بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(1).
المفهوم من الآية الكريمة أنّ الله تعالى يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون. بيد أنّ ههنا مسألتين لا ينبغي الخلط بينهما:
الأولى: أخلاقية، وهي قبح مناقضة القول للعمل.
أمّا المسألة الثانية: فهي مسألة شرعية، وهي عدم سقوط وجوب القول بذريعة عدم العمل به.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان حتّى على الشخص الذي لا يعمل بالمعروف ولا ينتهي عن المنكر. ولنأخذ الصلاة مثالاً للمعروف، وشرب الخمر مثالاً للمنكر. فإنّ على كلّ مكلّف في كلٍّ منهما واجبين: الإتيان بالصلاة والأمر بها، وترك شرب الخمر والنهي عنه. فمَن ترك الصلاة ولم يأمر بها ارتكب إثمين، ومَن شرب الخمر ولم ينه عنه أتى بمعصيتين، وإن كان مَن يأمر بالصلاة وهو تارك لها، أو ينهى عن الخمر ولا ينتهي عنه، قد استحقّ سخط الله؛ لقوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾، إلاّ أنّ ذلك لا يعني سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحال، فهما واجبان برأسهما يحاسب المكلّف على تركهما كما يحاسب على ترك سائر الواجبات وارتكاب سائر المحرّمات.
اقتران القول بالعمل
ذكرنا هذا لبيان حقيقة شرعية قد تغيب عن بعض الأذهان. أمّا الحقيقة الأخلاقية التي ينبغي الإشارة إليها في ظلّ الآية المباركة فهي أنّ القول الذي لا يعمل به صاحبه لا يكون منبعثاً من القلب، وما لم يكن منبعثاً من القلب لا يقع في القلب، أي لا يؤثّر غالباً.
وقيّدنا بـ «غالباً»، لما روي في الحديث الشريف: «أنّ أناساً من أهل الجنّة اطّلعوا على أناس من أهل النار، فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنّة. فقالوا: كنّا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها»(2). وهذا يدلّ أنّ القول قد يؤثّر أحياناً وإن لم يكن صاحبه عاملاً به.
ولكن ينبغي أن يُعلم أنّ هذا الحديث لا يتنافى مع الأحاديث التي تقول: إنّ القول الذي لم يعمل به صاحبه لا يؤثّر في غيره؛ ذلك أنّ المقصود منها الغالب، أو أنّ مثل ذلك القول بمفرده لا يربّي.
ولكن يبقى هذا الحديث نذيراً لأهل العلم والمتصدّين لهداية الناس، بل هو من قواصم الظهر حقّاً إن لم يُلتفت إليه!
إنّ كثيراً من العبارات الجميلة التي تُنسب لبعض الحكماء أو المفكّرين ترى لها أصلاً في كلمات أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم، فإن لم تكن بالنصّ فبالمعنى؛ ذلك أنّ أهل البيت سلام الله عليهم ما تركوا شيئاً حسناً وجميلاً إلاّ أمروا به ودعَوا إليه، وما من سيّئة إلاّ ذمّوها ونهوا عنها، ولذلك يجد الباحث كلّ العبارات الصائبة والجميلة للحكماء مقتبسة من كلمات الرّسول وأئمّة الهدى عليهم الصلاة والسلام.
إنّ الناس لا يكونون كما تقولون، بقدر ما يكونون كما تكونون، إنّهم يأخذون من سيرتكم أكثر ممّا يأخذون من أقوالكم.
وهذا ما يراه كلّ منّا في نفسه، فإنّ الأشخاص الذين نراهم طيّبين ـ أو كنّا نراهم كذلك وانتقلوا إلى الدار الآخرة ـ إنّما تأثّرنا بسيرتهم أكثر ممّا تأثّرنا بكلماتهم، وما تأثُّرنا بكلماتهم إلاّ لأنّها طابقت أفعالهم. وبعبارة: إنّ كلماتهم التي نعتقد أنّها تتطابق مع سيرتهم هي التي أثّرت فينا وربّما غيّرتنا.

الخلاصة
يمكننا أن نُبقي سجلّنا مفتوحاً تدرج فيه الحسنات، ليبقى معه ذكرنا خالداً ونظلّ أحياء عند الله وعند الناس إذا ما استطعنا أن نؤثّر بأقوالنا، خصوصاً إذا كانت مقترنة بالعمل، فلنحاول دائماً أن نعمل بما نقول، لا أن نترك القول بذريعة عدم العمل، فيكون الحال كما ذكرته الآية الكريمة: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(3). وإذا راجعنا أنفسنا بعد كلّ قول شعرنا بمسؤولية الكلمة من جانب، وجدّدنا سعينا للالتزام بما نقول أيضاً، فيكون ذلك ترويضاً لنا، ولا شكّ أنّ مَن أراد شيئاً وعمل من أجله مستعيناً بالله تعالى بلغه أو اقترب منه.
فلو أنّ الإنسان تمرّن وروّض نفسه استطاع أن يفكّر في كلّ كلمة قبل أن يطلقها، لشعوره بمسؤوليتها.

--------------------
1) سورة الصف، الآيتان: 2ـ3.
(2) انظر مجموعة ورّام لأبي فراس الأشتري: ج2 ص135.
وفي مجمع الزوائد للهيثمي: ج1 ص185: إنّ أناساً من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار، فيقولون: لِمَ دخلتم النار؟! فوالله، ما دخلنا الجنّة إلا بما تعلّمنا منكم. فيقولون: إنا كنّا نقول ولا نفعل.

(3) سورة الصف، الآية: 3.