الرواة الجدد: غوغل وويكبيديا
إن هذه الفورة في النشر الالكتروني هي ظاهرة صحية -حتى وإنا شابتها النزعة القبلية وسذاجة السرد اليومي- لأنها توفر مادة غنية للمقارنة والتدقيق للباحث الجاد، وتقدم آلية لتسجيل ما علق بالذاكرة قبل أن ينتهي عهد السرد الشفهي.
كنت أتهيأ للكتابة عن دور الصحافة الشعبية في رصد وتوثيق جوانب التراث الشعبي، والحاجة الماسة لمثل هذا المشروع خصوصا مع دخولنا في القرن الواحد والعشرين والتناقص الكبير في أعداد الرواة، إلا أن أفكاري كانت تجري خلف أبيات قديمة، هربا من التركيز على كتابة فقرات تفيض بالسفسطة، فظلت كلمات البيتين تترنم في أذني ... «ونيت ونه زلزلت مصـــر... وقصور مكـــــه والشريف»... «عيّت ذلولي تقطع الجسر ... وصويحبي يّم القطيف...»
عبثا حاولت أن أتذكر مطلعها أو بقيتها فالذاكرة الخائنة ظلت تراوغ كل محاولاتي. ولعلمي بوجود كم كبير من المادة التراثية على الإنترنت، ذهبت إلى موقعي المفضل «غوغل»، وأدخلت أربع كلمات، فجاء الرد مئات المواقع... منتديات، مقالات، غرف دردشة... فما أسهل أن تقع على أثر يدلك على الطريق، حين يسكنك بيت من سامرية رقيقة وتحاول جاهدا أن تتذكر بقيتها، كل ما عليك أن تبحث عن كلمتين أو ثلاث، فتدخل: «عيت ذلولي تقطع الجسر»، لتجد نفسك أمام مئات المداخل التي تورد شطرا من القطعة الشعرية أو القطعة كاملة، وبعض الروايات عن الشاعر، وتشتعل فيك جذوة فرحة صغيرة عندما تتأمل الرقة التي تتضوع من قطعة شعرية، لرجل مغرق في نقاء البداوة «.... ياالله أنا ياوالي الامر.... يامسندي وإنت اللطيف»... «»إنك تعاوني على الصبر .... وزريع قلبي لايهيف...» في الصحراء الممتدة من دون زمن في هذه الأبيات تجدك تنظر بوضوح لأمنية هذا الرجل البسيطة، والتي لصغرها ليست سوى نبتة صغيرة، ضربت جذورها في قلبه وهو غافل، ثم نمت إلى زرعة صغيرة خضراء طرية تتماوج مع هبوب الرياح القاسية، إلا أنها تعد بأن تغدو شجرة مثقلة بوعود الخمائل في يوم من الأيام...
ويكتب أحد المدونين: «طبعا هذه القصيدة للشاعر سليمان بن علي من أهالي (سدير) وقيل إنها للشاعر ماجد الحمود الرشيد من أهالي حايل». ولو نظرت في ويكيبيديا لوجدت شيئا عن الرجل وزيجاته وشعره. وهنا أسترجع نفسي من سحر السامرية، وأعود للسؤال الأول: مع قلة المصادر المكتوبة التي توثق الحياة الاجتماعية والأدب الشعبي في نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة وعبر القرن العشرين، ما هو دور الصحافة والنشر الالكترونيين في رصد عناصر هذا التاريخ الشفهي؟ وهل هي مفيدة في جمع التراث لكل تفاصيله الدقيقة، وعرض الاختلافات الإقليمية والقبلية والحضرية؟ باختصار، هل يغدو النشر الالكتروني وريث فن الرواية والقصص، هذا الفن العتيق في هذه الصحراء الممتدة عبر زمن أزلي؟
في مطلع القرن الحادي والعشرين، ومع تناقص أعداد الرواة وحاجتتنا لرصد وتسجيل وتوثيق التفاصيل اليومية المختلفة، وتدقيق الروايات التي دونت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قبل أن تنسى أو يغيب مغزاها، وعلى الرغم من وجود عدد من المحاولات الجادة لرصد التراث الشعبي الشفهي، إلا أن هذه المحاولات لا تتجاوز الفردية، وهي في أفضل حالاتها بحاجة للتدقيق اللغوي والمراجعة التاريخية، والتحليل الإثنوغرافي لوضعها ضمن سياقها الثقافي. إن هذه الفورة في النشر الالكتروني هي ظاهرة صحية -حتى وإنا شابتها النزعة القبلية وسذاجة السرد اليومي- لأنها توفر مادة غنية للمقارنة والتدقيق للباحث الجاد، وتقدم آلية لتسجيل ما علق بالذاكرة قبل أن ينتهي عهد السرد الشفهي. ومن مميزات مثل هذه الوسيلة من النشر هي سهولة الوصول و بسرعة إلى المعلومات الأولية، مما يساعد على رسم خطوط البحث واتجاهاته خصوصا مع هذا الكم الضخم من التراث الشفهي المنتقل بالرواية والقصص. إلا أن أهم ما يميز النشر الالكتروني هو أنه آلية متاحة للجميع، دون رقابة انتقائية تفرضها المدارس النظرية التي تنشأ وتضمحل عاكسة التيارات الفكرية السائدة في زمنها، وذلك لتنوع مشارب الرواة الافتراضيين.
وحرية النشر الالكتروني توفر مادة متنوعة وكثيفة، تبرهن لنا على تنوع الهوية الثقافية، وتعدد القوالب، والبحث في هذه الروايات يجبرنا على عدم تجاهل تنوع الماضي، والتباين الجغرافي، وتنوع الأصول، وتنوع تفاصيل الحياة اليومية. وربما يكون من غير الممكن تطوير العديد من هذه القصص إلى تاريخ، لكنها قد تساعد على فهم أنفسنا وهذا العالم الذي نعيش فيه، وتشير للطريق التي من خلالها نتصالح مع التنوع بيننا فلا نعود نبحث عن وجه واحد لكل ألواننا وأطيافنا. وهكذا فإن النشر الإلكتروني يقدم آلية لتوثيق الذاكرة الجمعية، بحيث تضاف القطع المتعددة للوحة نفسها شيئا فشيئا، حتى تكتمل جوانب الصورة.
في بحثي عن هذه القطعة الشعرية وجدت اسم الشاعر، وأنه من حايل وبعض القصص عن زيجاته وقصائد أخرى له تتسربل بحسية حيية، وربما يأتي في يوم من الأيام شخص آخر يضيف على هذه السيرة المختصرة في ويكيبيديا تاريخا تقريبيا لحياته، ثم يأتي آخر فيصحح رواية أو كلمة أو يضيف قطعة أخرى وصولا إلى سيرة لحياة الشاعر وديوان لشعره، وشيئا شيئا ومع الوقت نكون قد اختزنا ذاكرتنا الجمعية،-بتناقضتها سواء تلك التي تنتج عن براءة الطبيعة الإنسانية أو عن تعمدها- على صفحة افتراضية في سجل افتراضي ونتركاها لتدقيق الباحث العلمي الرصين.