عندما تميل شمس العاصمة الموريتانية نواكشوط نحو الغروب ويحل 'الدحميس' بلهجة أهل البلد، تبدأ حركة المرور على طريق نواكشوط أكجوجت بالازدحام الذي يصل حد الاختناق، ويجد العابر صعوبة شديدة في التقدم بسبب وقوف السيارات على جانبي الطريق وقوفا فوضيا، مما يزيد الأمر تعقيدا، وهذا هو وقت عودة قطعان الإبل من مراعيها ووقت شراء حليبها الطازج.
وبمجرد خروج العابر من المدينة وسلوكه الطريق -الذي يكاد يختفي إسفلته بسبب زحف الرمال وقلة الصيانة وتكتنفه الكثبان الرملية العالية- يلاحظ خياما صغيرة من القماش تمتد على طول الجانب الأيسر للطريق بشكل غير متناسق يبلغ حد التنافر في بعض الأحيان.. إنها مشاريع بيع ألبان الإبل.
وخلف هذه الخيام الصغيرة تمتد الأرض الرملية التي لا تنبت سوى شجيرة صغيرة يطلق عليها السكان المحليون اسم 'التورجة'، وفيها تنتشر قطعان الإبل العائدة للتو من المراعي والتي يعمل الرعاة على تجميعها وحلبها، فلا تسمع إلا رغاء النوق وأصوات الرعاة وهم يأمرون قطعانهم بكلمات وأصوات مبهمة لا يدرك كنهها إلا الرعاة والإبل.
الطازج أفضل
وتزدحم السيارات أمام هذه المشاريع الصغيرة التي يتنافس أصحابها في الظفر بزبون، بينما يفضل بعض الزبائن -من غير المنتظمين عادة- المشي مسافة بين الكثبان حيث تبرك الإبل ليتابع عملية الحلب مباشرة ويشتري حليبا حُلب لتوّه وما زال يعلوه الزبد (الرغوة) الكثيف الناجم عن عملية الحلب.
وتعود ملكية قطعان الإبل لبعض أصحاب الأموال في البلاد، بينما يتولى الإشراف على مشاريع بيع الألبان وكلاء ينتدبون بدورهم رعاة ينتمي أغلبهم لفئات معروفة بالمهارة في رعي الإبل والعناية بشأنها وبعضهم من الأرقاء السابقين أو ما يعرفون محليا بـ'الحراطين', مقابل أجور يشتكي هؤلاء من أنها زهيدة جدا ولا تكفي لتعويض جهدهم الشاق في رعاية القطيع والقيام بعملية الحلب والإعداد للبيع.
ويباع لتر الحليب بسعر يتراوح بين 500 و600 أوقية موريتانية (حوالي دولارين) بالنسبة للأفراد، في حين تفرض الشركات -التي تتولى تجميع حليب الإبل بغية إعداده للبيع بعد بسترته- سعرا أقل بكثير وهو 250 إلى 230 أوقية موريتانية للتر الواحد (أقل من دولار واحد) مستفيدة في ذلك من خوف الرعاة من إمكانية تلف بضاعتهم إذا لم يتم بيعها خلال يومين أو ثلاثة.
مهنة مهددة
ويشتكي أصحاب هذه المشاريع من مصاعب كثيرة تواجه عملهم مما يجعل مهنتهم مهددة بالاندثار.
وتتعلق أبرز المشاكل بالفوضى وسوء التنظيم الذي يعاني منه القطاع، والغياب الكلي لأي شكل من أشكال الدعم أو الإحاطة من الدولة، وكذلك صعوبات تسويق الحليب واقتصاره على السوق المحلية لصعوبة النقل والتخزين.
ويقول عبد الله مسؤول أحد مشاريع بيع ألبان الإبل إن القطاع يفتقر إلى سلطة إشراف أو اتحاد يتولى رعاية مصالح البائعين، كما لم تعمل الدولة على توفير مكان يؤويهم، مضيفا أن الأرض التي يقيمون عليها مشاريعهم الصغيرة ملك لأشخاص قد يطردونهم في أي وقت.
كما يلاقي القطاع صعوبات كبيرة في مجال التخزين والتسويق حسب عبد الله، الذي أكد أن هذه المشاريع الصغيرة مجبرة على بيع منتجها من حليب الإبل خلال يومين أو ثلاثة وإلا فإنها ستضطر لإتلافه لعدم وجود محلات تخزين, وهو ما يجعل أصحابها يخضعون لشروط الشركات التي تتولى تجميع هذا الحليب ويبيعونها بأسعار بخسة هي من يحددها، إضافة إلى ارتفاع أسعار العلف الذي يتم تقديمه للإبل وندرته في بعض الأحيان.
يذكر أن لبن الإبل يعد المادة الأساسية الثانية -بعد اللحوم- التي يعتمد عليها غذاء الموريتانيين، ولا يكاد يخلو منه بيت خصوصا لدى الطبقات الميسورة.
ويحرص الموريتاني على تقديمه لضيوفه، كما يحرص على تعداد فوائده الصحية لإقناعك بشربه إذا أبديت تخوفا بحكم عدم الاعتياد عليه.