توقف المطر بعد ليلة غزيرة بالاحزان .. رفع عينه ُ عن اوراقه ِ و تناسى همومه ُ
نورت مخيلته ُ اشعه الشمس المنسابه عبر النافذه ..
و اعلن تغريد العصافير بدايه نهار جديد و نهايه جرحِ الحبيب
تذكر كلماتها له ُ و عهدها بالحب الابدي .. يا ترى هل ازالتها قطرات المطر .. ؟
و الحان همساتها التي حملتها ريح الصَبا الى قلبه ُ ... أطغت عليها صرخات الغدر ... ؟
اسرت مخيلته ُ بكلامها الوردي .. قالت له ُ احبك ... احبك ... احبك
شاركها احلامه ُ و جعلها مكتبه اسراره .. حلق معها بين نجوم الليل و اهداها قمره ُ
ينظر الى الورد فيرى طيفها .. و يعجز قلمه ُ عن وصفها
فهو احبها .... ادمن هواها و لكنها ..... خذلت حبيبها , خذلته ُ ....
ابعدته ُ من على دنياه و اخذته ُ الى مملكتها .. روته ُ السم من شفتيها
استباحت قلمه ُ .. كَتبتْ به اشعارا ُ و خواطر .. مدحاً و غزلاً بها ...
لكنها سرعان ما استنفذت كذبها .. بانَ سحرها و انكشف زورها
لاول مرة ٍ رأى الاشواك في الورود .. و تبين له ُ ان الغدر اساسُ في الوجود
نهض من على كرسيه ِ .. و وقف امام مرآته ِ..
قال : (( اه ُ من الدنيا .. الدنيا انثى لا تعرف اوساط الحلول .. أمـا تبتسم او تبكي .. ))
و ترقرقت في عينه ِ دمعة .. حاول ان يُـبقي كلام الليل بعيدا ً عن عيون النهار
ترجل وليد الى مكتبته متوكلا ً على الله ليبدأ يوم عمله ِ ..
كالعادة بدأ يتنقل بين اكداس الكتب , يصفها في الرفوف , و يزيل عنها غبار الزمن ..
هناك رأى شيخا كبيراَ .. عند زاوية كتب التاريخ .. يبحث بينها بشغف
كأنه ُ يبحث عن ماض ٍ غابر .. عن أثار زمن ٍ مدفونة ٍ بين حروف السطور ..
يتناول الكتب و يقلب اوراقها يمينا ً و يسارا ً يبحث بين غبواتها ..
تعجب وليد من هذا المنظر .. فهو لم يرى شخصا ً يبحث بين كتبه بكل هذا الشغف
ذهب الى مكتبه ِ و هو يراقب بصمت و فضول عارم ..
انتقى الشيخ مجموعة من الكتب و اتجه الى زاوية هادئه .. و هناك غمره السكون
مضت ساعات النهار و وليد لم تفارق عينه ُ الشيخ الغريب
غابت الشمس .. و أسدل الليل ستاره ُ المتلألأ بالنجوم ..
اقدم وليد على اغلاق المكتبة و العودة الى بيته ِ الحزين
تقدم نحو الشيخ الهادئ و قال : (( يا جدي اعتذر عن ازعاجكـ َ ولكني اترخصكـ َ فقد حانت نهاية العمل ))
نزلت من عين الشيخ دمعه, حاول كتمانها في جوفه ِ الا انها أبت ذاك ..
قال : (( اين هي .. ضاعت .. دفنت مع الايام .. ))
وقف وليد كالصنم و قد غدره ُ تعبيره .. ساكن ُ هناك لا يدري ما العمل !
قال الشيخ : (( يا بني .. أن الاوان لكي يسمع القمر عـتابي و تعرف النجوم غدر الزمان و ضعف الكيان ..
فقد ضاعت .. ضاعت الاحلام و دفنت مع ما ولى من الايام ..
و لم يبق َ للعمر بقية .. فقد شاب الرأس و كهل القلب و أحترقت العين بدمعها ))
تبادرت الى ذهن وليد كلماته التي كتبها بين اوراق خواطره في ليلته ِ السابقة ..
فهو ايضا ً ضاعت احلامه َ بضياع حبه ِ .. و الذكريات الان هي ما يشيع النبض في القلب المكلوم
قال : (( ما بكـ َ يا شيخي .. يا ترى افقدت الحبيب .. ؟ أم راودتك ذكريات الزمن .. ))
اخرج الشيخ صورة من جيبه ِ .. وضعها بين يدي وليد ..
قال له ُ (( أنظر .. ذاك أنا .. في ايام الشباب .. كان يطغي علينا الطموح و ينير حياتنا الامل
عشقنا .. و كتبنا ذكريات ِ على اغصان الشجر .. و سافرنا بخيالنا الى عالم ٍ رسمناه ُ بأيدينا
نبحر فيه ِ من دون طوق ِ نجاة .. لا ندري أن الغرق في الاحلام اقتل من غرق البحور .. ))
دقت الساعة العاشرة ليلا ُ و ما زال المغدوران يتكلمان بلغة الالغاز
لا يعرف اي ُ منهما سبب جرح الاخر .. لكنهما يعلمان أن ضياع احلامها هو ما جمعهما في ليلتهم هذه
أطرق الشيخ في كلامه ِ : (( يا بني دعكــَ مني الان فأنا ارى فيكــَ حزنا ًَ رهيبا ً.. ))
بصمت ٍ طغى عليه انين الروح .. اطلق الجسد تنهيده كأنها ثورة بركان .. لتفريغ القليل مما فيه ..
من حرارة الالم و الحزن .. قال وليد : (( يا جدي كنت احبها و غدرتني .. و ما انت بغريب عن مأساتي .. أليس كذالك .. ؟ ))
الشيخ مستهزا ً : (( لا يا بني .. غدرك انسان و غدرني الزمان .. بعد كل هذا الكلام تظنني ابكي حبا ً .. ؟
نعم .. ابكي حبا ً .. ابكي حب وطن و حب زمن .. ابكي على احلامي التي هـَوت ْ مع الضمائر في زمان تلاشت فيه
الحياة .. يا بني لهب الحرب احرق الامل في النفوس و اثار الدمار في الافئدة ..
حتى اغصان الاشجار لم تسلم .. ا ُحرقت و ذوت معها ذكريات الايام السعيدة ..
و مضت العقول تتأرجح على الهاوية .. منها ما نجى من طوفان الموت بالهرب
و منها ما سقط في هاوية الخوف الى مستقبل مجهول البداية .. مثلي أنا .. ))
نهض الشيخ و جمع اوراقه ُ المبعثرة و فارق وليد بعد ان وضع بين يديه ِ قصاصة ورق
كتب عليها : غدرك انسان و غدرني الزمان
كانت هذه نهاية اللقاء بينهما .. ويا له من لقاء .. دموع و كبرياء
مضى وليد الى داره ِ و قد غمرته ُ الدنيا بغضب ٍ يهز ُ الجبال .. غضب من المجهول الغادر
جلس على طاولته ِ و تناول اوراق ليلته ِ الماضية .. مزقها بيدية ِ و تركـ َ اشلائها اسيرة الرياح الهائجة المتدفقة عبر
النافذة .. و بين الظلام و البرد كانت هناك دمعة وجدت طريقها الى احضانه ِ
دمعة ُ اعلنت بداية حياة جديدة بعد ان ادركـ َ وليد كلام الشيخ و ما دار بينهما في لقائهما ..
تــناول ورقة ً بيــضاء و خــط عليــها كــلمات :
(( نعم انه القدر .. هو الذي جمعني بهذا الرجل .. فحياته ُ قد جمعت اسوأ مخاوفي ..
اراه لان و قد ثـقـل َ عليه ِ حمل الزمن , فارى نفسي كطفل ٍ يبكي على لعبته ِ الضائعة
اه منك يا نــفسي .. راودتني و جعلتني أنحــني لغــدر انسان ..
لن انسى ليلتي السابقة فهي ذكرى خضوعي و لن انسى درس الشيخ ))
استلقى على فراشه ِ و تغزو مخيلته الافكار .. لم يغمض له ُ جفن طول ليلته ِ
و في الصباح .. رأى ان الورود اشد احمرارا ً .. و ان السماء اشد زرقة ً و صفاءا ً
علم َ عندها ان قطار الحياة لا يتوقف الا عند محطات الفشل و لا يستمر معه ُ من يغفل عن الامل
و في كل لحظة ِ يأس تضيع ُ ايام من الحياة .. و لحظة ِ الحياة تزيل ُ دهرا ً من الضياع
فيا ايها المسافر .. خذ وقتا ً للضحك فهو الحان منبعها الروح
و خذ وقتا للبكاء فهو دليل ُ قلبك َ و ما ينير له ُ طريق الحياة المظلم .. خذ وقتا للاصغاء و التفكير فهما بوابة النجاح
و اخيرا ً أجعل لنفسك َ و قتا للحب .. فالوقت يمضي سريعا ً و ما يمضي لن يعود ..