ياااااااااا وطني
وطني المعلّق على دالية النار، في مهبّ الشموس، آن للعنب الناضج على أصابعك أن ينهمر غيمة من العطر فوق خوابي الضوء. آن لنبيذ الكلام أن يتصلّب في الحلوق، ولمرمر الدم أن يصير سماء حمراء بلون شروق مفاجئ. آن لهذا الفضاء القرمزي أن يعبّد ما يترامى منه من صهيل الأغاني، وأن (يموسق) أناشيده على مقام الفرح.
وطني... يا ذا العينين العشبيتين، يكحّلك الظمأ فترتوي ملحاً، وتنتابك موجة من حمحمة الريح، فتهدل روابيك حداء مرّاً. لا المدن تمدّ شوارعها إليك، ولا الأرياف تزغرد في فرحك، كأن نوبة من غبار أصابت مفاصل الوقت فاربدّت الفضاءات بموسم من سعال. وطني يا صاحب العصر، (إن الإنسان لفي خسر) وإنك هداية للضالّين سواء السبيل.
القفار مغبرّة بما يعجز عن وصفه الكلام، والساحات مضمار لخيول سود، لا صهيلها صهيل، ولا أعرافها أعراف، خيول لا تشبه الخيول حين تخبّ، ولا يعرفها الوقت في انطلاقاتها الحارقة. هي والليل توأما ظلمة وظلم، يخرج الآخرون من جلودهم يا وطني، يستديرون إليك ليطعنوك، نحن في خصومة معهم، وقد نصير أعداء لأجلك.
أيها الراسخ في العقل والقلب والروح، كم من الملائكة تحوم حول أبراجك! وكم من الأنبياء اعتلوا مجدك! وطني يا من أهديت العالم بأسره أسرار وجوده، كم أنت مثخن بالطعنات وبالأحزان! وكم يعزّ عليك أبناؤك الهائمون! وطني ماذا يفيدنا أن نعرف أننا ما إن تمسّكنا بك لن نضلّ، نعرف ولا نأبه، تحيط بنا الضلالات ونزعم أننا المهتدون، فنرتدي وجوهنا الملوّثة كل صباح، ونذهب إلى بيوت يُرفع فيها اسم الله، فنعود وقد اعترتنا الفرقة أكثر وأكثر.
يا من تتوالد فينا كلّ نهار، نحملك في قلوبنا كما حملناك صغاراً في حقائبنا المدرسية، وكما سنحملك في سعالنا وشهقاتنا الأخيرة، حملنا الوصايا، وسننقلها، يغمرنا الحزن ونحن نرى (السامريّ) يشحذ سكّينه وينتظر سقوطك، ونحن نرى بيارقك تخفق في الأعالي، فلا أنت تسقط، ولا السامريّ يملّ انتظاره. سبعون عاماً، يشيخ رجال ولا يشيخ الزمان، تزول مدن وقبائل وأنظمة، وتبقى معتزاً بجغرافيتك، بتاريخك وبوعدك.
علّمتنا الحروف كيف تتلاحم فتصير كلمات، تتناسق فتصير أغاني. لكننا يا وطني لم نفهم الكلمات، ولا استعذبنا الأغاني. علمتنا قطرات الماء كيف تتّحد فتصير نهراً، وكيف تنساب فتصير مروجاً تضجّ بالحياة، غير أننا أبعدنا الغيوم عن سمائنا، طردناها أيها الجليل، فسكت النهر وحزنت الحقول. وها أنت تنبض فينا، تدقّ بقايا ضمائر، علّك تعيد إليها الحياة، أجل أيها المتشبّث بالروح فلا تفترقان.
هل تستعيدنا الأصالة يا وطني؟ وهل نستحق ذلك؟
في البال أغانٍ تنتظر النايات، وفي القلوب حرقة، فالتراب تشبّع حبراً أحمر ما أحلاه...! وعلى الأرصفة ينام أحفاد كنعان. هي لعنة، وهي وصمة عار. الأغاني تستبدل ألحانها فتصير أناشيد مرّة، بطعم دم جافّ، والحرقة ما زالت تصفع مفارق القلب وبوابات الروح. لن نخرج منك يا وطني، ولن تخرج منّا، هكذا قال الأقدمون، وهكذا نقول.