الرؤية العلمية في رسم المنهج التاريخي من منظور الإمام علي (ع)
إن العناية بالتاريخ في المنظومة الفكرية لأمير المؤمنين (ع) هي ليست عناية القاص الباحث عن القصص ولا عناية السياسي الباحث عن الحيل السياسية وإنما هي عناية رجل الرسالة والعقيدة ورسم طريق تتسم ملامحه وغاياته بالبعد المستقبلي ، ومما يميز الإمام علي (ع) ـ وكله مميز ـ أن نظرته للتاريخ لم تتسم بالانتقائية بل بالعمومية والشمولية لأن الفيض العلوي في أساسه ليس انتقائيا بل شمولياً لمن أراد أن يتبع نهجه السوي ، ولنا أن نستشهد بمثال واحد رائع لسيد البلغاء (ع) في تحديده لرسم المنهج التاريخي الذي لابد أن يتبع إذ قال (ع) وهو يوصي أبنه الحسن (ع) ( أي بُني ، أني وان لم أكن عُمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم ) ومن هنا نتلمس معطيات رسم منهجية تاريخية أرادها الإمام أن تُتبع متمثلة ـ باختصار ـ التفكر في الأخبار وعدم اخذ الأمور على علاّتها ، والسير في الآثار ، والانصهار في الحدث التاريخي إلى درجة يدعو (ع) فيها الباحث الى معايشة الحدث وكأنه قد جرى عليه شخصياً ليتلمس واقعيته ، ومن هنا أكد الإمام علي (ع) الجانب العملي من العقل الإنساني لما يتمتع به هذا الجانب من التفكير من أهمية بالغة في التأثير على التجربة الاجتماعية ، ومعنى ذلك أنه (ع) قد زاوج بين ( العقليات والتجريبيات ) بما يضمن الإحاطة الكاملة بمفاصلها المكونة لها ، ونستشف أيضا من هذا الكلام أن أمير المؤمنين (ع) دعا إلى أهمية الأخذ بمنهج الربط التاريخي بين أخبار الماضين وبين كل ما ينتجه الواقع الراهن من وقائع تُغير من هذا الواقع وتصنع منه تاريخاً جديدا ، ومن أساليب الإمام (ع) في رسم المنهج العلمي التاريخي هو توظيف الفاعلية اللغوية والدلالية في صياغة خطوات المنهج من خلال استخدام أنظمة الإشارة اللغوية الذي يعتبر أساس من أساسات بل ضرورة من ضرورات عقلنة الخطاب لإيصاله إلى المتلقي بصورة واضحة يستطيع من خلالها أعادة صياغات جديدة لمناخات معرفية سائدة تفصل بين النظرية والتطبيق ، وبهذا كان يدعو الإمام إلى استخدام أدوات التفكير السليم في قراءة النص التاريخي بعمق وعدم سطحية وتعجل في ترجيح الاحداث والحكم عليها فهذا ما يمكن أن نصفه بالتفكير السطحي ـ القشري ـ والخلاصة التي أرادها الإمام علي (ع) هي نقل التجربة التاريخية من الواقع النظري إلى الواقع التطبيقي،كما ويلاحظ أن الإمام (ع) دعا إلى اخذ الحقيقة كاملة والتثبت منها لأن معرفة نصف الحقيقة أشر من الجهل بها.