غزة يا دمنا المسفوح.. أو السقوط مرة أخرى في امتحانات “الربيع”!
نبيل نايلي
“بعد الثورات العربية اعتقدت أن العرب سيطالبون بالوحدة وما فاجأني أن شيئا من هذا لم يحدث، حتى ولو على صعيد الشعارات المرفوعة.. نحن من صنع الحدود: نحن من صنع سايكس بيكو ومن قسّم الخليج العربي، ويبدو أن العرب قد استكانوا لذلك رغم أن بإمكانهم تحقيق وحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الحدود العراقية الإيرانية!” روبرت فيسك.
كلاّ، لم نتفاجأ من مواقف هذا “المجتمع الدولي” المنحاز بالكامل والخاضع للنفوذ الصهيوني، فلا الولايات المتحدة الأمريكية التي تُكرّس “قدسية أمن” الكيان لا أمن أمريكا ذاتها، أدانت أو سمحت بإدانة الجرائم الصهيونية منذ اغتصاب فلسطين، ولا منظمة الأمم المتحدة التي تساوي الجلاّد بالضحية، أثنت آلة القتل والدمار الصهيونيين، ولا الاتحاد الأوروبي هو الآخر قادر، أو حتى راغب، في ليّ ذراع ساسة الكيان وجنرالاته. ما نستغربه هو هذه المواقف العربية المحتشمة، في عزّ “الربيع” العربي، التي لا ترقى لحجم الجريمة ولا تستجيب لما تقتضيه نصرة غزة. بالمواقف العربية لا نقصد الوليد الشرعي لمشرط سايكس بيكو وعملياته القيصرية، ومن أغفلهم “الربيع”، وقد كانوا، والحق يقال، يدينون ويستنكرون رفعا للعتب، ولا حتى جامعة الغبن الرسمي، وقد “أسقطت عنها هويتها الجامعة، فعادت دويلاتها يُشكّل بعضها على قاعدة طائفية، وبعضها الآخر على قاعدة نفطية، وبعض ثالث من حول قاعدة عسكرية أو حتى على قاعدة من غاز”، فما عاد بإمكانها حتى مجرّد الإدانة والاستنكار.. بل نقصد هذه الحكومات “الثورية جدا” التي أفرزها الحراك وزكتها “الشرعية الثورية”، فصناديق الشرعية الإنتخابية!
لم ولن نطالبها بتجييش الجيوش، وإعلان النفير العام، حتى لا يُقال تلك المطالب التعجيزية، لكنّنا فقط ننتظر مواقف تُزايد، في الحد الأدنى، على مواقف نظم العسف الشاجبة، وتنسجم مع ما رُفع ويُرفع من شعارات!
كنّا تابعتنا أيام الإنتشاء “الثوري”، رغم ما شاب تصريحات الطمأنة من غموض، ورغم خطاب “ثوري” عائم تجنّب الإصداع بموقف واضح وصريح من الصراع العربي الصهيوني، تكشّف لحظة تصويت، رئيس وزراء السلطة الفلسطينية المُقال، وعضو حركة المقاومة الإسلامية، السيد اسماعيل هنية يطوف بعواصم “الربيع العربي”، ويلتقي رؤساء الحكومات، وسط صيحات “الشعب يريد تحرير فلسطين”، كما تابعنا تصريحات بعض المسؤولين الجدد، يتعهّدون بإعادة المسألة الفلسطينية لواجهة الأحداث، بعد أن كادت تُصفّى نهائيا، ويعدون بنُصرة حركات المقاومة، واستبشرنا بذلك خيرا، لكن ما يجري على أرض فلسطين اليوم، وعلى امتداد هذا الوطن المسلخ، يكشف بما لا يدع للشك أن الحمل كان،للأسف، كاذبا!
فلسطين كانت وستظلّ البوصلة والمحك، والخشية كل الخشية أنّ التراجع الذي تشهده المسألة الفلسطينية، وسط دخان “ثوري كثيف”، يوشك أن يعصف بقداستها وبما تبقّى من وهجها كقضية. وما الموقف العربي الخجول ممّا يجري في فلسطين سواء بخصوص القدس أو بخصوص العدوان الغاشم الذي لا يزال يجري بغزة، على مرأى ومسمع من “حكومات الربيع”، يحصد أرواح القادة الميدانيين ويروّع أهاليها ويدمّر ما أعيد ترميمه، إلاّ السقوط الذريع في امتحان الربيع!
هذا العدوان الصهيوني السّافر على قطاع غزة واستباحة دماء أهله ومقاوميه، يُشكّل وصمة عار وإدانة لمحترفي التزام الصمت الدولي المشين إزاء جرائم الكيان الشنيعة، وهم من يرفعون عقيرتهم متى لجأ الفلسطيني إلى الردّ والدفاع عن نفسه بأبسط ما يمتلك من وسائل الذّود عن العرض والأرض، وكأنّ الدم الفلسطيني مستباح ورخيص، ولدى الكيان الصهيوني، وحده، الحق الحصري، بإهداره متى شاء، ما دام أمن الصهاينة “مُقدّسا”، كما يتعهّد هذا الأوباما. إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية، واللّجنة الرباعية والاتحاد الأوروبي وكلّ المنظّمات والهيئات الدولية، تُصاب بالخرس وتجبُن إذا تعلّق الأمر بالكيان الصهيوني واعتداءاته وجرائمه ضد إخوتنا بفلسطين، فحريّ بالعرب أن يهبّوا لحماية غزة وأهاليها. أم أنّ ذلك سيعصف ب”التحالف الموضوعي” غير المعلن لبعض محميات الخليج مع الكيان في مواجهة الخطر الداهم “الشيعي” تارة و”الفارسي” طورا، لضرب إيران التي أضحت العدو القومي والمركزي الذي وجب تصفيته.
متى سيحوّل من يحكم اليوم باسم الانتفاضات العربية الشعبية، شعارات ساحات التحرير وهتافات المنتفضين إلى سياسات رسمية؟ لا محفل عشاء السفارة في تونس ولا موقف محروسة السيسي يوحيان بـأن الرد العربي سيكون منسوبه أرفع مما كان. ولا يتحجّجنّ علينا عرابو “الواقعية السياسية، Realpolitic” بذرائع ما أنزل الله بها من سلطان!!
حتى اليوم لم نسمع مُطلقا، ما كنّا نسمعه حين كان السيد اسماعيل هنية يطوف بعواصم “الربيع”، كما لم تبلغنا، في عصر نخوة المحميات الخليجية الزائفة، دعوات الأشاوس “إرسال قوات عربية أو حتى مشتركة” ولا حتى، رفعا للعتب القومي، عن نية تسليح للعزّل من الفلسطينيين للدّفاع عن أنفسهم في مواجهة آلة البطش الصهيونية. لا عتب عليهم فهم مشغولون بالجبهات السورية والعراقية واليمنية، أين يُرفع علم دولة خلافة لم “يأمرهم كتابهم بقتال الصهاينة”، وما دام الأمر كذلك فليعوّل الإخوة بفلسطين، كما فعلوا دائما على أنفسهم، خلال سنوات التيه الإقليمي، بانتظار أن تستعيد فلسطين مكانتها بندا رئيسيا في أعلى جدول أعمال الثوار!
*كاتب وباحث في الفكر الإستراتيجي.
خاص بانوراما الشرق الاوسط -