أم حسين التي انهكتها كوابيس صدام
طاهرة داخل
في صباح واحد أخبروا الأم باعدام اولادها الثلاثة!
يوم زارنا رجال بزي مدني وسألوا عن اخي الاوسط "غسان" ، فوجدوه في البيت واقتادوه معهم. وحين ذهب اخي الكبير "حارث" ليسأل عنه لم يعد هو الاخر. وحين حضر اخي الثالث "غيلان" واخبرناه بما حدث خرج قلقاً بعد ان حل المساء... ليسأل من يراه في طريقه لعل احد الناس يبلغه باي خبر عنهما. الا انه خرج هو الآخر ولم يعد ايضاً.. كانت امي مسافرة الى الرميثة لحضور مجلس عزاء احد الاقرباء، وكنت مع اخوتي الكبار ارعى اخي الصغير الاخ الرابع.. وكنا قد استأجرنا بيتاُ قريبا من بيتنا كي نكمل بناءه.
كنت صبية، واتذكر الفزع الذي سببه لي رجال يرتدون الزي العسكري ويوجهون السلاح نحوي ويسألونني عن عتاد او ذخيرة يخفيها اخي غسان...
كنت اجهل ما يتحدثون به تركوني بعدها بصعوبة، احضروا اخي في اليوم التالي مقيداً شاحب الوجه، وشارد الذهن، وإلى الآن اتذكر ان بياض عينيه كان مائلا إلى الصفرة.
قلبوا اكوام الاثاث المتراكم على بعضه واخرجوا بعض الذخيرة وكأنها "دست بين الاغراض عنوة".
واحضروا أخي مرة اخرى ... ولم يسمحوا لي بأن ارى مااخذوه من البيت.
تكلم "حارث" عندها مع اخي الصغير وقال له وكانه يكلم شبحاً "اهرب مع اختك بعيداً" حضنته بشدة، وبكيت ، سحبني احدهم، الا ان صوتاً آخر، قال له "دعها ، دعها ، لتودعه" وحين ارادوا الخروج قال لي احدهم "كلها بجفة واخوك غسان بجفة، انه مجرم فهو يلكط بالبعثية". لا اتذكر ملامحهم، اتذكر فقط بزاتهم العسكرية واصواتهم والموت الذي يتطافر مثل دم من كلماتهم ونبرات اصواتهم.
قضيت الليلة عند الجيران، وفي الصباح ذهبنا الى بيت عمي ومن هناك ارسلونا الى الرميثة كنت اتمنى ان لا يتوقف القطار، ويظل يسير إلى الأبد ، خشية أن تهبط معي نذر الشؤم التي سأنقلها الى والدتي وزوجة اخي "حارث".
اوصلتني جماعة من الشباب مع اخي الى بيت اقربائنا وقالوا لهم "هذه الامانة". كان يوماً عاصفا انهارت والدتي عندما سمعت بخبر اعتقال اخوتي وفي اليوم التالي غادرت الى بغداد لتبحث عن اخوتي الثلاثة.
كل ليلة كنت انهض فزعة واصرخ. كوابيس ، رجال مشوهون، بزات عسكرية، اصوات رصاص، واصوات اخوتي، في اقبية التعذيب، قررت العودة الى بغداد والبقاء مع امي.. جلسنا على التراب في البيت "الهيكل" نفسه ، وضعنا الحصران بدلا من الشبابيك والابواب.
كانت امي تخيط ملابس صيفية مع حلول الصيف لعلها تراهم بالصيف، وكذلك في الشتاء لعلها تراهم شتاء.
وفي أحد الصباحات جاءنا تبليغ من مركز شرطة بغداد الجديدة ليقول الضابط لأمي:
جاء امر من محكمة الثورة ... باعدام "غيلان". كان غيلان يسارياً، اما غسان وحارث فكانا من حزب الدعوة.
لم يعطوا والدتي شهادة الوفاة.. وحين رجعت والدتي كانت بلا دموع.تسير شاردة الذهن.. وقضت ايامها التالية بلا حراك وتنظر في شيء غير مرئي، وفجأة أحسست ان آلما صار يوخزها في احد ثدييها.. وكان ذلك بوادر لمرض السرطان الذي عانت منه لستة اشهر لتموت قبل ان نجري لها العملية.
أستعيد يومها الاخير في ذاكرتي، وكان يوم السبت ، اخذت امي تتذكر اخوتي واحداً بعد الاخر، الا ان اسم "غيلان" لم ينقطع عن تنهداتها.. اذ كانت تلحّ على نطق اسمه.
بعد وفاتها عشت انا واخي الصغير في بيت اختي ثم قررنا الذهاب الى بيت عمي ثم الخروج الى الحدود السعودية حيث الهروب من جحيم الحرب، كان معي ابن اخي وهو جندي هرب من الجيش بعد ان تم نقله الى الكويت.
خرجنا مع عوائل من الرميثة. وكان عدد العراقيين على حدود السعودية (30000) عائلة.
في اول الامر كانت معاملة السعوديين معنا جيدة، حيث اقاموا لنا خياماً، وكنا نقول لانفسنا "كلهه شهرين وينتهي صدام".
والشهران صارا (14) سنة. والشخص الذي ارتبطت به هناك كان من حزب الدعوة وهاربا من حكم الاعدام ولديه ثلاثة اخوة معدومون (رزاق وحسين وعباس) في الرميثة كان الاعدام بالجملة، وكان مجرمو صدام لا يقبلون الا باعدام ثلاثة فما فوق.
بقينا لسنين طوال، انا وزوجي وابن اختي.. العواصف الترابية كانت اشد عتواً من اخلاق السعوديين التي تغيرت تماماً بسبب الحوادث التي كان يتسبب بها مخربون يرسلهم الصداميون الى السعودية.
تعاملوا معنا بقسوة وعنف، قطعوا الرواتب ما يقارب ثلاثة سنوات. واكتفوا بحصتنا من المواد الغذائية. وهذه ايضا قللوا من كمياتها ونوعياتها. ومنعوا حتى الوفود القادمة من مفوضية الامم المتحدة من زيارتنا.
الا ان الصور التي لا تمحى من ذاكرتي تلك التي احاطت بظروف انتحار الشباب في صحراء رفحا.
اليأس والخوف من المجهول، والتهديد المستمر باعادة الشباب وتسليمهم لمجرمي صدام.
ومواجهة الصحراء لهم باللاشيء، واحساسهم المرير بانهم بلا امل ولا يملكون افقا لما قد يحدث لهم في الغد او بعده.
كانوا يشنقون انفسهم. وبقيت صور بعضهم تعيش في ذاكراتي.
وعدت بهم الى وطني وكأنهم يريدون العودة حتى وان عادوا صورا في ذاكرة الناس او في ذاكرة امراة محطمة مفجوعة.
كان معظمهم من المتعلمين والخريجين، اطباء ومهندسين ومثقفين.
اما صور الشباب الذين اصيبوا بالجنون فلا تنتهي اعدادهم في ذاكرتي.
كانوا ينهارون يوما بعد يوم، لتكرار اليوم واللون والساعات والحديث والتأملات واليأس.
كل ذلك اوصلهم الى الجنون ودفع بهم الى حافة الادمان على الحقن المخدرة التي تكبل طاقاتهم وتسلمهم الى الموت البطيء، اذ كان هذا علاجهم الوحيد من نوبات الفزع والصراخ وايذاء النفس والبكاء والهروب نحو عمق الصحراء.
بعد سقوط نظام الطاغية عدنا... ولم تفارق الابتسامة شفاهنا على مدى المسافات التي قطعناها .. ولسان حالنا يقول : لن نرى الصحراء بعد اليوم ، اهلنا بين دجلة والفرات...
لا رمال ولا صحراء بعد اليوم.. سنمسح كل تلك الذكريات المؤلمة ونكتب اسماء الذين رحلوا ولم يشهدوا هذا اليوم، على اشجار الرميثة ـ وسنبلغ بحالات استشهادهم الحكومة الجديدة ونتحدث عن معاناتهم، عن قصصهم، عن احساساتهم، عن قسوة البعثيين معهم، وسنتكلم عن معاناتهم ايضا في رفحا... وعن حقوقنا وسنوات شبابنا التي كنا ندفعها قرابين لحياتنا في الصحراء.
اربعة عشر عاماً، تركتها خلفي، ولم اهتم ان ابتلعتها الرمال المتحركة في صحراء رفحا... تلك الصحراء التي هربنا اليها وهربنا منها...
وحال دخولنا الحدود... تبخرت الامنيات، وكأننا كنا نطارد سراباًُ.. عدنا الى الوطن و مرّت ثلاث سنوات منذ ان وصلنا.
لو لم يتوفر لنا ان نعيش تحت سقف على ارض العراق ونملك حديقة ونزرع ورودا طالما حلمنا بها؟
وكم ساءني حين وجدت بنات اخي الكبير وزوجته يعشن طوال حكم البعثيين على فتات الحياة.. وبعد سقوط النظام صِرّنَ ينظرنّ الى الحياة والى الناس كيف يلبسون ويعيشون بعد ان طالتهم يد الخير... ويرفعن رؤوسهن لان والدهنّ استشهد من اجل قضية دفع ثمنها (هو) اذ لم تستطع بناته اكمال دراستهن بسبب الضغوط القاسية التي عاملهم بها النظام البعثي... وبالتالي فقدوا المستقبل كله.
اكتب هذا لحكومة الجعفري ، وللحكومة القادمة :
ان اخوتي الثلاثة كانوا شهداء لقضية وهنيئاً لكم الهرم الذي تشكل من جماجم الشهداء من امثالهم والذي ارتقيتم فوق قمته ، حال دخولكم الى العراق...
الا انه عليكم ان تهتموا بركائزه ، والا انهار بكم.. وينهار كل شيء بعده..
هم، واحفادهم... التفتوا اليهم، ولا تدعوا نسل الشهادة يدنسه البعثيون الذين يتخفون بسبل عديدة.
حاولوا ان تخففوا عنا ما عانينا، أبعدوا عنا الذكريات التي تحاصرنا ، اجعلونا نؤمن ان تضحياتنا لم تذهب هدرا ، دونوا في اجنداتكم فقرة عن عذابنا، فقرة عن وجوه ضحايانا ، واجعلونا نؤمن اننا لا ننتظر المستحيل.