحساس أبنائها بأن أمرا كبيرا شغل وجدان رموزها وهو الوحدة التي تتعالى على الخلاف ولا تصل إلى حدود القطيعة ونعتقد أن آثار القطيعة التاريخية لا زالت رابضة على العقول والقلوب ومن هنا فإن الحديث عن المسؤولية المشتركة على التفاوت في النيات والمقاصد هو أمر ضروري .
ونحن نعتقد أننا مطالبون أكثر من غيرنا بالتنازل في العوارض لما يخفف من وطأة هذا الشرخ الذي جعل الأمة في أرذل عمرها تبدو كالرجل المريض ونعتقد أن منطق الأبوة للأمة الذي وسم معالم النهضة الحسينية بميسمه الخاص يفرض على شيعته مواقف مسؤولة وصبرا أكبر وتشبتا بمصلحة الأمة لا يحركه الإستفزازوطلبا لرأب الصدع لا يخفف من باعثيته إزعاج وذلك في نظري نابع من حالة الجهل وغياب معطيات كثيرة على من يتلقى الخطاب في زحمة التهريج والحصار التاريخي الذي جعل كل ما يقال عن شيعة أبي عبد الله الحسين هو ما تنسجه حولهم أيادي خصومهم تارة بجهل بسيط وثارة بجهل مركب .
أن الثورة الحسينية ظلت عرضة لتجاذبات طائفية وقومية يسوقها أعداء الأمة كيف السبيل لتجاوز هذه الإشكالية باتجاه توحيد المسلمين على الخطاب الحسيني العاشورائي من جهة وعولمة هذا الخطاب من جهة أخرى إن مقاصد الثورة الحسينية أوسع من المدى الذي تردت إليه بفعل الاختزال الطائفي لها. وهو وضع يستدعي وقفة تأمل قصوى.والحالة الطائفية الاختزالية ليست صناعة شيعية محض بل هي نتاج أزمة قطيعة داخل الأمة تعدت إلى مستوى الاختلاف في اعتبار الرموز وكيفية استحضارها في الوجدان المسلم .
فالحسين وقضيته يحضران في الوجدانية الشيعية على خلاف ما يحضران في الوجدانية السنية .
إن مقاصد الثورة الحسينية أوسع من المدى الذي تردت إليه بفعل الاختزال الطائفي لها وهو وضع يستدعي وقفة تأمل قصوى والحالة الطائفية الاختزالية ليست صناعة شيعية محض بل هي نتاج أزمة قطيعة داخل الأمة تعدت إلى مستوى الاختلاف في اعتبار الرموز وكيفية استحضارها في الوجدان المسلم .
فالحسين وقضيته يحضران في الوجدانية الشيعية على خلاف ما يحضران في الوجدانية السنية وطبيعي أن المجتمع السني لم تتوفر له الشروط الكافية ولا عاش الظروف الموضوعية لتطوير ثقافة حسينية لأسباب تاريخية مشهودة وهذا لا يعني أنهم قتلة الحسين .
ففي اعتقادي لا وجود لقتلة الحسين بيننا إن الحسين أكبر من أن يكون رمزا لطائفة أو لقومية ما وأما خطاب التفريس والتعجيم لكل مظاهر التشيع فهو يقوم على مغالطة كبرى تحجب حقيقة أن المظاهر الحسينية انتقلت إلى فارس من البلاد العربية .
وإن تلبست بمظاهر التجربة الذوقية الصفوية وقبلها البويهية فتلك ثمرة التثاقف الطبيعي والذين درسوا تاريخ الدولة الصفوية يدركون بأن التشيع الإيراني ساهم فيه أعلام من الأحساء وجبل عامل هذا من الناحية التوثيقية وأما في تصوري فإن الدعوة المذكورة تحمل في ثناياها سخف القول وضحالة التصور فالدارسون للثقافات يدركون كم هي خاضعة لقانون التبادل والانسياح و التثاقف فإيران تؤثر بقدر ما تتأثر .
وأما الحديث عن كيفية عولمة الخطاب الحسيني في القول بالثورة الأمام
الحسين وبين النهضة فأنا أعتقد أن المسألة تتعلق بالمخاطب قبل المتلقي فالخطاب
الحسيني رهين بنضج وثقافة الحامل للخطاب فيمكن أن يرقى الخطاب برقي حامله ويمكن أن يتقزم الخطاب فيأخذ شكل حامله حيثما أضفى على الخطاب رؤيته المحصورة أو دثره بخصوصيته الضيقة .
فالخطاب
الحسيني قد يصبح عالميا كونيا إذا توفر الحامل الكوني والإنساني أي أن يرقى الخطاب ليلامس وعي العالم ونضج العالم ومن هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار الذوق العالمي والثقافة العالمية في تقديم رسالة
الحسين واستنطاق ملحمة
الحسين وتأويلها بانها
ثورة الحسين .
عادة ما تجدنا نغفل البعد التبليغي العصري لأبعاد عاشوراء وبلحاظ وجود شبكات معقدة من الفضائيات ومن أجل عرض فوائد الثورة الحسينية ومكاسبها بأسلوب مقبول من الجميع كما تحدثت عن توسيع دائرة المتلقي للخطاب الحسيني ليشمل الأمة جمعاء ويعانق تطلعات أبنائها فإنني أدعو إلى مزيد من توسيع دائرة المتلقي لتشمل البعد الإنساني الكوني لهذا الخطاب .
ولعل الناظر في مفردات الخطاب الحسيني سيكتشف أن أكثر المسائل التي أثارها هي بلا شرط تتجه نحو الإنسانية وتخاطب الضمير الإنساني من حيث هو إنسان
ولقد افترض الحسين أن خصومه لا سيما المستمتعين بقتله أنهم كانوا لا يؤمنون بالمعاد ولا يخافون الله لذا تقدم خطوة ليخاطب ما يلزمهم برسم الضمير الإنساني ( فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون ) .
فهو يتحدث عن الإنسان وعن الفتى وعن النفس المحترمة وعن الحق والكرامة...فكل ما نطق به هو مدرج في الملف المطلبي لكل حركات التحرر والتحرير ويستطيع أن يفهمه الإنسان بوصفه إنسانا في كل عصر وفي كل جيل ولا يخفى عليكم كيف التقط غاندي وهو رمز من رموز حركة التحرر الوطني هذا الخطاب يوم قال وهو غير مسلم: (
تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر ) فهذه هي النهضة التس سعى اليها الآمام
الحسين لكنني لا زلت أرى
الحسين وقضيته غير مقروءة ولا مستوفاة بالقراءة على المدى الكوني .
ولا يزال الخطاب الحسيني بوصفه جوهر الخطاب الإسلامي مشخصا خير تشخيص في الميدان لينقلنا إلى وجه آخر من فهم الإسلام فالحسين هو أكبر ضحية للإرهاب والإقصاء والاستئصال وفي الخطاب الحسيني نستطيع الوقوف على فكر احترام الآخر واحترام الحياة حيث ليس موت الحسين إلا فضحا لذلك النهج القائم على قتل النفس المحترمة فيسمى بثورة الأمام الحسين .
أقول دائما هناك تأثير سلبي يجعل الوعي بالفلسفة الحسينية متأخر عن التأثر اللاواعي بطقوسيتها بل أخشى أن تتحول الرسالة الحسينية في فلسفتها الإنسانية الكلية إلى ظاهرة سوسيوـ ثقافية محض، تغطي على بعدها الأيديولوجي والتاريخي الموضوعي ومحتواها النهضوي والرسالي الذي يلامس الوعي والعقل بقدر ما يلامس الوجدان واللاوعي.لكن هل يمكننا الحديث عن وقف كل التعبيرات الشعبية والطقوسية العاشورائية؟! في تصوري المطلوب هو التوازن أعني إعطاء الوعي حقه مقدار ما نعطي للاوعي .
أي أن يوجد نوع من التوازن يؤدي إلى تعدد في الخطاب بين الثورة والنهضة الحسينية والمشكلة هي إذن في اختلال التوازن والفهم نحن نعلم أن المتلقي المفترض يشكل القاعدة للثورة والنهضة لكن هذا لا يعني إغفال الشريحة الواسعة التي تتطلع ارتكازية في منطقة الوعي بالقضية الحسينية اثنا طرح هذا السؤال .
هذا في الإطار العام أما من ناحية المبلغين وخطباء المنبر الحسيني فعليهم أن يتحلوا بثقافة عالمية تمكنهم من استحضار الوعي العالمي والذوق العالمي ويكونوا أكثر توازنا والخطباء في هذا المقام مطالبون أكثر من غيرهم بتحصيل حد أدنى من الثقافة العالمية والاجتهاد في مراعاة الذوق المشترك في بيان هذه الثورة وهذه النهضة وعدم الاستسلام للسبات الانفعالي والعاطفي الذي يقوم عادة على حساب منطق المحتوى الرسالي للمادة الحسينية .
قضية الحسين ليست مجرد وصف لمقتل بل هي وصف لقتل استتبع أشكالا من القتل لمشروع أمة ومشروع نهضة أي البعد الشأني للإمام الحسين وموقعيته الرسالية داخل الأمة إن نضج الخطيب الحسيني وثقافته تنعكس بصورة تلقائية على المحتوى فتكبر القضية بمستوى ثقافة الخطيب وعلمه .
وفي هذا السياق يمكننا الحديث عن نماذج تركت بصماتها على المنبر الحسيني من أمثال الشيخ الوائلي رحمه الله الذي استطاع أن يطور نمطا خاصا في الخطابة الحسينية استدمج فيها العلم والتحقيق بفن الخطابة وما يقتضيه من نكات بيانية فكان نموذجا للخطيب الذي يفقه عصره ويفقه موقعية الخطيب الحسيني ومسؤوليته .
وهناك نماذج كثيرة حيث أفضل أن لا أتحدث عن الأحياء استطاعوا أن يطوروا أسلوبهم الخاص ويثروا تجربتهم الثقافية ويعصرنوا خطابهم الحسيني المسؤول ويكيفوه ضمن جغرافيا الحساسيات المختلفة وأعتقد أن المنبر الحسيني يجب أن يتحول إلى شعبة تخصصية وأن الخطابة الحسينية يجب أن تصبح تخصصا ومادة للدراسة يتعلم فيها الخطيب فنون الخطابة و التزود بالمعارف والعلوم الضرورية للخطيب .
أن
ثورة الإمام الحسين متعددة الأبعاد وإذا ما رأى فيها البعض أنها إيحاء باللون
الأحمر بديلا عن اللون الأسود فإنني لا أقبل بهذه القراءة الإستبدالية التي تختزل
ثورة الإمام الحسين في اللون الواحد .
إنها بالأحرى تختزل كل هذا التعبير الممتد امتداد المعنى والمتعدد باللون الأسود والأحمر بل أضيف هنا اللون الأبيض لون
السلام الذي عبر عنه الإمام
الحسين من خلال الكلمة والموقف .
إنها ثورة من أجل الكرامة والحرية حيث لا استقرار للإنسان إلا في مجتمع كريم وحر يتمتع بكامل حقوقه وهي الدعوة التي عبر عنها الإمام زين العابدين وهو يلخص كل رسالة عاشوراء التي شهدها وهو على فراش المرض ( اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة ) .
إن المشهد
الحسيني بكل تعابيره صرخة حية من أجل
السلام والعيش الكريم فهو الذي خطب في الناس أنه
لم يخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرج طلبا لإصلاح أمة جده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.ثورة الحسين لم تكن في غايتها القصوى سوى ما تطلعت إليه أفئدة الأحرار.ولهذا جاء نداءه إنسانيا.
لقد قدم
الإمام الحسين كل ما في وسعه ليتجنب المعركة وقد التمس في مفاوضاته مع محاصريه أن يخلوا سبيله وأن يسمحوا له بأن يذهب ويرابط في ثغر من ثغور المسلمين فيصوب سيفه ذودا عن حمى الإسلام وحدود الدولة الإسلامية كواحد من جنود الإسلام فلم يقبلوا منه إلا أن يقبل بالذلة فقال لهم حينئذ:
( هيهات منا الذلة ) .
ومع أنهم أكثر الناس معرفة بجدية وصدق الحسين فلا هو من أهل الغدر ولا من منبته لكن القوم رأوا أن يصفوا القضية الحسينية في العزاء ويطووا صفحة هذا التحدي الحسيني وبدل أن يمضوا في المفاوضات إلى الحد الذي يحولوا فيه جريمة قتل بقايا آل محمد .
ومن هنا يجب أن ننطلق في قراءتنا لنهضة الحسين واستيعابنا لفلسفة عاشوراء على أساس فقه الأولويات والأهم والمهم وتأويل الحدث والسمو برمزيته إلى ما يخدم نهضة الأمة وتقدمها ووحدتها .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته