الشحادة....موضة العصر
مشاهد اعتدنا ان نراها هنا وهناك في الشوارع على الأرصفة بين السيارات بجانب الحثالة ،إنهم الاطفال المتسولين الذين تراهم يركضون وراء ذاك وذلك كل من أجل جلب لقمة العيش التي توفر لهم الطعام والثياب وتراهم يرددون وراء مسامعك عبارات "الله يوفقك" "الله يخليلك ولادك" "الله يبعتلك بنت الحلال" وذلك من اجل ان يرمى لهم قطعة النقود الصفراء او الفضية.
الحديث عن ظاهرة الأطفال المتشردين و"مهنة" الشحادة يفتح أبواباً يصعب توقع النتائج التي تنتج عن اقتحامها .
في البداية، جاءت مجموعة من الأطفال لم يكن عددهم يتجاوز الخمسة وأكبرهم لم يتجاوز حينها العاشرة من عمره ، كنا نراهم ظهراً في الساحة التي يجتمع بها طلاب المدرسة بعد انتهاء الدوام، ليتنقلوا بين الطلاب والمارة بهدف تحصيل ما يمكن تحصيله .
أذكر تماما أول مرة جاءني واحد منهم ، كان متسخ الثياب كريه الرائحة يحاول استغلال وجود شاب معي في الطريق ليحرجني أمامها وليضايقنا لدرجة يجبرني بها على إعطاءه ما يريد مقابل التخلص منه . عباراته كانت روتينية بعض الشيء ولم تستدعي انتباهي ولا حتى تعاطفي ، دعاوي لله أن يوفقني في حياتي وأن يجمع بين رأسي ورأس تلك الشاب على مخدة واحد وإلى آخره من العبارات التي حفظها كل واحد منا عن ظهر قلب لكثرة تكرارها على مسامعه . سار فترة من الوقت بجانبي وأنا أكمل حديثي بشكل اعتيادي دون أن أعيره أي اهتمام يذكر حتى انحنى ليلمس حذائي ويقبل يده من بعدها . أحسست أن فعلته تلك زعزعت كياني وربطت لساني ومنعتني من استمرار تجاهله ومتابعة السير !
نتيجة للزيادة غير المنطقية لأعدادهم ولآلية انتشارهم المنسق، شعر الجميع أن القصة أكبر من مجرد وجود مجموعة من الأطفال المتسولين يتنقلون ظهراً بين مجموعة من الطلبة ، فهؤلاء الأولاد استقروا في المنطقة واتخذوها مركزاً لتسولهم وبدأت صيغة وجودهم في المنطقة تأخذ بعداً جديداً ، فبعد أن انتهت إمكانية تسولهم واستخلاص القطع النقدية من المارة - بحكم أن وجوههم قد أصبحت مألوفة لدى جميع أهل المنطقة - اتجه نشاط " عصابة الشحادة " إلى استثمار المناسبات والأعياد ، في عيد الميلاد يرتدون قبعات بابانويل وفي عيد الحب تراهم حاملين الورود الحمراء ليتلقفوا كل ثنائي يسير في الشارع ، وفي الأيام العادية يكتفون ببيع بعض المنتجات الرخيصة إضافة إلى محاولة استخلاص الطعام الذي يتناوله المارة بحجة الجوع وبقائهم لمدة تفوق الأسبوع دون طعام أو شراب .
لا يزال الأولاد المتشردون يختفون مساء كل يوم ليعودوا للظهور في صباح اليوم التالي بنفس الثياب ونفس الوجوه ونفس الجمل والمصطلحات .وأًصبح هؤلاء الأطفال معروفين بالنسبة لأهل المنطقة ، ومعروف طباع كل واحد منهم.
فزكريا ( أو زكور بحسب ما هو معروف ) بائع علب الشيكلس الصفراء مشهور بظرافته ونعومة صوته وتميزه في سرعة انجازه للعمليات الحسابية وخالد الطفل الصامت الذي يجلس في فصل الشتاء حافياً ومنكمشاً على نفسه دون أن يوجه كلمة واحدة للمارة !
وجمعة ( الطفل الأكبر سنّاً ) ملمع الأحذية المشاكس ، مشهور بحقارته وبضربه لبقية الأطفال في حال لم يقاسموه "الغلة" إضافة إلى كونه مدخن !وحتى هذه اللحظة لم أستطع تخيل كيفية حصول طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره على السجائر ، أيقدمها أحد ما له أم يقوم هو ذاته بشرائها ؟. ومع ذلك تبقى قصصهم المتضاربة وغير المنطقية التي يقدمونها للمستفسر عن سبب امتهانهم للشحادة معلقة بإشارات استفهام كبيرة . بعضهم يقول الدباجة الاعتيادية المتعلقة بمرض الأم والأب وخلو العائلة من معيل ، بعضهم يقول أنه سعيد "بعمله" وأنه اختاره بنفسه على أن يذهب إلى المدرسة . تتعدد الإجابات التي لا يمكن تصديقها ويبقى الواقع الذي يدفعنا للتساؤل عن سبب تجمع كل هذا العدد من الأولاد في واقع واحد وطريقة عيش واحدة ، هل هو ظلم الحياة ؟
على أن نحيا يوماً في مكان يحترم الإنسان ويمنع المجرمين من استغلال الطفولة
تصبحون على وطن