العراق.... موطن اول مكتبة في العالم
مثلما علم الانسان العراقي حضارات العالم قديمها وحديثها الكتابة،
حين اخترع الحرف، ونقل المعرفة من الثقافة السمعية الى الثقافة المدونة
فاختصر الزمن في نقل المعارف والعلوم والخبرات، فهو ايضاً اسس اول مكتبة في العالم،
واقول مكتبة فانني اعني المعنى العلمي الواسع لهذه الكلمة، حيث التنظيم والترتيب والفهرسة وغير ذلك.
لم تكن مكتبة الملك المثقف اشور بانيبال (669-627ق.م) اول مكتبة في العراق،
فقد سبقتها مكتبات قديمة اخرى في سومر وبابل،
ولكن لم تبلغ المكتبات العراقية القديمة مكتبة هذا الملك سعة وثراء وتنظيماً واهمية، ويؤكد الباحث الاثاري ليو اوبنهايم ما ذهبنا اليه بشان المكتبة
قائلاً: لقد حدث ان نجح الملك الاشوري العظيم اشور بانيبال ان يكون في مدينة نينوى ما يسمى
باول مكتبة منظمة في الشرق الادنى القديم.
تفرد اشور بانيبال من بين الملوك بشوق ورغبة عارمة في المعرفة، ففي رقيم يتحدث عن نفسه قائلاً
(انا اشور بانيبال فهمت حكمة (نابو) ووصلت الى جميع فنون كتابة الرقم،
وعرفت كيف اضرب بالقوس واركب الخيل والعربات وامسك اعنتها... وحباني (مردوخ) حكيم الالهة بالعلم
والفهم هدية منه... ووهب لي (اتورت) و(شركال) الرجولة والقوة والبأس
الذي لا نظير له، وعرفت صفة (آدابا) الحكيم، ومافي فن المكتبة من اسرار خفية، وقرأت في بناء الارض والسماوات وتدبرته،
وشهدت اجتماعات الكتبة، وراقبت البشائر والنذائر، وشرحت السموات مع الكهنة العلماء،
وسمعت عمليات الضرب والقسمة المعقدة التي لا تتضح لاول وهلة،
وكان من اسباب سروري ان اكرر الكتابات الجميلة الغامضة المدونة باللغة السومرية، والكتابات الاكدية التي يصعب قراءتها،
وامتطيت الامهار، وعرفت العلوم التي يعرفها الكتبة على اختلاف اصنافهم حينما يحين وقت نضجهم،
وتعلمت في الوقت نفسه ما ينفق مع السيطرة والسيادة، وسرت في طرائقي الملكية..).
بعد ان عاش اشور بانيبال معظم حياته في القصر الفخم لجده الملك سنحاريب (704-618ق.م)،
رغب ان يشيد لنفسه قصراً اخر، فاختار له ارضاً لا تبعد الا مئات الامتار شمال قصر جده وبنى فيها قصراً على شكل مربع طول ضلعه (350) متراً تقريباً،
وقد اشتملت المكتبة على قاعتين او حجرتين من القصر، وممر طويل ربما كان موقع امين المكتبة ومكان الاعارة فيها
ومن المحتمل ان المكتبة كانت توضع تحت تصرف الامراء والعلماء
ولا سيما بعض الكهنة من ر جال القانون ليدرسوا او يراجعوا مختلف الرقم التي كانت تحفظ هناك لهذا الغرض.
ومن المعتقد ان حجرة الرقم هذه التي ضمت مكتبة اشور بانيبال،
كانت في جهة منها تضم رفوفاً موازية للجدران توضع عليها الرقم، وكانت هذه الرفوف تغطى بالحصير
او تطلى بطبقة من القار لمنع تسرب الرطوبة للرقم شانها شأن بيوت الرقم السومرية والبابلية مثل مكتبة سباّر ونيبور،
وان بعض الرقم الاخرى موضوعة في سلال او جرار صنعت من الطين والقصب،
وربما وضع معها بطاقات تعريفية (tags) توضح محتويات السلة او الجرة.
كانت هذه الرقم مفخورة ما مكنها من مقاومة عاديات الزمان، اما حجمها فمختلف،
فالكبير منها يبلغ ما بين 6,5-9 بوصة، وكثير منها بحجم كف اليد، او اصغر بقليل، اما الصغيرة منها فبعضها
لا يتجاوز طوله بوصة واحدة او بوصتين، وقد وجد فيها ايضاً عدد من اوراق البردي مكتوبة باللغة الارامية.
لقد حافظت هذه المكتبة على تراث بلاد ما بين النهرين التي كانت موجودة في بابل واشور ونيبور وكيش وكوتا وسباّر فضلاً عن اداب البلدان الاخرى
التي وصل اليها رسل الملك، الذين اوصاهم برسالة منه عثر عليها
ونصها (ابحثوا عن الرقم الطينية الثمينة في دور السجلات والوثائق الموجودة لديكم والتي في اشور وارسلوها لنا،
وقد كتبت الى العاملين والمشرفين... فما من احد يمسك منكم رقيماً،
واذا رأيتم رقيماً او نصاً دينياً لم اكتب لكم عنه وترونه مفيداً لقصري فابحثوا عنه والتقطوه وارسلوا به الينا).
لقد تضمنت هذه المكتبة الملاحم العراقية الاولى كلكامش، سميرا ميس، نزول عشتار الى العالم السفلي،
والمعاهدات بين بلاد اشور وبلاد بابل، والحوليات التي ابتكرها الاشوريون حيث قاموا بتدوين النصوص الملكية والتقارير بشكل سنوي،
وقد شملت اخبار الملوك وفتوحاتهم وانتصاراتهم واهم الاحداث التي وقعت في البلدان التابعة لهم في السهل السوري وشمال العراق وسوسة،
والتقارير الادارية والعسكرية من القادة والولاة، وهناك ما يقارب الالف رقيم عن مدينة بابل واحوالها وخططها
وحصارها من قبل الملك اشور بانيبال، وهناك مجموعة رقم تحتوي على مقادير الجزية المطلوبة من المدن الموجودة في السهل الكنعاني وفلسطين،
هذا فضلاً عن دائرة معارف لقواعد اللغة الاشورية- البابلية وجدول بأسماء ضباط ايبونيوس ومعاجم تاريخية وجغرافية.
لقد ولع الملك اشور بانيبال بالسحر وعالمه الخفي لذلك وجدت مجموعة من الرقم التي تتناول السحر والطقوس الدينية
والفأل والتكهن بالغيب والتنجيم وقوائم في الفأل السماول والارضي.
وقد وجد في هذه المكتبة نوع من التصنيف العام (ببلوغرافيا) يدعى بالتصنيف الملكي، نسبة الى الملك اشور، وخصصت اركان معينة من المكتبة
لبعض الموضوعات المهمة، كما وجدت بعض المحتويات فوق رفوف مجموعات الرقم مسجلة على رقعة اضافية (tags) او بحسب وجودها في الاوعية الفخارية على الارض،
كما يعتقد ان طريقة الاعارة
التي اعتمدت على التنسيق الحسابي، كانت اعظم واقدم طريقة تخص التنظيم المكتبي.
ومن الجدير بالذكر ان المكتبة كانت تحتوي على بعض الرقم الطينية التي تضم موضوعاً
واحداً متسلسلاً على شكل كتاب يتألف من رقم متعددة بهيئة معلومة ذات قطع واحد وهامش مضبوط،
ولم تكن تخلو من التذييلات، وقد تطورت الاثبات والفهارس التاريخية في هذه المكتبة
التي ضمت قوائم منظمة في نهايتها كتب تذييل مذكور فيه ان الرقيم قد احتوى على معلومات تخص عدداً من الملوك ابتداءاً من الملك فلان الى الملك فلان.
وهذا الشكل من اشكال البطاقة التعريفية التي تشبه بطاقة الفهرسة في المكتبات الحديثة،
ولكنها ملتصقة بالرقم نفسه، وكان النساخ يدونون في معظم الاحيان هامشاً ينص على انهم نقلوا النص من النسخة الاصلية وتم تدقيقه بموجبها،
وقد عثر على رقم تنتهي بخاتمة (colophon) تشتمل على اسم الناسخ وزمان النسخ ومكانه احياناً،
وهذا ما يسمى بالتصنيف الملكي مما يدل على وجود تقليد ببلوغرافي ملفت للنظر لا يوجد ما يماثله في اية مكتبة قديمة.
ولكي يجري الحفاظ على الرقم الطينية وحماية المكتبة تذكر كثير من الرقم في خواتمها مضافاً اليها تحذيرات دينية بوجوب المحافظة عليها
وانزال العقوبة على من يعبث بها او يسرقها. وكان الاعتقاد السائد لدى الباحثين حتى الستينات ان الملك اشور بانيبال اول مكتبي ادار مكتبته الضخمة بشكل شفاف،
ولكن المكتشفات الحديثة للرقم الطينية التي قرات اخيراً اظهرت ان الشخص المدعو (عشتار- شم- ابرش)
كان المشاور الاكبر في عهد اسرحدون واشور بانيبال الذي كان يسكن مدينة كلخو مع الرقم العائدة لعائلته
وقد حازها الملك اشور منه، ولربما كان هذا الشخص قد عينه الملك لادارة مكتبة القصر.
...........
مما رآق ليـــ