الشاعر دعبل الخزاعي
اتخذ أشعاره سلاحاً
لفضح مظالم الحكام
إن في سيرة دعبل الخزاعي الطويلة ملامحَ من العزم والقوة والاستمرار على المبدأ.
فدعبل يختلف عن شعراء عصره الذين أكثروا شعر المديح في الحكّام العباسيين، فهو كان يعبر بصراحة وصدق عما يراه ويشاهده من أحداث عاشها وعانى منها الكثير، وكان يوجّه النقد الصريح الحاكمين دون خوف أو وجل، ممّا لوّن شعره بطابع الهجاء ولهذا أصبح محلاً للتجريح من قبل البعض الممالئن للحكام.
وقد كان أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني في مقدمة أولئك الذين حشروا الأخبار والروايات حشراً، وجعل من دعبل رجلاً خطيراً، وهجّاء خبيث اللسان، لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يُحسن إليه.
ويرى عبدالصاحب الدجيلي أن مصدر الروايات التي قيلت في دعبل كلها واحد هو أبو خالد الخزاعي، والظن أن طابع الوضع عليها واضح بقصد تهويل أمر دعبل (1).
أ ـ اسمه ولقبه:
لم يتفق المؤرخون في اسم دعبل وكنيته كما اتفقوا في لقبه، فقد ذكرت بعض المصادر التاريخية والأدبية دعبلاً باسم: الحسن، وعبدالرحمن ومحمد، مع أنه لم يعرف بأحد هذه الأسماء، وعُرف بلقبه دعبل (2)، الذي اشتهر به. « ودعبل بكسر الدال وسكون العين وكسر الباء » (3)، وإن اختلفت هذه المصادر والمراجع فأغلبها كان يُطلق عليه لفظ: « دعبل بن عليّ الخزاعي ». دون أن يذكر له اسماً صريحاً، فالبغدادي في كتابه تاريخ بغداد يقول: « دعبل بن عليّ بن رزين بن عثمان بن عبدالله بن بديل بن ورقاء، أبو علي الخزاعي » وإن تضاربت الأقوال في ذكر اسمه فإنها تتفق جميعاً في ذكر لقبه « دعبل ».
ب ـ مولده وأسرته:
ولد دعبل في بيت أكثر رجاله شعراء، فكان أبوه: « علي بن رزين »، شاعراً مجيداً، وردت له ترجمة في « معجم الشعراء » للمرزباني. وكذلك كان عمّه « عبدالله بن رزين » كما ذكره القيرواني في كتابه « العمدة » وكان أخوه « رزين بن عليّ » شاعراً حسن النظم والقول، وكذلك كان ابناه الحسين وعلي.
ولد دعبل سنة 148هـ واختُلف في أصل أسرته: فقيل من الكوفة، وقيل من قرقيسيا على نهر الخابور في الفرات، وقيل من واسط قرب الحيّ (4).
ومهما يكن من أمر، فقد قضى دعبل سني شبابه الأولى في مدينة الكوفة وقد يكون ولد في غيرها، ثم انتقلت أسرته إلى الكوفة وهو لم يزل صبياً.
ج ـ نشأته وحياته:
نشأ دعبل وترعرع في الكوفة، وفيها كان قد تعلم القراءة والكتابة في كتاتيب تلك المدينة التي كانت مهد الأدب والنحو والشعر والعلوم اللغوية والدينية، فتنقل بين أيدي علمائها وشعرائها حتّى تمكّن من تهذيب قريحته وصقلها واستطاع بعدها أن يقول الشعر مُجيداً، ثم بدأ يُنمّي موهبته الشعرية حتّى ارتقى إلى الدرجة التي اعتُبر بها شاعراً لا يمكن إغفاله. ولم يكد عمره يصل إلى العشرين حتّى انتشرت أشعاره. وممّا اشتهر منها هذا البيت (5):
لا تعجبي يا سَلْم من رجـلٍ ****
ضحك المشيب برأسه فبكى
وعلى هذا لم يترك دعبل الكوفة إلاّ على إثر طلب الرشيد إحضاره، وقد وصل بغداد وعمره يزيد على العشرين وهو شاعر مجيد حسن القول، وكان اتصاله بالرشيد مفروضاً عليه، وليس في نفسه شوق إليه، إذ كان دعبل يمقت الرشيد ولا يود صحبته، لذلك نرى دعبلاً سرعان ما يندفع لهجاء الرشيد بعد موته مباشرة وبعد أن غمره الرشيد بعطاياه وجوائزه، فمن قوله عندما دفن الرشيد بجوار المكان الذي دفن فيه الإمام عليّ الرضا عليه السّلام فيما بعد:
قبرانِ في طوس خيـر الناس كلهـمُ ****
وقبـر شـرّهـم هـذا مـن العِبَـرِ ما ينفع الرجسَ من قرب الزكيّ ولا ****
على الزكيّ بقرب الرجس من ضررِ
ويلاحظ أنه في الفترة التي حدثت خلالها الفتنة بين الأمين والمأمون غادر دعبل وأخوه رزين بن عليّ بغداد بعد أن بويع المأمون وجعل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام ولياً لعهده (6)، فقصد الإمام عليّاً الرضا عليه السّلام في خراسان ومدحه وأهل البيت عليهم السّلام وهو على أشد ما يكون من الفرح والسرور بقصيدته التائية المشهورة المتضمنة للرثاء فضلاً عن المدح ومنها:
ذكـرتُ محـلَّ الـربـع من عرفـاتِ***
فأجـريـت دمـعَ العيـنِ بالعـبـراتِ وفكّ عُرى صبري وهَـاجَت صبـابتي***
رسـومُ ديــارٍ أقـفـرت وعِــراتِ مـدارسُ آيـات خـلـتْ مـن تـلاوةٍ***
ومـنـزلُ وحـي مقـفـرُ العرصـات لآلِ رسـول الله بالخِـيـفِ مـن منـى***
وبالركـنِ والتـعـريـفِ والجمـراتِ ديـارُ علـيّ والحـسـيـنِ وجعـفـر***
وحمـزة والسجـادِ ذي الثَّفَـنـاتِ (7) منـازلُ جبـريـلُ الأميـن يـزورهـا***
مـن الله بـالتسـلـيـم والـرحمـاتِ منـازلُ وحـي الله مـعـدنُ عـلمـهِ***
سبـيـلُ رشـادٍ واضـحُ الطـرقـاتِ قِـفا نـسألِ الدارَ التـي خـفَّ أهلُهـا***
متـى عهـدُها بـالصـوم والصلـواتِ وأيـن الألى شطـت بهم غُربةُ النـوى***
أفانـينَ فـي الأطـراف منـقبضـاتِ هـمُ أهـل ميراثِ النبـيّ إذا اعتـزوا***
وهـم خـيـرُ قـاداتٍ وخيـرُ حُمـاةِ مطـاعيـم في الأعسارِ في كلِّ مشهـدٍ***
لقـد شـرُفوا بالفـضـلِ والبـركـاتِ أئـمّـة عـدلٍ يُـقـتـدى بـفعـالهـمْ***
وتُـؤمَـنُ مـنـهـم زلـةُ العـثـراتِ ويخاطب الزهراء عليها السّلام بقوله:
أفـاطِمُ لو خِلتِ الحسيـنَ مجـدَّلاً***
وقد مات عطشـاناً بشـط فُـراتِ إذاً لَلَطَمْـتِ الخـدّ فـاطمُ عنـده***
وأجريتِ دمع العين في الوجَنـاتِ أفاطِمُ قومي يا ابنة الخير وانـدبي***
نجـومَ سمـاوات بـأرض فَـلاةِ قبـور بكـوفانٍ وأخـرى بطِيبـةٍ****
وأخـرى بفـخٍ نالـها صـلواتـي قبور بجنب النهر من أرض كربلا****
معـرّسـهم فيـها بشـط فـراتِ تُوفّوا عُطـاشى بالفـرات فليتنـي***
تُوفّيتُ فيـهم قبـل حيـن وفـاتي إلى الله أشكو لوعة عنـد ذكرهـم***
سقتني بكـأس الثُّكـل والفظعـاتِ سأبكيـهـم مـا حـجّ لله راكـب****
وما ناح قُمـريّ على الشجـراتِ وإنـي لَمَـولاهم وقـالٍ عدوَّهـم****
وإنـي لمحـزون بطـول حيـاتي إلى أن يقول:
وأكتـمُ حُبَّيكـم مخافـة كـاشـحٍ***
عنيفٍ بأهل الحـقِّ غيـر مـؤاتي ديارُ رسـولِ الله أصبحـن بلقعـاً***
وآل زيـادٍ تسـكـن الحُـجـراتِ بناتُ زيادٍ في القصـور مصـونةٌ***
والُ رسـولِ الله فـي الفـلـواتِ سأبكيهمُ ما ذرَّ في الأرض شـارقٌ***
ونادى منادي الخيـر والصلـواتِ وما طلعت شمسٌ وحانَ غروبُهـا***
وبالليـلِ أبكـيهِمْ وبالغَـدواتِ (8) د ـ سمات دعبل:
كان دعبل قويَّ البنية مبسوط الجسم، قصير اللحية، علا الشيب رأسه مبكراً، كان معروفاً بحسن الإنشاد، وكان كريماً أبيّ النفس رغم فاقته وفقره، وفي ذلك يقول:
عـلِّـلانـي بـسـمـاعٍ وطـلا***
وبضيـفٍ طـارقٍ يبـغي القـرى نغمـاتُ الضيـف أحلـى عندنـا***
من ثـغاءِ الشـاءِ أو ذات الرُّغـا نُنزل الضيـف إذا مـا حـلَّ فـي***
حبـةِ القـلـبِ وألـواذِ الحـشـا أبـغـض المـالَ إذا جـمّـعتُـهُ***
إنّ بُغضَ المَالِ من حب العُلى (9)
وقد امتاز دعبل الخزاعي عن شعراء عصره ومذهبه بأنه كان جريئاً غاية الجرأة، وكان إذا ضرب لا يتهاون في ذلك، وإذا هجا فلا يهمه أن يكون هجاؤه في خليفة أو غير خليفة وما ذلك إلاّ لصدق نيّته وشجاعته وإيمانه وصلابة عزيمته.
ودعبل الخزاعي كان يتناول في شعره حق أهل البيت الذين كان يؤمن بحقهم الصريح، وهجاؤه للحكّام العباسيين يُثبت بكل صدق ووضوح تلك الطاقة وتلك القوة الكامنة في نفس هذا الشاعر الثائر. وإن شاعراً كدعبل يصف المعتصم ـ مع شدته وقسوته ـ بكلب أهل الكهف بل أدنى منه منزلة، جديرٌ بأن يلقب بالسيف، لأن رجلاً يقول هذا الكلام في حاكمٍ عباسي سفاك يجب أن يُحمل على الرؤوس، لأنه كان يفهم حقيقة ضميره ومسؤوليته.. وهناك بعض من يتهمون دعبل بالزندقة والتظاهر بالتشيع رغبة في كسب المال والشهرة، والواقع يثبت عكس ذلك، فالتشيع ـ كما هو معلوم ـ هو مناصرة أهل بيت النبوة، وإذا كان دعبل ممن يناصر الأئمّة من أهل بيت النبي عليه السّلام فهل يعني ذلك غير إيمانه بالله ورسوله وعترة رسوله صلّى الله عليه وآله والسير على المنهاج الإسلامي القويم ؟ فكيف يجتمع في قلب المرء زندقة وموالاة لأهل البيت النبوي ؟!
وإذا كان غرض دعبل هو كسب المال من أئمة أهل البيت عليهم السّلام لكان بمقدوره أن يضع لسانه في سوق الارتزاق كما فعل غيره، ولو فعل دعبل ذلك لفاق أقرانه ولجمع الأموال التي لا يمكن حصرها من الحكّام والأمراء، ولكنه أبى إلاّ أن يضحّي بالغالي والنفيس من أجل عقيدة كان يناصرها ضميره، وليس هناك مجال للتظاهر بالتشيع ما دام التشيّع محارَباً من قبل الحكومة العباسية. وحين هجا دعبل أولئك الذين أكرموه وأحسنوا إليه كالرشيد مثلاً، فلأنه كان يفهم جيداً أن ذلك ليس إحساناً قبل أن يكون وسيلة لشراء الضمائر والتسلط على ألسنة الشعراء (10).
لم يكن دعبل قليل الوفاء، ولم يضلّه المال كما أضلَّ غيره من قبل، وهجاؤه لمناوئي أهل البيت لم يكن بدافع شخصي أو مادي قط، وإنما كان بدافع العقيدة الذي يملي عليه ذلك، بغضّ النظر عن سوء النتائج أو حسنها، وقد أصرّ على ما هو عليه دون أن يتردّد أو يقلّ من عزمه حدّ. وكان يؤمن بأن الشعراء الذين يقولون ولا يفعلون هم ليسوا من المؤمنين الذين يستحقون الجنة والخلود، لذلك نلاحظ أنه يتخذ أشعاره سلاحاً في عقاب الحكّام العباسيين لإظهار مساوئهم ومعايبهم وحقائقهم التي يخفونها وراء أقنعتهم، فقال في خلفاء بني العباس مصوّراً ما هم عليه من مطاردة لأهل البيت وتعذيب ونهب وتقتيل:
فهو يعذر بني أمية في أفعالهم حيال بني هاشم لانهم يبغضونهم ويخالفونهم في الدين والسياسة، ولكنه لا يرى لبني العباس من عذر فقد ناصرهم العلويون في قيام دولتهم ونجاح ثورتهم، وكانوا يحقدون على بني أمية لتقتيلهم آل البيت وما قاموا إلاّ لأخذ الثأر الذي رفعوه شعاراً ولكنهم فاقوا ما فعله الأمويون.
هـ ـ مكانته العلمية:
يُعدّ دعبل من العلماء والمتكلمين، ومن حملة الأدب والتاريخ، والواقفين على اللغة والفصحاء، والعارفين بأيّام العرب (12) والرواية والشعراء المبرزين..
ذكر محمد بن زكريا الفرعاني قال: « سمعت دعبلاً يقول في كلام جرى: « ليسك » فأنكرته عليه، فقال: دخل زيد الخيل على النبي صلّى الله عليه وآله فقال له: يا زيد، ما وصِف لي رجل إلاّ رأيته دون وصفه ليسك، يريد غيرك » (13) وورد أيضاً عن محمد بن يزيد النحوي أنه قال: « كان عبدالله فصيحاً » (14)، وجاء في الخلاصة: « دعبل بن عليّ الخزاعي، أبو علي الشاعر المشهور في أصحابنا حاله، مشهورٌ بالإيمان وعلوّ المنزلة، عظيم الشأن » (15).
ويذكر ابن شهرآشوب: أنه من أصحاب الكاظم والرضا (16)، ويقول صاحب كتاب روضات الجنات: إن دعبلاً أدرك أربعة أئمّة من أهل البيت عليهم السّلام (17)، وولد سنة وفاة الإمام جعفر الصادق عليه السّلام.
و ـ مؤلفاته وآثاره:
لدعبل مؤلفات عديدة منها:
1 ـ ديوان شعره نحو ثلاث مئة ورقة وقد عمله الصولي (18).
2 ـ كتاب الواحدة في مثالب العرب ومناقبها: ذكره غير واحد من المؤلفين، ولم ينته إلينا
3 ـ كتاب طبقات الشعراء: ويظهر أنه من التآليف المهمة الضخمة، والأصول المعوّل عليها في الأدب والتراجم وأخبار الشعراء في الحجاز والبصرة وبغداد وغيرها، وقد نقل عنه كثير من المؤرخين أو أشاروا إليه.
وليس بعيداً أن تجدّ بعض العناصر في إتلاف ديوان دعبل وآثاره كما اجتهدت السلطات التي عاصرها في القضاء عليه، والسعي لتحطيمه سَعْيَه هو الآخر في تحطيمها والقضاء على سلطانها.
ز ـ وفاة دعبل:
كان المنافقون من الشعراء يحرّضون المأمونَ على دعبل، ولكن المأمون كان يفهم جيداً ما يجب أن يتخذه لتثبيت مركزه وحاكميّته، فكيف يقتل شاعراً معروفاً بولائه لأهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله، وعلى مرأى من الناس، لذا أعطى لدعبل الأمان، ولما مات المأمون خلفه أخوه أبو إسحاق محمد المعتصم سنة 218هـ، فطارد الطالبيين ونكّل بهم وكان دعبل يرى في المعتصم خصماً عنيداً وعدواً لا يمكن تركه، لذلك لم يمدحه بل أكثر به الانتقاد اللاذع والهجاء الذي يفتت القلب ويمحو الصبر. وكان المعتصم يطلبه دائماً ليفتك به ويتخلص من لسانه ووضع عليه العيون والجواسيس » (19).
وعندما بلغ دعبل أن المعتصم يريد قتله هرب وقال من قصيدة يهجوه بها:
كذلك أهل الكهفِ في الكهفِ سبعةٌ***
خيـارٌ إذا عُـدُّوا وثامنـهم كلـبُ وإنـي لأُعلـي كـلبَهم عنك رفعةً***
لأنَّك ذو ذنْب وليس له ذنْـبُ (20) بعد قصيدة الهجاء هذه أهدر المعتصم دمه، « فهرب إلى طوس وقُتل صبراً سنة 220 هـ » (21).
وبذلك تكون نهاية شاعر ملأت شهرته الآفاق وبقي شعره خالداً رغم الموت.
مما راق لي