إذا كَانَ حبُّ الَأوطانِ مِن أثرُ الهَواءِ والتُرابِ فأعْلَمي إنَ لكِ أبْناءَاً بَاريّن أنتِ شِغلَ خوَاطِرِهم، وَنَجْوى سَرائِرِهم
ولَطَالما طَرقَتْهُم مِنكِ طِيوْف، كَأنّها عَليّهم وقْعَ سُيوفِ
فَارتَاعوا وَالتَاعوا ، وَكادوا يَطِيْرونَ شَوّقاً إذ مَالاَحَت لَهُم نَخْلاتُكِ البَاسِقَات...
أتَت مُلْتحِفة بِـ جِلْبابِ الظلمَةَ ، ثُمَّ دَنَت منِّي وَأيّقظَتْنِي
بِلمْسَة حَانِية بِظَاهِرُ كَفّها ، فَقِمْتُّ فَزِعاً مَذعُوراً مِن مَخْدَعِي
ثُمَّ قَالَت مُطَمْئِنَةً إيّاي : أيْ بُنيّ لا تَفزَع ولا تَجْزَع أنا أُمُّكَ
فَلا أذكِرُ إنّي عَلّمتكَ يَوّماً الخَوّفَ أو الرَهْبَنةَ ، وما أتَيّتُكَ إلا
شَوّقاً إليّك، ولتكُونَ الْلَيّلة سَمِيْري ومُسْتوْدعُ شَكاتِي ، أمّا وإنِي أرَى
فِي سُبِحاتِ وَجْهُكَ أنوَارَ صُبْحٍ قَد أقْتبَل ، فَطِرْ إلى النُجُومِ
وأسْكُنَ السَماءَ مَعَ مَن إرْتحَل ..
قَد هدّأت كَلمَاتُها مِن رُوّعِي ، وَرِحْتُ بِصَمْتِي مُغْرِقاً فِي بَصِيْصِ
عَيْنيهَا المُغْرُورقَتيّنِ بِالدُموْعِ ، عَلّنِي أسْتنْزِلُ مِنهُما صِدْقَها مِن كِذْبِها
ثُمَّ قُلْت: قَد زِدْتنِي شَغَفاً إلى حَدِيْثُكِ ، فَبِاللهِ عَليّكِ زِيدِينِي
فَقَالتْ: أيْ بُنيّ ، إسْمَع عَنِّي مَقالَتِي، قَد حَمَلْتُكم فِي بَطْنِي وَهْناً
عَلى وَهْنِ ، وَوَضَعْتَكم ألماً عَلى ألَمِ ، وَرَعَيّتكم أملاً عَلى أملِ
فَكانَت مِنكُم قِلّة جَازَتْنِي بِـ إحْسانٍ عَلى إحْسانِ ، وَكِثْرةً وَفّتْنِي
بِـ عُقُوْقٍ عَلى عُقوقِ ، بَل وجَعَلتْ لِعقُوْقِها قَوانِينَ وحَقوْقِ، وكَيّفَ
لا يَجْعَلوْها وَقَد سَقَطت الهِمَم ، وخَرَبَت الذِمَم ..
وإنَّ شَقَاءُك مِن تِلكَ القِلّة العَزِيزة كَانَ يَجْري فِي عُرُوقِهم دَمٌ
جَيّاشِ مُتَحدّر مِن أقْصَى سِفوْحَ تَأرِيْخَ الفِداءِ ، يَغْلِي فِي أوصالِهم
غَلْيَ الحِمَم فِي البَراكِينِ ، َمَن يَراهُمُ يَرى عَلى جَبِيْنِهم المُغْضِن بَرِيقَ
أنْوارِ الشَهادة ، ويَسْمعُ مِن هَمسِهم نَبْرة شَجيّة تَعْلو زَئِير أسُود
الأورَاسِ قَدِيماً ، وفِي خَفقَاتِ قُلوبِهم تَنْبِضُ مَعاركَ ضارِية بَيّن
الحَقِّ والبَاطِل..
أمّا تِلكَ الكَثْرَةُ فَترى الفَتى مِنْهُم قَائِماً فَتَخالهُ كُلَّ شَيء ، إلاّ
أن يَكونَ يَحْمِلُ بَيّنَ همَّ دِيْنهُ وَأُمّته ، أو عَلى الأقَل أن يَرعَى
حَقَّ أُمّهِ عَليّه..
ثُمّ غَطّت فِي بُكَاءٍ ونحِيب ، وَقَد إسْتَعدَى عليّ حالُها
وَأشْفقتَ عَلى مَابَلِغَ مِنْها الضَرَّ وَقُلْتُ..
مَهْ يَا أُمّاه: فَما أنتِ بِالثَكْلى ، وَكيّفَ تَكوْنِينَ ولكِ فِينا بقِيّة
نَجِد فِي حُضْنُكِ مَاتَجِدهُ الْلِيوثَ مِن عَرِينها ..
فَقِمتُ إليّها دَانِياً وأخَذتْنِي أخْذةً إلى رِحابِ صَدْرها كمَا تَلْزَقُ الَأُم
ولِيدها وتَنَسّمْتُ أنفاسُها الحَارّة المتَوَهّجة، وقُلْتُ لَها قَالةُ الآيسُ البَائس،
" ومَا بِيَدهِ العَانِي الَاسِيرِ يَاأُمّاه "
؛ تُربة العِراق ؛
هَمْسَة فَقَط: إنَ بَعضَ الَأسَى يوْلَدُ مِنهُ بَعد مَخاضٍ عسِير أمَل مُشرق ، والأمل يَبعَثُ عَلى العَمل والعملُ يَقوْد إلى النَجاة والنجاحُ فِي الدَاريّنِ..
وَتحِيّاتي لَكُم أجمعِين