تبدأ حياة الإنسان في البرزخ بموته ،وتنتهي بقيام القيامة الكبرى. فأطول مدة في البرزخ يقضيها إنسان مدة هابيل ابن آدم’، وأقصرها لآخر إنسان يموت قبل النفخ في الصور الذي تبدأ به القيامة .وهذه المدة طبعاً بحسابنا نحن ،لأن البرزخ ليس فيه زمان ولا مسافة كالدنيا . وتبدأ حياة البرزخ بأهوال الموت على العاصين،من قبض الروح،وضغطة القبر، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر .ومن رأفة الله تعالى بالإنسانالمؤمن والكافرأنه يرفع عنهماالشعور بالزمن في البرزخ . قال الله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .(الروم:55-56).وقال تعالى:كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.(الأحقاف:35).الحياة في عالم البرزخ(1) القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار !
وسئل الإمام محمد الباقر(ع) : (ما الموت؟ فقال: هو النوم الذي يأتيكم في كل ليلة إلا أنه طويل مدته،لا يُنْتَبَهُ منه إلا يوم القيامة ، فمنهم من رأى في منامه من أصناف الفرح ما لايُقَادَرُ قَدْرُه ، ومنهم من رأى في نومه من أصناف الأهوال ما لايقادر قدره. فكيف حال من فرح في الموت ووجل فيه! هذا هو الموت فاستعدوا له ). (الإعتقادات للصدوق/53).
ولايذهب بك الخيال فتتصور أن العذاب على المجرمين سهل لأنه كالمنام ، فإن النائم قد يرى مناماً مهولاً قصيراً ،يبقى مذعوراً منه كل عمره !
وروى المفيد في الإختصاص/349،عن أمير المؤمنين(ع) ، قال: ( يُفتح لولي الله من منزله من الجنة إلى قبره تسعة وتسعون باباً، يدخل عليها روحها وريحانها وطيبها ولذتها ونورها إلى يوم القيامة ، فليس شئ أحب إليه من لقاء الله .
قال: فيقول: يا رب عجل عليَّ قيام الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فإذا كانت صيحة القيامة خرج من قبره مستورةً عورته ، مسكنةً روعته ،قد أعطي الأمن والأمان، وبشر بالرضوان والروْح والريحان والخيرات الحسان ، فيستقبله الملكان اللذان كانا معه في الحياة الدنيا ،فينفضان التراب عن وجهه وعن رأسه ولا يفارقانه، ويبشرانه ويمنيانه ).
وروىالشيخ الطوسي في التهذيب(1/466) عن الإمام الصادق(ع) :(المؤمن إذا قبضه الله تعالىصيَّرَ روحه في قالب كقالبه في الدنيا،فيأكلون ويشربون. فإذا قدم عليهم القادم عرفوهبتلك الصورة التي كانت في الدنيا..لو رأيته لقلت فلان) .
أي أن أهل جنة البرزخ يسألون القادم عليهم من الدنيا عن أقاربهم ومعارفهم ، فإن قال لهم إنه مات ، ولم يأت اليهم عرفوا أنه ليس من أهل الجنة فيقولون: هوى ، هوى !
وسبب معرفتهم للميت أن روحه تلبس بدناً شفافاً يشبه بدنها الأصلي .
وفي الكافي (3/245): (عن أبي عبد الله(ع) قال:سألته عن أرواح المشركين فقال: في النار يعذبون يقولون: ربنا لاتقم لنا الساعة ،ولا تنجز لنا ما وعدتنا ،ولا تلحق آخرنا بأولنا) .
وفي الكافي(3/244): (عن أبي ولاد الحناط،عن أبي عبد الله(ع) قال قلت له: جعلت فداك،يَرْوُون أن أرواح المؤمنين في حواصلطيور خُضْـرٍ حول العرش؟ فقال: لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه فيحوصلة طير ،ولكن في أبدان كأبدانهم .
عن يونس بن ظبيان قال:كنت عند أبي عبد الله(ع) فقال:ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟فقلت: يقولونتكون في حواصل طيور خضر ،في قناديل تحت العرش . فقال أبو عبد الله(ع) : سبحان الله ،المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير. يا يونس إذا كان ذلك أتاه محمد(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والملائكة المقربون،فإذا قبضه الله عز وجل صير تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ،فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا .
إن أرواح المؤمنين لفي شجرةمن الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربنا أقم الساعة لنا،وأنجز لنا ما وعدتنا ،والحق آخرنا بأولنا..إن الأرواح فيصفة الأجساد في شجرةفي الجنة(وفي رواية: في حجرات في الجنة) تَعَارَفَ وتَسَاءلُ . فإذا قدمت الروح على الأرواحيقال دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم. ثم يسألونها:مافعل فلان وما فعل فلان؟فإن قالت لهم: تركته حياً ارتجوه وإن قالت لهم: قد هلك . قالوا: قد هوى هوى )!
وتقدم في الفصل الثالث حديث مفصلعن الإمام الصادق(ع) ، وفيه حقائق مهمة عن تفاوت الروح والبدن في الكثافة والشفافية ، وأن لكل منهما قوانين غير الآخر ، وأنهما إذا انفصلا تصعد الروح الى عالمها .قال(ع) : (إنما صار الإنسان يأكل ويشرب بالنار،ويبصر ويعمل بالنور،ويسمع ويشم بالريح ،ويجد طعم الطعام والشراب بالماء،ويتحرك بالروح ، ولولا أن النار في معدته ماهضمتالطعاموالشراب في جوفه . ولولا الريح ما التهبت نار المعدة ولا خرج الثقل من بطنه،ولولا الروح ما تحرك ولا جاء ولا ذهب ، ولولا برد الماء لأحرقته نار المعدة،ولولا النور ما بصر ولا عقل . فالطين صورته ، والعظم في جسده بمنزلة الشجرة فيالأرض،والدم في جسده بمنزلة الماء في الأرض ، ولا قوام للأرض إلا بالماء ، ولاقوام لجسد الإنسان إلا بالدم ،والمخ دسم الدم وزبده . فهكذا الإنسان خلق من شأن الدنيا وشأن الآخرة، فإذا جمع الله بينهما صارت حياته في الأرض ، لأنه نزل من شأن السماء إلى الدنيا، فإذا فرق الله بينهما صارت تلك الفرقة الموت ، ترد شأن الأخرى إلى السماء، فالحياة في الأرض والموت في السماء. وذلك أنه يفرق بين الأرواح والجسد، فردت الروح والنور إلى القدرة الأولى وترك الجسد لأنه من شأن الدنيا). الخ. (علل الشرائع:1/107).
وروى الصدوق في الخصال/119، حديثاً بسند صحيح عندهم:(حدثنا عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري قال: قال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) :أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت . والساعة التي يقوم فيها من قبره . والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى ، فإما إلى الجنة وإما إلى النار .
ثم قال: إن نجوت يا ابن آدم عند الموت فأنت أنت ،وإلا هلكت .
وإن نجوت يا ابن آدم حين توضع في قبرك فأنت أنت ، وإلا هلكت.
وإن نجوت حين يُحمل الناس على الصراطفأنت أنت ،وإلا هلكت.
وإن نجوت حين يقوم الناس لرب العالمين فأنت أنت ،وإلا هلكت .
ثم تلا: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قال:هو القبر . فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. والله إن القبر لروضةٌ من رياض الجنة ،أو حفرةٌ من حفر النار ).
تحصر أحاديث أهل البيت(ع) العذاب في البرزخ بمن عرف الحق وجحده وعاند وكابر ،أما الباقون فهم متروكون الى أن تقوم القيامة .(2) عذاب البرزخ خاص بالمكابرين !
بل ورد أن غير المعاندين تفتح لهم في البرزخ منافذ نعيمبشكل ما على قبورهم .
ففي الكافي (3/246): (عن ضريس الكناسي، عن أبي جعفر(ع) قال قلت له: جعلت فداك ما حال الموحدين المقرين بنبوة محمد(ص) من المسلمين المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال: أما هؤلاء فإنهم في حُفَرهم ولا يخرجون منها ، فمن كان له عمل صالح ولم تظهر منه عداوة،فإنه يُخَدُّ له خَدٌّ(قناة) إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب،فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة، حتى يلقى الله فيحاسب بحسناته وسيئاته ، فإما إلى الجنة وإما إلى النار . فهؤلاء الموقوفون لأمر الله . قال:وكذلك يفعل بالمستضعفين،والبُلْهِ،والأطفال ،وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم ).
وهذا ينسجم مع ماورد عن الأئمة(ع) في سعة دائرة المرجون لأمر تعالى .
ففي الكافي(2/399):(عن محمد بن مسلم قال:كنت عند أبي عبد الله(ع) جالساً عن يساره وزرارة عن يمينه ، فدخل عليه أبو بصيرفقال: يا أباعبدالله ما تقول فيمن شك في الله؟فقال: كافر يا أبا محمد. قال: فشك في رسول الله؟فقال: كافر. قال: ثم التفت إلى زرارة فقال:إنما يكفر إذا جحد).أي إذا أقيم له الدليل ،وكابر .
وفي الكافي (2/382):أن زرارة قال للإمام الباقر(ع) : (إنا نمد المطمار . قال: وما المطمار؟ قلت: التِّرّ ( خيط البناء) فمن وافقنا من عَلَوِيٍّ أو غيره توليناه، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه. فقال لي: يا زرارة ،قول الله أصدق من قولك فأين الذين قال الله عز وجل: إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. أين المُرْجَوْنَ لأمر الله؟ أين الذين خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ؟ أين أصحاب الأعراف . أين المؤلفة قلوبهم) ؟
وفي الكافي (2/405): (عن إسماعيلالجعفي قال: سألت أبا جعفر(ع) عن الدين الذي لايسع العباد جهله؟فقال: الدينواسع، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم ) !
وردت أحاديث عديدة في زيارة الميت المؤمن والكافر لأهلهما،ففيالكافي (3/230، و231) عن الإمام الصادق(ع) قال: ( إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب ،ويستر عنه ما يكره. وإن الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحب . قال:ومنهم من يزور كل جمعة،ومنهم من يزور ،على قدر عمله .(3) زيارة الميت المؤمن والكافرلأهله
وقال(ع) : (ما من مؤمن ولا كافر إلا وهو يأتي أهله عند زوال الشمس،فإذا رأى أهله يعملون بالصالحات،حمد الله على ذلك ،وإذا رأى الكافر أهله يعملون بالصالحات كانت عليه حسرة .
عن عبد الرحيم القصير قال قلت له: المؤمن يزور أهله؟ فقال: نعم يستأذن ربه فيأذن له ،فيبعث معه ملكين فيأتيهم في بعض صور الطير يقع في داره ،ينظر إليهم ،ويسمع كلامهم.
عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن الأول(ع) : يزور المؤمن أهله؟فقال: نعم . فقلت: في كم؟قال: على قدر فضائلهم ،منهم من يزور في كل يوم ،ومنهم من يزور في كل يومين ،ومنهم من يزور في كل ثلاثة أيام ، قال: ثم رأيت في مجرى كلامه أنه يقول: أدناهم منزلة يزور كل جمعة قال قلت: في أي ساعة؟ قال عند زوال الشمس ،ومثل ذلك . قال قلت: في أي صورة؟قال: في صورة العصفور أو أصغر من ذلك ،فيبعث الله تعالى معه ملكاً فيريه ما يسره ويستر عنه ما يكره ،فيرى ما يسره ويرجع إلى قرة عين .
قال(ع) :في صورة طائر لطيف،يسقط على جدرهم ويشرف عليهمفإن رآهم بخير فرح،وإن رآهم بشر وحاجة ،حزنواغتم ) .
أقول: يفهم منه أنه يزورهم على صورة طائر شفاف ليس من نوع الطيور المعروفة ، فهو غير قابل للرؤية العادية ، إلا لمن له بصيرة خاصة . وقدرة الروح أن تتخذ شكل طائر شفاف له عقل إنسان ، يدل على إمكاناتها الكبيرة في حياة البرزخ .
ويفهم منه أن معاصيهم تُستر عنه، لكنه يعرف أنهم يعملون الصالحات أو الطالحات . كما يعرف حالتهم المادية ،وهل هم في سعة أو ضيق: (وإن رآهم بشر وحاجة،حزن واغتم) وإذا اغتم لهم فقد يدعو الله أن يرزقهم ويوسع عليهم ، فيستجيب الله له .
وهذا يعني أن بعض الناس يعيشون في سعة ،ببركة أمواتهم .
يتميز فقه أهل البيت(ع) بأنه يقول إن الخط مفتوح بين الميت وبين أهل الدنيا فيمكن أن نعمل أي عمل ونهدي ثوابه الى الميت ، ويصل ثوابه اليه ويأنس به ،ويؤثر ذلك في غفران سيئاته ، وزيادة حسناته ، ورفع درجاته .(4) العلاقة بين الميت وأهل الدنيا
قال المحقق الحلي(ره) في المعتبر(1/340): ( كل ما يفعله الحي من القُرَب يجوز أن يجعل ثوابها للميت ، لما روي عن النبي(ص) أنه قال لعمرو بن العاص:لو كان أبوك مسلماً فأعتقتم عنهأو تصدقتم عنه أو حججتم عنه ،بلغه ذلك .
ومن طريق الأصحاب ما رواه عمر بن يزيد عن أبي عبد الله(ع) : يُصَلَّى عن الميت ؟فقال:نعم ،حتى أنه يكون في ضيق فيُوسع عليه ،ويقال له خُفف عنك بصلاة أخيك عنك . وقال(ع) :من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً،أضعف له أجره ،ونفع الله به الميت .
احتج المانع بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى .وبقوله(ص) :إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ،أو علم ينتفع به من بعده ،أو ولد صالح يدعو له .
والجواب عن الآية: أن سعيه في تحصيل الإسلام يُصَيِّرُهُ بحالٍ ينفعه ما يهدى له من أفعال البر ،وكأنه فعله . وأما الخبر، فدالٌّ على انقطاع عمله ،ولا يدل على انقطاع ما يتجدد من عمل غيره ،ويهدى إليه).
أقول: هذا منطق قوي لم يستطع فقهاء المذاهب الأخرى أن يواجهوه ،فتمسكوا بأقوال واهية،لقدماء ومتأخرين . بل استعمل مشايخ الوهابية الحيلةلرده ،فقالوا في فتاويهم (1/59): (الأصل في الأموات أنهم لايسمعون نداء من ناداهم من الناس ولايستجيبون دعاء من دعاهم ، ولا يتكلمون مع الأحياء من البشر، ولو كانوا أنبياء ، بل انقطع عملهم بموتهم ،لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ).
فاستدلوا بعدم سماع الميت لصوت الحي ، وأن معنى انقطاع عمله هو في الحديث النبوي انقطاع وصول عمل الأحياء المهدى اليه ! وربطوا الموضوع بآية النهي عن عبادة المعبودين من دون الله تعالى، وهي غريبة عنه !
ومن أحسن من حرر هذه المسألة الشهيد الثاني(ره) في كتابه ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة (2/66)فقد استدل على وصول أعمال الخير الى الميت بآيات وأربعين حديثاً ، منها قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلآخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالآيمَانِ . ومعناه أن نفع الإستغفار يصل اليهم . وكذلك قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .
واستدل بقول النبي(ص) : اللهم اغفر لحينا وميتنا. وقول الإمام الصادق(ع) : إن الميت يفرح بالترحم عليه والإستغفار له ،كما يفرح الحي بالهدية تهدى إليه .
وقال: وفي البخاري وغيره عن ابن عباس: قال رجل إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت . فقال النبي(ص) : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ قال: نعم . قال فاقض دين الله ،فهو أحق بالقضاء .
وعن الصادق(ع) :ستة تلحق المؤمن بعد وفاته:ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجريه ، وقليب يحفره ، وسنة يؤخذ بها من بعده . وعنه(ع) :من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً، أضعف له أجره ونفع الله عز وجل به الميت .
ثم أورد(رحمه الله) أربعين حديثاً من كتاب غياث سلطان الورى لابن طاووس(رحمه الله) ، منها: عن ابن أبي عمير ،أن هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق(ع) :يصل إلى الميت الدعاء والصدقة والصلاة ونحو هذا ؟ قال: نعم . قلت: أو يعلم من صنع ذلك به ؟ قال: نعم . ثم قال: يكون مسخوطاً عليه ،فيُرضى عنه !
ومنها: أن الإمام الكاظم(ع) سئل عن الرجل يحج ويعتمر ويصلي ويصوم ويتصدق عن والديه وذوي قرابته؟قال: لا بأس به ،يؤجر فيما يصنع، وله أجر آخر بصلته قرابته . قلت: وإن كان لا يرى ما أرى وهو ناصب؟ قال: يخفف عنه بعض ما هو فيه .
ومنها: عن الإمام الصادق(ع) : إن الصلاة والصوم والصدقة والحج والعمرة ، وكل عمل صالح، ينفع الميت . حتى أن الميت ليكون في ضيق فيوسع عليه ، ويقال إن هذا بعمل ابنك فلان ،وبعمل أخيك فلان ،أخوه في الدين .
ثم قال الشهيد(رحمه الله) : (فهذه أربعون حديثاً،خالية عن معارض) .
أقول: كل هذا فيما إذا لم يوص الميت ، أما إذا أوصى بعمل فإن ثوابه يصل اليه ، ويجب على الحي تنفيذ وصيته .
قال محمد بن مسلم الثقفي سألت الصادق(ع) : عن رجل أوصى بماله في سبيل الله قال:أعطه لمن أوصى له وإن كان يهودياً أو نصرانياً،إن الله عز وجل يقول: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ. (الوسائل:13/417).
وينبغيالتذكير هنا بوصية الإمام الصادق(ع) أن تتوجه الى ربك جيداً عندما تدعو الى الميت، لأن ذلك مؤثر في استجابة الدعاء. وأن تستحضر الميتلأن ذلك مؤثر في ارتباطك به . قال(ع) :(كان علي(ع) يقول: إذا دعا أحدكم للميت فلا يدعو له وقلبه لاه عنهولكن ليجتهد له في الدعاء). (الكافي:2/473).
هل أن الجنة التي تعيش فيها أرواح المؤمنين في البرزخ ،نفس جنة الخلد الموعودة في الآخرة ،أم جنةٌ أخرى في أفق الأرض ، أوفي آفاق السماء ؟(5) جنة البرزخ غير جنة الخلود
نصَّ القرآن على أنها جنة أخرى غير جنة الخلد ، فقال تعالى عن فرعون وآله:وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. (غافر:45-46) .
وهو نصٌّ على أن فرعون يلاقي عذاباً في البرزخ في محيط فيه شمس وصباح ومساء ،وجنة الخلد ليس فيها شمس ،فمعناه أن جنة البرزخ وناره غير جنة الخلد وناره .
وفي تفسير علي بن بن إبراهيم القمي(2/258): (قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا،قال: ذلك في الدنيا قبل القيامة ،وذلك أن في القيامة لا يكون غدوٌّ ولا عشيّ، لأن الغدو والعشي إنما يكون في الشمس والقمر ، وليس في جنان الخلد ونيرانها شمس ولا قمر .
قال: وقال رجل لأبي عبد الله(ع) : ما تقول في قول الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا؟فقال أبو عبد الله(ع) : ما تقول الناس فيها؟ فقال يقولون إنها في نار الخلد وهم لا يعذبون فيما بين ذلك .فقال(ع) فهم من السعداء؟ فقيل له: جعلت فداك فكيف هذا ؟ فقال: إنما هذا في الدنيا ،وأما في نار الخلد فهو قوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
بل نص القرآن على أن جنة الخلد نفسها متعددة ، قال تعالى:وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . (الرحمن: 46) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ . (الرحمن: 62) .
كما ورد عن أهل البيت(ع) أن جنة آدم(ع) غيرجنة الخلد . قال الحسن بن بشارإنه سأل الإمام الصادق(ع) عن جنة آدم فقال: (جنة من جنات الدنيا تطلع عليه فيها الشمس والقمر،ولو كانت من جنات الخلد ما خرج منها أبداً).(علل الشرائع: 2/600 ، والكافي:3/247).
وقال الصدوق في الإعتقادات/79:(وأما جنة آدم(ع) ، فهي جنة من جنان الدنيا ، تطلع الشمس فيها وتغيب ، وليست بجنة الخلد ).
أين تقع جنة البرزخ ،من هذه الجنات ؟
ينبغي أن نتذكر أن المواصلات في عالم البرزخ محلولة وأن التنقل فيه سهل .
وأن المكان عندنا ظرف واحد وحيٍّزٌ لا يتسع لأكثر من وجود مادي يملؤه ،أماعالم البرزخ فيتسع فيه المكان ليكون ظرفاً لوجودين في آن واحد !
بل إن محيط أرضنااليوم ظرف لحياتنا،وظرف لمواطنين آخرين من الجن ،يعيشون معنا في جونا ،ويصعدون الى قرب الملأ الأعلى الملائكة ،ولا نشعر بهم إلا قليلاً !
والذي أعتقده أن مدخل جنة البرزخ من جهة غرب الأرض ،ومدخل النار من جهة شرقها ،كما نصعلى ذلك حديث في درجة عالية من الصحة، رواه ضريس الكناسي عن الإمام الباقر(ع) ، رواه ثقة الإسلام الكليني(رحمه الله) في الكافي (3/246)،قال ضريس: (سألت أبا جعفر(ع) أن الناس يذكرون أن فراتنا يخرج من الجنة ،فكيف هو وهويقبل من المغرب،وتصب فيه العيون والأودية؟
قالفقال أبو جعفر(ع) وأنا أسمع:إن لله جنة خلقها الله في المغربوماء فراتكم يخرج منها،وإليها تخرج أرواح المؤمنينمن حفرهم عند كل مساء ،فتسقط على ثمارها وتأكل منها وتتنعم فيها ،وتتلاقى وتتعارف،فإذا طلع الفجر هاجت من الجنة،فكانت في الهواء فيما بين السماء والأرض ،تطيرذاهبة وجائية وتَعَهَّدُ حفرها(قبور أصحابها أو مساكنها) إذا طلعت الشمسوتتلاقى في الهواء وتتعارف .
قال:وإن لله ناراً في المشرق خلقها، تسكنها أرواح الكفار ويأكلون من زقومها ويشربونمن حميمها ليلهم،فإذا طلع الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له برهوت،أشد حراًمن نيران الدنيا فكانوا فيها ،يتلاقون ويتعارفونفإذا كان المساء عادوا إلى النار. فهمكذلك إلى يوم القيامة .
قال قلت:أصلحك الله فما حال الموحدين المقرين بنبوة محمد(ص) من المسلمين المذنبين الذين يموتون ،وليس لهم إمام ،ولايعرفون ولايتكم؟
فقال:أما هؤلاء فإنهم في حفرتهم لايخرجون منها،فمن كان منهم له عمل صالح ولم يظهر منه عداوة،فإنه يخد له خد إلى الجنة التي خلقها الله في المغرب فيدخل عليه منها الروح فيحفرته إلى يوم القيامة ،فيلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيئاته ،فإما إلى الجنة وإما إلى النار .
فهؤلاء موقوفون لأمر الله . قال: وكذلك يفعل الله بالمستضعفين ،والبُلْهِ،والأطفال، وأولادالمسلمين الذين لم يبلغوا الحلم .
فأما النُّصَّاب من أهل القبلة،فإنهم يُخَدُّ لهم خد إلى النار التيخلقها الله في المشرق ،فيدخل عليهم منها اللهب والشرر والدخان ،وفورة الحميم ،إلىيوم القيامة،ثم مصيرهم إلى الحميم،ثم في النار يسجرون . ثم قيل لهم: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أين إمامكم الذي اتخذتموه دون الإمام الذي جعله الله للناسإماماً) !
أقول:رغم تطور العلوم في عصرنا، واكتشاف أنواع الأشعة والموجودات في فضاء أرضنا،فما زالت معلوماتنا عن المكان والفضاء وتحيز الأشياء محدودة .
وهذا الحديث يؤكد وجود جنة مدخلها من فضاء الأرضمن جهة المغرب ، يزورها المؤمنون ويتنعمون فيها يومياً في مرحلة البرزخ . وأن أصل منابع الفرات منها ، فلا بد أن تكون منابعه الظاهرة مرتبطة بها بنحو من الأنحاء ! أما النار فمدخلها من جهة المشرق ،وتسكنها أرواح الفجار ليلاً ، ويعودون الى وادي برهوت نهاراً .
روت مصادرنا أحاديث صحيحة في وجود مجمع لأرواح المؤمنين ،ومجمع أرواح الكفار في الأرض ، بل أكثر من مجمع .(6) أماكن تجمع أرواح المؤمنين والكفار
مجمع أرواح المؤمنين وادي السلام:
في الكافي(3/243): (عن حبة العرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين(ع) إلى الظهر (ظهر الكوفة) فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام،فقمت بقيامه حتى أعييت،ثم جلست حتى مللت ،ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولاً .
ثم جلست حتى مللت ، ثم قمت وجمعت ردائي فقلت: يا أمير المؤمنين ،إني قد أشفقت عليك من طول القيام ،فراحةُ ساعة . ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي: يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته .
قال قلت: يا أمير المؤمنين وإنهم لكذلك. قال: نعم ،ولو كُشِفَ لك لرأيتهم حلقاً حلقاً مُحْتَبِينَ يتحادثون ! فقلت: أجسامٌ أم أرواح؟ فقال: أرواح . وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض ، إلا قيل لروحه إلحقي بوادي السلام . وإنها لبقعة من جنة عدن..
عن أحمد بن عمر رفعه عن أبي عبد الله(ع) قالقلت له:إن أخي ببغداد وأخاف أن يموت بها،فقال: ما تبالي حيثما مات ،أما إنه لا يبقى مؤمن شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام .قلت له: وأين وادي السلام؟قال: ظهر الكوفة ، أما إني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون ).
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق(1/213): (عن محمد بن مسلم قال:سألت الصادق عن قول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ؟قال: الربوة النجف ،والقرار المسجد ،والمعين الفرات . ثم قال: إن نفقة الدرهم الواحد بالكوفة يعدل بمائة درهم في غيرها ،والركعة بمئة ركعة . ومن أحب أن يتوضأ من ماء الجنة ويشرب من ماء الجنة ويغتسل بماء الجنة ،فعليه بماء الفرات ،فإن فيه شعبتين من الجنة ،وينزل من الجنة كل ليلة مثقالان من مسك في الفرات .
وكان أمير المؤمنين علي يأتي النجف ويقول:وادي السلام ومجمع أرواح المؤمنين ونعم المضجع للمؤمن هذا المكان.وكان يقول: اللهم اجعل قبري بها. اللهم اجعل قبري بها .قال أبو الغنائم:في النجف ماء طيب تنزله العرب يقال له السلام).
مجمع أرواح الكفار في برهوت:
روى في الكافي(3/246و286) عن أمير المؤمنين(ع) قال: (شر بئر في النار برهوت الذي فيه أرواح الكفار . وقال(ع) : شر ماء على وجه الأرض ماء برهوت ،وهو الذي بحضرموت ،ترده هامُ الكفار .
وقال(ع) : ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض ، وشر ماء على وجه الأرض ماء برهوت الذي بحضر موت ، ترده هام الكفار بالليل .
وعن الصادق(ع) : قال رسول الله(ص) : شر اليهود يهود بيسان ، وشر النصارى نصارى نجران ،وخير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ،وشر ماء على وجه الأرض ماء برهوت،و هو واد بحضرموت ،يرد عليه هام الكفار وصداهم ).
وفي تاريخ دمشق(2/344) عن عبد الله بن عمرو قال: ( أرواح المؤمنين تجمع بالجانبين،وأرواح الكفار تجمع ببرهوت وفي سفحه لحضرموت . قال أبو حاتم: الجانبين اليمن ،وبرهوت من ناحية اليمن ،ولا أدري تفسير أبي حاتم للجانبين محفوظاً،والله تعالى أعلم).
وفي تاريخ دمشق(64/267)عن حذيفة قال: (قال رسول الله(ص) :لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة ،في واد يقال له برهوت ،تغشى الناس فيها عذاب أليم،تأكل الأنفس والأموال،تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام ،تطير طير الريح والسحاب،حرها بالليل أشد من حرها بالنهار ،ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف،هو من رؤوس الخلائق بالنهار أدنى من العرش . قلت: يا رسول الله أسليمة هي يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟قال: وأين المؤمنون والمؤمنات يومئذ هم شر من الحمر،يتسافدون كما تتسافد البهائم،وليس فيهم رجل يقول مَهْ مَهْ).
أقول: وردت أحاديث عديدة في مصادر الطرفين عن هذه النار وأنها نار المحشر، وأن القيامة تقوم على شرار الناس . وسيأتي .
~~