بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته

روى عن رسول الله أنه قال:
«وَيْلٌ لِلْمُتَأَلِّينَ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ , وَفُلَانٌ فِي النَّارِ»[1] .
التنافس في عمل الخير وطاعة الله تعالى أمرٌ مطلوب في ذاته؛ فقد حثّت الآيات القرآنيّة الكريمة على ذلك في مواطن متعدّدة، وكذا النصوص الروائيّة والأدعية الشريفة؛ حيث دفعت بالإنسان نحو التقدّم في عمل الخير وطاعة الله سبحانه.
قال تعالى: ﴿وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون‏﴾[2] .
وقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات‏﴾[3] .
كما جاء هذا المعنى في دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين حيث قال: «اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَى أَحْسَنِ النِّيَّـاتِ، وَبِعَمَلِي إلى أَحْسَنِ الأعْمَالِ»[4] .
ومن هذه النصوص يظهر: إن على الإنسان أن يكون طموحاً لأن يكون أفضل من الأخرين تديّناً والتزاماً وسبّاقاً إلى الخير وطاعة الربّ.
لكن قد تنبثق للإنسان المؤمن بعض الأمراض التي تعيقه عن إنجاز هذه المهمة بخلوص نيّة وصفاء قلب، من قبيل: «التفاخر بالتديّن وازدراء تديّن الغير»؛ حيث نلاحظ إن البعض يرى في تديّنه الأفضل والأحسن والأنجع، ويكيل التهم لتديّن الآخرين وأديانهم، وما هذه إلا مزايدة باسم الدين.
وقد تحمّلت النصوص الدينيّة مسؤولية ذمّ هذه المزايدة، وتقريع من يمارسها بشدّة وصلابة، وهي نصوص ربما لا تكون صحيحة الأسانيد بآحادها، ولكن من حيث مجموعها ومجملها نراها منسجمة مع قيم الدين ومقاصده ومفاهيمه، نظير ما ورد عنه أنه قال: > وَيْلٌ لِلْمُتَأَلِّينَ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ , وَفُلَانٌ فِي النَّارِ.
والذي يُعني من التألّي على الله هو: إن الإنسان يُصدر حكماً على المستقبل الأخروي للآخرين، فيصنّف الناس على أساس قناعاته في: الجنّة والنار، ولا ندري من هو الذي منح له هذا الحقّ في تقرير مصير الآخرين؟!؛ إذ كيف يُسوَّغ له الحكم السلبي على عباد الله خصوصاً من يشاركونه في الدين والعقيدة.
كما جاء في الرواية عن أبي ذرّ الغفاري: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْماً وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي تَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَ الْمُتَأَلِّي بِقَوْلِهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ»[5] .
وجاء في حديث آخر عنه: «لَا تَأْلُوا عَلَى اللهِ، لَا تَأْلُوا عَلَى اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ تَأَلَّى عَلَى اللهِ أَكْذَبَهُ اللهُ»[6] .
ومن مجموع هذه النصوص نفهم إن التفاخر بالدين أمرٌ محظور ومنبوذ من الناحية الشرعيّة، لكونه من مصاديق الرياء؛ فإن الله لا يقبل من عبده المؤمن ـ مهما كانت درجة تديّنه وعبادته ـ أن يتفاخر محاولاً اكتساب السمعة والفخر بين الناس على أساس عمله الديني؛ فقد جاء في الحديث: «عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ، فَأَبْكَانِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ، وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ.
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ... أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ...» [7] .
ومن هنا نجد إن الإمام زين العابدين علي بن الحسين يتضرّع إلى الله كي يجعله في قمّة الالتزام بالقيم والأخلاق، دون أن يسبب له ذلك شعوراً بالتعالي على الآخرين، أو بالتفاخر بينهم، حيث قال في دعاءه: «وَهَبْ لي مَعالِيَ الأخْلاقِ، وَاعْصِمْني مِنَ الفَخْرِ»[8] .
ومجمل القول: إن مكمن الداء في أوساطنا هو إن البعض من المتدينين يمنحون لأنفسهم الحقّ في تصنيف الناس، وتوزيع الرتب والمواقع عند الله بوعي أو بدون وعي، وربما يحسبون إن هذا الأمر مهمة قد منحها الله جلّ وتعالى لهم، فيصدرون أحكاماً في نجاة هذا وهلاك ذاك، وفي فساد عقيدة (أ) وصلاح عقيدة (ب)، وما هذه المزايدة إلا واحدة من المساوئ القائمة في حياة المسلمين الدينيّة؛ مع إن الدين بتعاليمه يربّي الإنسان المسلم على حسن الظنّ بإخوانه المسلمين، حتى وإن تملّك درجة أفضل في العلم والمعرفة الدينيّة، إلا أن ذلك لا يدعوه للازدراء بهم، بل يتحمّل مسؤولية رفع مستواهم وإقناعهم بما يملك، لا أن يتعامل معهم بازدراء، ويحكم بخروجهم عن الدين والملّة، لأنهم لا يتفقون معه في رأي جزئي أو مسألة تفصيليّة.
وقد روى: «الصَّبَّاحِ بْنِ سَيَابَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ القَولَ: مَا أَنْتُمْ وَالْبَرَاءَةَ؟ يَبْرَأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرُ صَلَاةً مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَنْفَذُ بَصَراً مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ الدَّرَجَاتُ»[9] .
وليس هذا الداء مقتصراً على هذا العصر، بل نلاحظ جذوره موجودة في عصور الأئمة أيضاً؛ حيث كشفت بعض النصوص الروائيّة عن اختلاف المراتب في أصحاب الرسول والأئمة، وكشفت عن وجود هذه الظاهرة فما بينهم، كما جاء ذلك في روايةٍ: «عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَرَاطِيسِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ لَهُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الشِّيعَةِ وَمِنْ أَقَاوِيلِهِمْ، فَقَالَ يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ:
الْإِيمَانُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ لَهُ عَشْرُ مَرَاقِيَ، وَتُرْتَقَى مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ، فَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الْوَاحِدَةِ لِصَاحِبِ الثَّانِيَةِ لَسْتَ عَلَى شَيْ‏ءٍ، وَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الثَّانِيَةِ لِصَاحِبِ الثَّالِثَةِ لَسْتَ عَلَى شَيْ‏ءٍ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْعَاشِرَةِ.
قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ فِي الْعَاشِرَةِ، وَأَبُو ذَرٍّ فِي التَّاسِعَةِ، وَالْمِقْدَادُ فِي الثَّامِنَةِ.
يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ: لَا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، إِذَا رَأَيْتَ الَّذِي هُوَ دُونَكَ فَقَدَرْتَ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى دَرَجَتِكَ رَفْعاً رَفِيقاً فَافْعَلْ، وَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُهُ فَتَكْسِرَهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ؛ لِأَنَّكَ إِذَا ذَهَبْتَ تَحْمِلُ الْفَصِيلَ حَمْلَ الْبَازِلِ فَسَخْتَهُ»[10]

أجل؛ هكذا تربي النصوص الدينيّة الإنسان المؤمن في التعامل مع أقرانه المؤمنين، وتطلب منه عدم الإعجاب بالنفس والمزايدة باسم الدين، هذه الظاهرة التي تُعدّ من أخطر الأمراض في ساحتنا الدينيّة، وينبغي على الناس أن يحسنوا الظن ببعضهم بعضاً، وأن يديروا ما يختلفون عليه من أمور فقهيّة أو فكريّة بالحوار وضمن الضوابط العلميّة والأخلاقيّة.

--------------------
[1] كنز العمال: ج 3، ص559 , حديث 7902.
[2] سورة المطففون، الآية: 26.
[3] سورة البقرة، الآية: 148.
[4] الصحيفة السجّاديّة: ص92.
[5] وسائل الشيعة. ج15، ص336؛ وصحيح مسلم. حديث 2621.
[6] الطبراني، المعجم الكبير: ج8، ص229.
[7] الإمام أحمد، مسند أحمد: ج28، ص346.
[8] الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق: ص92.
[9] الكليني، الكافي: ج2، ص45.
[10] الصدوق، الخصال: 2، ص448.