بسم الله الرحمن الرحيم
صفات العقل
كيف نعرف العقل ونميزّه عن الهوى، وعن تلك الوساوس الشيطانية التي تتلبس بالعقل وتسمّى في منطق الإسلام بالنكراء؟
أولاً: قد نعرف العقل من خلال صفات صاحبه، فَمن انجرف في تيّار شهواته، ولم يضبط تصرّفاته حسب الحكمة، ولم يمتلك منهجية علمية رشيدة في مواقفه، فإنه لا يعتبر عاقلاً.
ومن تلك الصفات صفة الشكر، النابعة من معرفة الإنسان بنفسه، وأنّه لم يكن ثم كان، فكل إضافة إليه نعمة لا بّد أن يشكر ربّه عليها، ويسعى جاهداً لإبقائها بحفظ العوامل المقتضية لها.
أما الذي إذا حظي بنعمةً اغتّر بها، وزعم أنّما أُوتيها بعلم، أو إنّها جزء من كيانه، فهو جاهل، وسوف يفقد النعمة سريعاً أو يتصرّف فيها بما يضرّه.
والصبر صفة أخرى يتّسم بها العاقل، لأنّه لا ينظر إلى لحظته الراهنة فيجزع، بل ينظر إلى المستقبل فيأمل الخير، وينظر إلى الماضي فيستصحب الشكر، وينظر إلى مَنْ دونه فيحمد الله على بقيّة النعم التي تحيط به.
وبين صفتي الشكر والصبر تجد المؤمن يقتصد على الحلال شكراً، ويكف نفسه عن الحرام صبراً.
(يا هشام إن العاقل الذي لا يشغل الحلالُ شكره، ولا يغلب الحرامُ صبره).
ثانياً: بين العقل والهوى يتقلّب فؤاد البشر حتى يغلب أحدهما صاحبه، ولكل منهما جذور عميقة في فطرة الإنسان وطبيعته.
وطول الأمل جذر بعيد الغور في قلب البشر، لأنه يحب البقاء، فيتجاهل ويتناسى النهاية الحتمية التي تنتظره، حتى قيل: بأن الموت أشبه حق بالباطل، يعترف به الجميع ولا يصدقون أنّهم ميّتون تصديقاً نفسيّاً وعمليّاً، وإذا استبد طول الأمل بقلب الإنسان فإنه لا يحسّ بحركة الزمن، ولا يجهد نفسه في استغلال لحظات عمره فيما ينفعه غداً عند ربّه،ولا يتحسّس بمسؤولياته، وهكذا تتشوّش رؤيته في كل شيء، من هنا يقول الإمام-عليه السلام-:
يا هشام! مَنْ سلّط ثلاثً على ثلاثٍ فكأنّما أعان هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله).
إنّ منِ اعترف بالنهاية القريبة يستثير فكره حتى يعرف كيف ينجو بنفسه من دواهي الموت والقبر والحساب.و.و، وهكذا لا يني يفكّر في حياته وتطويرها نحو الأحسن، بينما الساهي اللاهي الذي يعيش تمنّيات الخلود لا يجد دافعاً نحو التفكّر.
ومثله الذي لا يضبط حديثه وفق مقياس فكره، فيقول ما لا يعلم أو ما لا ينفع أو ما يضّره السكوت عليه، فإذا بالصواب يضيع في زحمة الثرثرة، والحكمة تخفى بين ركام الكلمات التافهة.. وهكذا يعين هواه على هدم عقله. يقول عنه الإمام-عليه السلام-:
(ومحى طرائف حكمته بفضول كلامه).
أما الصفة الثالثة التي تهدم العقل فهي النظرة المنبعثة عن الشهوة، وليس عن العبرة، وبين الشهوة والعبرة تناقض. واليك بيان ذلك:
إذا استهوتك فتاة بفتنتها وجمالها، فإنك لا تستطيع أنُ تفكّر في عواقب الزواج معها، ولا تنظر إلى المسألة الا من بُعْدٍ واحد، وإذا دعتك العصبيَّة إلى عداوة تجمُّع لا تنظر إلى أيّة صفة إيجابية فيهم،ولا يمكنك أن تقيّم موقفك منهم تقييماً إيجابياً.
إنّ نظرة الإنسان نافذة عقله، ولكن شريطة أنْ ندعها حرة طليقة، أمّا النظرة الموجّهة بالرضا والغضب، بالشهوات والأهواء، فإنّها لا تعود إليك إلاّ بما أرسلتها اليه، لا بالحقائق الموضوعية، من هنا يقول الإمام-عليه السلام- عمن يهدم عقله:
(وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هَدْم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه).
ثالثاً: إنما يتقبّل الله العمل النّقي من شوائب الفخر والرياء وطهارة العمل ونقاؤه رهين أدائه بقلبٍ سليم، ونَّيةٍ خالصة، وبرعاية حدوده، وعدم إلحاق ما يبطله به، كالّمن والأذى والاستطالة على الآخرين، وكل ذلك لا يكون إلا بتحقيق هدف الأعمال الصالحة المتمثِّل في إخلاص العبودية لله..
وتزكية النفس عن أدران الكبر والجهل لا تكون إلاّ بالانتفاع من العقل لمعرفة شروط صحة العمل الظاهرة منها والباطنة.
هكذا يقول الإمام موسى بن جعفر-عليه السلام-:
(كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك؟).
من هنا يتبينَّ لنا أن تزكية العمل أهم من العمل ذاته، وهي لا تتحقق إلا بالتفكّر والتعقّل والابتعاد عن جوانب الهوى.
ويعود الإمام إلى بيان جانب آخر من هذه الحقيقة قريباً، حيث يوضح كيف أن طاعة الله لا تكون بغير العقل.
رابعاً: تطمئن نفس العاقل بموهبة العقل، وتثق بأحكامه وترضى بما لديه، ولا يحسّ بمركّب النقص، ولا يفتش عما يملأ فراغ نفسه من صخب الأصحاب والمردة، ومن ثروات الدنيا الزائلة.
بينما ترى الجاهل بالعكس تماماً، يعيش التردّد، فيبحث عمَّنْ يقلّد، ويستجيب لكل ناعقٍ، ويخشى من الانفراد بشيء، ويتوحش من الوحدة، ويجمع من أموال الدنيا أكثر من حاجته لعلّه يجبر بها نقص نفسه، وإحساسه بالضعف والخلاء.
لذلك كانت علامة قوة العقل الصبر على الوحدة، لأنّ العقل القوي يغُني صاحبه عن الأنصار والأصحاب.
(يا هشام! الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل، فمَنْ عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا، والراغبين فيها، ورغب فيما عند ربه( وكان الله) آنسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزَّه في غير عشيرة).
**** منقول من كتاب التشريع الاسلامي -مناهجه ومقاصده ج1 - اية الله السيد محمد تقي المدرسي دام ظله ****