بسم الله الرحمن الرحيم
**منقول من مكتبة الشيخ علي الكوراني **
العراق عرين القبائل وعرين التشيع
1- العرب ساميون
ذكر المؤرخون، كما في كتاب: تاريخ العرب قبل الإسلام ، للدكتور جواد علي، أن الشعوب المنسوبة الى سام بن نوح ، هي:
- الآراميون ، في سواحل الشام .
- الفينيقيون ، في سواحل الشام .
- العبريون ، في فلسطين .
- الحبشيون ، في بلاد حبشة .
- البابلييون الآشوريون ، في العراق .
- العرب ، في الجزيرة العربية .
وتبلغ مساحة جزيرة العرب ثلاثة ملايين كيلومتر مربع ، وتحدها بعض الدول والمياه الإقليمية والعالمية . فمن الشمال: العراق وبلاد الشام . ومن الجنوب: المحيط الهندي . ومن الشرق: العراق الى الخليج بسواحله . ومن الغرب: البحر الأحمر أو بحر القلزم . وقد سُمِّيَ الخط الواقع بين نجد والغَوْر بالحجاز ، أي المانع .
وذكر المؤرخون أن جزيرة العرب كان فيها ثلاث دول هي:
دولة الأنباط وعاصمتها البتراء ، وحكمت المنطقة لمدة .
ودولة تدمر ، وحكمت شمال الجزيرة العربية لمدة .
ودولة الغساسنة ، وحكمت بلاد الشام لمدة .
وقال الأزهري: والأقرب عندي أنهم سموا عرباً باسم بلدهم العَرَبَات . وقال إسحق ابن الفرج: عَرَبَة باحة العرب ، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل ابن إبراهيم (عليهما السلام).(لسان العرب : 1 / 587)
وقال ابن السائب: جزيرة العرب تدعى عَرَبَة ، ومن هنا قيل للعرب عربي . (معجم البلدان: 4 / 97 ) قال ابن منقذ الثوري:
لنا إبل لم يطمث الذل بينها**** بعَرْبَة مأواها بقرن فأبطحا»
وذكر المؤرخون أن العرب ثلاثة أقسام: عرب عاربة صرحاء .
وعرب مُستعربَة: وهم عرب الحجاز من ذرِّية إسماعيل.
وعرب متعربة:وهم بنو قحطان ، ولغتهم العربية القديمة ، المعينية والسبئية والحضرمية والحميرية . ففي لغة حمير مثلاً: يستعملون الألف والميم بدل (أل) التعريفية فيقول الحميري: طاب أمْهَوَاء ، أي طاب الهواءُ (تهذيب اللغة: 4 / 269) ويقول: وَثَبَ الرَّجُل ، أي: جَلَسَ(المخصص:3/272) . ولذا قال اللغوي أبو عمرو بن علاء: ما لسانُ حِمْير وأقاصي اليمن لساننا ولا عربيتهم عربيتنا .(المزهر:1/56).
وذكروا أن العرب العاربة من ولد إرم بن سام بن نوح ، وهم:
أ - عاد ، وقد سكنوا اليمن وأرسل لهم هود النبي (ع).
ب - ثمود ، وهم بين الشام والحجاز. وكان لهم صالح نبياً (ع).
ت - صحار ، وسكنوا بين الطائف وجبلي طئ .
ج - طسم ، ونزلوا عمان والبحرين. وقيل اليمامة .
ح - جُديس ، وعاشوا بين عمان وحضر موت وسكنوا اليمامة .
د - جاسم ، وتوطنوا ما بين الحرم الى سفوان .
ذ - وبار ، أقاموا في البلاد التي تعرف بهذا الإسم. (أنساب الأشراف: 1/1).
وقد اهتمت العرب بأنسابها، لتحافظ القبيلة على تماسكها وبقائها وقد أقر الإسلام هذا الإهتمام ورفض العصبية القبيلة ، ووجه علم الأنساب الى صلة الأرحام ، والتعارف بين القبائل والشعوب ، وأخذ الدروس والعِبَر من الماضي. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ َكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) . (الحجرات:13).
وقال النبي (ص):« تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ».
(المبسوط للطوسي:3/307)
2- قبائل العرب في العراق قبل الإسلام
ذكر المؤرخون أن هجرة العرب ونزوحهم الى العراق والشام وسورية ومصر والبحرين ، قديمة ، ولعلها بدأت من أيام الدولة الحمورابية ، أو قبلها بأمد لا نستطيع تعيينه .
ومن المؤكد أن سيل العرم في اليمن كان سبباً لهجرة العديد منهم ، ثم تكاثر القحطانيون والعدنانيون واختلطوا ، وشكلوا تحالفاً سمي (التَّنُوخ) ومن التنوخيين من سكن في أرياف الشام والعراق .
وروى الطبري (2/575) أن أهل الأنبار كانوا عند الفتح الإسلامي يكتبون بالعربية ، وأنهم نزلوها أيام بختنصر .
وذكر بعض المؤرخين أن الكلدانيين الذين أسقطوا الدولة الآشورية ثم حكموا العراق للفترة (626- 539 ق.م) كانوا من العرب الذين هاجروا من عمان واستوطنوا جنوب العراق، وكانوا على مقربة من مساكن السبئيين ، ثم ظهروا كقوة سياسية عند رأس الخليج جنوب العراق حتى سمَّي بخليج الكلدانيين ، ويعتمد أصحاب هذا الرأي على نصوص باللغة العربية القديمة عثر عليها في مواقع في جنوب العراق مثل: أور ، والوركاء ، ونِفَّر ، الأمر الذي يرجح كونهم من قبائل عمان التي هاجرت ، وتنامت قدراتهم فأنشأوا دولتهم، ولم يدم عمرها أكثر من تسعة عقود من الزمن. (تاريخ العراق القديم /437).
كما أن من شبه المؤكد عند المؤرخين: أن الملك الكلداني نبوخذ نصر (بختنصر605- 562 ق.م) خاض معركة مع القبائل العربية لتوسيع إمبراطوريته ، كما أن حروبه شملت العرب المقيمين في سوريا وفلسطين وفي شمال الجزيرة العربية .
قال الطبري في تاريخه (1/398): « وثب بختنصر على من كان في بلاده من تجار العرب ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها ، فجمع من ظفر به منهم فبنى لهم حيراً على النجف وحصنه وضمهم فيه، ووكل بهم حرساً وحفظة . ثم نادى في الناس بالغزو فتأهبوا لذلك ، وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين ، فاستشار بختنصر فيهم برخيا(مستشاره اليهودي) فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه ، فاقبل منهم .
فأنزلهم على شاطئ الفرات فابتنوا موضع عسكرهم وسموه الأنبار وخلَّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً ، فلما مات بختنصر انضموا إلى أهل الأنبار ، وبقي ذلك الحِير خراباً .
ولعل أهم معارك بختنصر مع العرب في ذات عرق ، وهو موضع بين نجد وتهامة وهو ميقات العراقيين . (تاج العروس:13/ 325) .
وقد انتصر على قبائل عدنان ، وأسر جمعاً منهم وأسكنهم الأنبار.
(تاريخ العراق القديم: د.مهران/442 . وانظر: تاريخ الطبري: 1/399).
3- قبائل الأزد في العراق ومملكة الحيرة
ينسب الأزد إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ (عامر) بن يشجب بن يعرب بن قحطان من قبائل اليمن القحطانية، وبطون هذه القبيلة هيكما في جمهرة أنساب العرب. (2/330).
1- أزد شنوءة: ونسبتهم إلى كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، منازلهم السراة بين تهامة واليمن .
2- أزد غسان: منازلهم في شبه جزيرة العرب ، وفي بلاد الشام .
3- أزد السراة: كانت منازلهم في الجبال المعروفة بهذا الإسم .
4- أزد عُمان: كانت منازلهم بعُمان .
وكان للأزد ملك بالشام من بني جفنة ، وملك بيثرب في الأوس والخزرج ، وملك بالعراق في بني فهم . (كحالة:1/16).
فالبطون الأزدية التي سكنت العراق في الدفعة الثانية من الهجرة :
1- بنو مالك بن عثمان بن أوس، وقد انفرد بذلك صاحب معجم قبائل العرب .
2- بنو حِلس بن كنانة بن أفكة بن الهنو بن الأزد ، سكنوا نهر الملك شمال شرق كربلاء ، والذي سمي فيما بعد: نهر نينوى .
3- بنو فهم بن غنم ، بن دوس بن عدنان بن عبدالله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد .
وخرج من اليمن مع عمرو بن عامر مزيقياء حين أحسوا بسيل العرم ، فلما صارت الأزد إلى مكة وغلبوا جرهم على ولاية البيت أقاموا زماناً ، ثم خرجوا إلا خزاعة فقد أقامت على ولاية البيت ، فصار مالك بن فهم إلى العراق ، وسكن حوالي480 ق.م هو وبنوه الأنبار ، وقام بتأسيس مملكة قبل مملكة آل المنذر اللخميين في الحيرة ، وحكم عشرين سنة ، وكان منزله مما يلي الأنبار ( ابن الأثير: 1/342). ثم قتل ، فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي (حوالي 350 ق.م) وهو ثاني ملوك اليمانيين النازلين بأرض الحيرة ، وحكم نحو خمسة وعشرين سنة .(الزركلي: 5 /83).
وملك بعده إبن أخيه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم (حوالي366 ق.م) وعاش طويلاً ، وكان من أفضل ملوك العرب رأياً ، وأبعدهم مغاراً ، وأشدَّهم نكاية ، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وضمَّ إليه العرب وغزا بالجيوش . وكان به برص فكنَّت العرب عنه فقيل الوضاح والأبرش إعظاماً له . وكانت منازله بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وعين تمر وأطراف البر إلى العمير وخفية، وكانت تجبى إليه الأموال وتفد الوفود، وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهم من اليمامة (ابن الأثير:1/342) ثم غزا أعالي الفرات ، وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة العميلقي من عاملة العمالقة ، فقتله جذيمة وانهزمت عساكر عمرو . وملكت بعد عمرو ابنته الزباء (زنوبيا) واسمها نائلة ، وكان جنود الزباء بقايا العماليق وغيرهم ، وكان لها من الفرات إلى تدمر، فلما استحكم ملكها واجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها ، قالت لها أختها وكانت عاقلة: إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده ، والحرب سجال ، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة ، فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها !
فلما انتهى كتاب الزباء إليه استخف ما دعته إليه ، وجمع إليه ثقاته وهو ببقة من شاطئ الفرات ، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ويستولي على ملكها .
وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد من لخم وقد تزوج أمةً لجذيمة فولدت له قصيراً ، وكان أديباً ناصحاً لجذيمة قريباً منه ، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال: رأي فاتر ، وعدو حاضر ، فذهبت مثلاً . وقال: لجذيمة: أكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك ، وإلا لا تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها .
فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير، وقال له: لا، ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح ! فذهبت مثلاً .
ودعا جذيمة ابن أُخته عمرو بن عدي اللخمي فاستشاره ، فشجعه على المسير وقال: إن نمارة قومي مع الزباء فلو رأوك صاروا معك ، فأطاعه . فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر !
فسار إليها في عدد قليل من أصحابه ، فاستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف ، فقال: يا قصير كيف ترى ؟ قال: خطر يسير ، وخطب كبير فذهبت مثلاً ! وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة ، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإن القوم غادرون . وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى أُدخل على الزباء ، وأفلت قصير منهم على فرس سريعة العدو ، فسقت الزباء جذيمة خمراً ، ثم أمرت بضرب عنقه في طست . (ابن الأثير: 1/345).
4- ملوك آل المنذر اللخميون
وينسبون الى مالك (لخم) بن عدي ، بن الحارث ، بن مرة ، بن أدد بن زيد ، بن يشجب ، بن عريب ، بن زيد ، بن كهلان ، بن سبأ .
وولده جزيلة ، ونمارة . وولد نمارة: عدي وهو عَمَم ، وحبيب ، وحذمة ، والعباد . والمناذرة من بني نمارة ، سكنوا العراق وأسسوا فيه مملكتهم ، وتوزعوا بين الأنبار وتدمر .
وهم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عدي بن نمارة بن لخم . (جمهرة أنساب العرب:2/422).
وعندما توجه جذيمة الأبرش ملك الأنبار الى الزباء خلَّف مكانه عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد التنوخي ، فنازعه عمرو بن عدي بن نصر اللخمي ، ابن أخت جذيمة بعد مقتل خاله ، فانتزع منه الملك ، فانتقلت بذلك الإمارة والملك من بني فهم بن غنم الأزديين الى بني نصر من نمارة من لخم ، ثم سمُّوا فيما بعد بآل المنذر ، لكثرة من سمِّي منهم بالمنذر .
وقد تمكن عمرة من الإنتقام لخاله جذيمة الأبرش من قاتلته الزباء في خبر طويل . وكانت إقامته بالحيرة ، وهو أول من اتخذها منزلاً من ملوك العرب ، ومات فيها ، وحكم أكثر من50 سنة. (الأعلام:5/ 82).
ومن ملوك الحيرة: امرؤ القيس الأول ( 285 ق ه = 328 م) بن عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، ولقب بملك العرب ، ولبس التاج ، وملك 35 سنة. وهو أول من تنصر من الملوك ومات بحوران بسوريا واكتشف قبره قريباً في غار بالصفاة وعليه كتابة بالحرف النبطي وهي أقدم كتابة وجدت ، وهي قريبة من عربية قريش ، وتاريخ وفاته (7 كسلول من السنة 223 لبصري . يوافق 7 ديسمبر 328 للميلاد). (الأعلام:2/12).
ومن ملوك الحيرة :
1 - الحارث بن عمرو ، بن عدي ، بن نصر اللخمي: وليَ بعد موت أخيه امرئ القيس ، وطالت مدته .
2 - عمرو بن امرى القيس ، بن عمرو ، بن عدي اللخمي ، نحو250 ق. ه ، ملك بعد أبيه امرئ القيس ، واستمر نحو أربعين سنة وهو ابن مارية التي يضرب المثل بقرطيها .
3 - امرؤ القيس الثاني نحو 212 ق ه وهو ابن عمرو ، بن امرئ القيس الأول ، ولي بعد مقتل أوس بن قلام ، نحو سنة 382 م. وكان جباراً يعرف بالمحرق ، لأنه أول من عاقب بالتحريق بالنار . قال ابن خلدون: هلك في أيام يزدجرد الأثيم .
4 - امرؤ القيس الثالث (نحو 104 ق ه( وهو ابن النعمان الثاني ، بن الأسود اللخمي. ولي نحو سنة 111 ق ه 507 م ، وبنى الحصن المعروف بالصنبر ، وحارب بني بكر فغلبهم . (الأعلام:5/73).
5- النعمان بن الأسود ، وهو عاشر ملوك الحيرة ، حكم في الفترة 500- 504 م. بعد وفاة أخيه المنذر أربع سنين ، في زمن قباذ .
ويظهر من رواية ل ثيوفانس أن النعمان أغار على حدود الروم والعرب المحالفين لهم فاصطدم بالقائد أوجينيوس حوالي سنة 498م. عند موضع بثرابسوس على الفرات ، فأصيب بخسارة فادحة . واشترك في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس حوالي سنة502م. اذ طلب منه قباذ أن يهاجم حدود الروم من جهة الجنوب ، فهاجمها في حرَّان واصطدم بالقائدين أوليمبيوس وأويجينيوس فتغلب عليهما ، وأصيب بجرح بليغ في رأسه في معركة قرب قرقيسياء فمات .
وفي أثناء غيابه عن الحيرة ، أغار بنو ثعلبه وكانوا تحت حكم الروم على عاصمته ، وأخذوا ما أمكنهم أخذه ، ففر الناس من الحيرة .
5- الحياة الفكرية والدينية في الحيرة
كان في الحيرة معاهد للعلم ، فقد ذكروا أن إيليا الحيري مؤسس دير مار إيليا تلقى دراسته الدينية في مدرسة في الحيرة ، كما تلقى مار عبد الكبير دراسته في إحدى مدارسها .
وعندما فتح المسلمون عين التمر كان في كنيستها أربعون صبياً يتعلمون ، منهم سيرين أبو محمد بن سيرين ، ونصير أبو موسى بن نصير فاتح الأندلس ، ويسار جد المؤرخ ابن إسحاق .
وكذلك تعلم المرقش الأكبر وأخوه حرملة ، الكتابة وبعض العلوم في الحيرة . وكان ملوك الحيرة يهتمون بالتدوين ، وقد أمر النعمان بن المنذر بنسخ أشعار العرب في كراريس فنسخت له ، وعثر على بعضها مدفوناً في قصره الأبيض في زمن المختار .
وكان من شعراء الحيرة: المثقب العابدي ، والنابغة الذبياني ، وطرفة بن العبد ، ولقيط بن يعمر الأيادي ، وعدي بن زيد العبادي ، وعمرو بن كلثوم ، وعمرو بن قميئة ، وأعشى قيس ، والمرقش الأكبر ، ولبيد بن ربيعة . وكان النعمان يقيم مهرجاناً أدبياً يسمى المؤتمر .
وكانت الحيرة مركزاً للطب ، فكان حنين بن إسحق النصراني العبادي ، من أطباء المتوكل العباسي ، وكان أبوه صيدلانياً بالحيرة .
كما اهتم المناذرة بالتجارة والصناعة والزراعة ، فكانت لهم قوافل تجارية بين الجزيرة والشام ، وكانوا يشاركون بلطائمهم أي بقواقلهم في أسواق العرب ، وكان لهم قوارب في الفرات الى الأبلة على الخليج وسفن ضخام تقصد البحرين وعدن والهند والصين .
وكانت الأراضي بين الحيرة والنجف والفرات مزروعة بالنخيل والبساتين والجنان . واشتهر الخمر الحيري . كما نسبت الى الحيرة صناعة السيوف والسهام والنصال للرماح ، ونسج الحرير والكتان والصوف ، والتطريز بخيوط الذهب ، وكان في قصر الخورنق عدد من القَيْن والنُّسَّاج، ومن أزياء الحيريين الساج والطيلسان والدخدار واليملق والشرعبية والسيراء .
وكان ملوك الحيرة يخلعون على الشعراء وغيرهم أثواباً تعرف بالرضا ، وهي جباب مطوقة بالذهب ، ومنها ما يسمى المرفل .
ومن الناحية الدينية كان المناذرة وثنيين يعبدون أصنام العرب .
وكان بعضهم نصارى على المذهب النسطوري ، وذكر مؤرخوا المسيحية شخصيات كنسية وقساوسة من أهل الحيرة ، منهم القديس حنان يشوع ، والقديس مار يوحنا ، والقديس هوشاع ، الذي حضر مجمع إسحاق الجاثليق عام 410م. وشمعون الذي أمضى أعمال مجمع يهبالا الذي انعقد سنة 486م ، وشمعون الذي حضر مجمع أقاق وإيليا المنعقد سنة 486م. وأمضى في سنة497م مجمع أباي، وترساي الذي تحزب سنة524م لنرساي الجاثليق ضد اليشاع وأفرام ويوسف ، وقد حضر مجمع أيشوعياب الأرزني الذي انعقد سنة 585م ، وشمعون بن جابر الذي نصرّ الملك النعمان الرابع في سنة 594م.
وكان مار يشوعياب الأرزوني المتوفى سنة 596 م ، من أصل عربي ودرس الديانة في نصيبين ، ثم صار أسقفاً على أرزون ، ثم صار بطريكاً على النساطرة سنة580م . وزار الملك النعمان وتوسط عند الروم لمساعدة خسرو أبرويز ضد بهرام . ولما توفي نقل إلى الحيرة ، فدفن في دير هند ابنة النعمان .
وذكروا أن كنيسة الباعوثة في الحيرة كانت كرسي المطرانية ، والمركز الديني الرئيسي في الحيرة ، وأنه انعقد فيها عام 424م ، مجمع داد يشوع لتنظيم شؤون الكنيسة النسطورية .
6- جيش المناذرة ومعاركهم
كان للمناذرة جيش من خمس كتائب هي: الأشاهب ، ودوسر، والرهائن ، والوضائع ، والصنائع ، وكل كتيبة ألف مقاتل . ويضرب المثل بالأشاهب والدواسر ، فيقال: أبطش من دوسر .
ومد المناذرة نفوذهم على شرق الجزيرة ونجد فكان بينهم وبين السبئيين حرب ، وحاصر امرؤ القيس بن عمرو ثاني ملوك المناذرة نجران التابعة لسبأ ، فأرسل ملك سبأ شمر يهرعش حملة على نجد والأحساء والقطيف وفرضوا سلطانهم بواسطة كندة التابعة لهم .
ومن جهة الشام كان لجيش المناذرة معارك مع الغساسنة ، واشتهر منها يوم حليمة (554م) في قنسرين ، وانتصر بها الغساسنة ، وانتقموا لهزيمتهم على يد المنذرالثالث عام (544م) حيث أسر أحد أبناء الحارث الغساني وذبحه قرباناً للعزى!
وذكر المؤرخون أن المناذرة كانوا يساعدون الفرس في معاركهم ضد الروم والغساسنة ، وأن المنذر الثالث تمكن سنة(519) من أسر قائدين بيزنطيين هما ديموستراتوس ويوحنا ، فأرسل البيزنطيون وفداً من شمعون الأرشامي وأبراهام والد المؤرخ نونوس وسرجيوس أسقف الرصافة ، لفك أسرهما ، وكان وصول الوفد الرومي مع وصول وفد ذي نواس الملك الحميري ، يطلب من ملك الحيرة أن يحرق نصارى مملكته كما حرق هو نصارى نجران !
وذكروا معركة للمنذر مع الغسانيين سنة (528- 529م) وأنه وصل بجيشه الى حمص وأفامية وأنطاكية والأناضول وأحرق خلقدونية ، وأخذ أسرى منهم 400 راهبة ، وأحرقهن بالنار قرباناً للعزى .
وذكروا أن المناذرة شاركوا مع الفرس ضد القائد الروماني بلزاريوس في معركة نصبين (530م) ومعركة كالينيكوم (531م) قرب الرها ، وانتصر الفرس ووقعوا معاهدة مذلة للروم .
لكن هذه الخدمات لم تمنع كسرى من قتل آخر حكام المناذرة النعمان بن المنذر ، حيث استدرجه وغدر به ، فثارت حمية العرب لقتله ، وقاتلوا الجيش الفارسي في معركة ذي قار عام (610م) .
العراق عرين القبائل وعرين التشيع
1- العرب ساميون
ذكر المؤرخون، كما في كتاب: تاريخ العرب قبل الإسلام ، للدكتور جواد علي، أن الشعوب المنسوبة الى سام بن نوح ، هي:
- الآراميون ، في سواحل الشام .
- الفينيقيون ، في سواحل الشام .
- العبريون ، في فلسطين .
- الحبشيون ، في بلاد حبشة .
- البابلييون الآشوريون ، في العراق .
- العرب ، في الجزيرة العربية .
وتبلغ مساحة جزيرة العرب ثلاثة ملايين كيلومتر مربع ، وتحدها بعض الدول والمياه الإقليمية والعالمية . فمن الشمال: العراق وبلاد الشام . ومن الجنوب: المحيط الهندي . ومن الشرق: العراق الى الخليج بسواحله . ومن الغرب: البحر الأحمر أو بحر القلزم . وقد سُمِّيَ الخط الواقع بين نجد والغَوْر بالحجاز ، أي المانع .
وذكر المؤرخون أن جزيرة العرب كان فيها ثلاث دول هي:
دولة الأنباط وعاصمتها البتراء ، وحكمت المنطقة لمدة .
ودولة تدمر ، وحكمت شمال الجزيرة العربية لمدة .
ودولة الغساسنة ، وحكمت بلاد الشام لمدة .
وقال الأزهري: والأقرب عندي أنهم سموا عرباً باسم بلدهم العَرَبَات . وقال إسحق ابن الفرج: عَرَبَة باحة العرب ، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل ابن إبراهيم (عليهما السلام).(لسان العرب : 1 / 587)
وقال ابن السائب: جزيرة العرب تدعى عَرَبَة ، ومن هنا قيل للعرب عربي . (معجم البلدان: 4 / 97 ) قال ابن منقذ الثوري:
لنا إبل لم يطمث الذل بينها**** بعَرْبَة مأواها بقرن فأبطحا»
وذكر المؤرخون أن العرب ثلاثة أقسام: عرب عاربة صرحاء .
وعرب مُستعربَة: وهم عرب الحجاز من ذرِّية إسماعيل.
وعرب متعربة:وهم بنو قحطان ، ولغتهم العربية القديمة ، المعينية والسبئية والحضرمية والحميرية . ففي لغة حمير مثلاً: يستعملون الألف والميم بدل (أل) التعريفية فيقول الحميري: طاب أمْهَوَاء ، أي طاب الهواءُ (تهذيب اللغة: 4 / 269) ويقول: وَثَبَ الرَّجُل ، أي: جَلَسَ(المخصص:3/272) . ولذا قال اللغوي أبو عمرو بن علاء: ما لسانُ حِمْير وأقاصي اليمن لساننا ولا عربيتهم عربيتنا .(المزهر:1/56).
وذكروا أن العرب العاربة من ولد إرم بن سام بن نوح ، وهم:
أ - عاد ، وقد سكنوا اليمن وأرسل لهم هود النبي (ع).
ب - ثمود ، وهم بين الشام والحجاز. وكان لهم صالح نبياً (ع).
ت - صحار ، وسكنوا بين الطائف وجبلي طئ .
ج - طسم ، ونزلوا عمان والبحرين. وقيل اليمامة .
ح - جُديس ، وعاشوا بين عمان وحضر موت وسكنوا اليمامة .
د - جاسم ، وتوطنوا ما بين الحرم الى سفوان .
ذ - وبار ، أقاموا في البلاد التي تعرف بهذا الإسم. (أنساب الأشراف: 1/1).
وقد اهتمت العرب بأنسابها، لتحافظ القبيلة على تماسكها وبقائها وقد أقر الإسلام هذا الإهتمام ورفض العصبية القبيلة ، ووجه علم الأنساب الى صلة الأرحام ، والتعارف بين القبائل والشعوب ، وأخذ الدروس والعِبَر من الماضي. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ َكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) . (الحجرات:13).
وقال النبي (ص):« تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ».
(المبسوط للطوسي:3/307)
2- قبائل العرب في العراق قبل الإسلام
ذكر المؤرخون أن هجرة العرب ونزوحهم الى العراق والشام وسورية ومصر والبحرين ، قديمة ، ولعلها بدأت من أيام الدولة الحمورابية ، أو قبلها بأمد لا نستطيع تعيينه .
ومن المؤكد أن سيل العرم في اليمن كان سبباً لهجرة العديد منهم ، ثم تكاثر القحطانيون والعدنانيون واختلطوا ، وشكلوا تحالفاً سمي (التَّنُوخ) ومن التنوخيين من سكن في أرياف الشام والعراق .
وروى الطبري (2/575) أن أهل الأنبار كانوا عند الفتح الإسلامي يكتبون بالعربية ، وأنهم نزلوها أيام بختنصر .
وذكر بعض المؤرخين أن الكلدانيين الذين أسقطوا الدولة الآشورية ثم حكموا العراق للفترة (626- 539 ق.م) كانوا من العرب الذين هاجروا من عمان واستوطنوا جنوب العراق، وكانوا على مقربة من مساكن السبئيين ، ثم ظهروا كقوة سياسية عند رأس الخليج جنوب العراق حتى سمَّي بخليج الكلدانيين ، ويعتمد أصحاب هذا الرأي على نصوص باللغة العربية القديمة عثر عليها في مواقع في جنوب العراق مثل: أور ، والوركاء ، ونِفَّر ، الأمر الذي يرجح كونهم من قبائل عمان التي هاجرت ، وتنامت قدراتهم فأنشأوا دولتهم، ولم يدم عمرها أكثر من تسعة عقود من الزمن. (تاريخ العراق القديم /437).
كما أن من شبه المؤكد عند المؤرخين: أن الملك الكلداني نبوخذ نصر (بختنصر605- 562 ق.م) خاض معركة مع القبائل العربية لتوسيع إمبراطوريته ، كما أن حروبه شملت العرب المقيمين في سوريا وفلسطين وفي شمال الجزيرة العربية .
قال الطبري في تاريخه (1/398): « وثب بختنصر على من كان في بلاده من تجار العرب ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها ، فجمع من ظفر به منهم فبنى لهم حيراً على النجف وحصنه وضمهم فيه، ووكل بهم حرساً وحفظة . ثم نادى في الناس بالغزو فتأهبوا لذلك ، وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين ، فاستشار بختنصر فيهم برخيا(مستشاره اليهودي) فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه ، فاقبل منهم .
فأنزلهم على شاطئ الفرات فابتنوا موضع عسكرهم وسموه الأنبار وخلَّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً ، فلما مات بختنصر انضموا إلى أهل الأنبار ، وبقي ذلك الحِير خراباً .
ولعل أهم معارك بختنصر مع العرب في ذات عرق ، وهو موضع بين نجد وتهامة وهو ميقات العراقيين . (تاج العروس:13/ 325) .
وقد انتصر على قبائل عدنان ، وأسر جمعاً منهم وأسكنهم الأنبار.
(تاريخ العراق القديم: د.مهران/442 . وانظر: تاريخ الطبري: 1/399).
3- قبائل الأزد في العراق ومملكة الحيرة
ينسب الأزد إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ (عامر) بن يشجب بن يعرب بن قحطان من قبائل اليمن القحطانية، وبطون هذه القبيلة هيكما في جمهرة أنساب العرب. (2/330).
1- أزد شنوءة: ونسبتهم إلى كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، منازلهم السراة بين تهامة واليمن .
2- أزد غسان: منازلهم في شبه جزيرة العرب ، وفي بلاد الشام .
3- أزد السراة: كانت منازلهم في الجبال المعروفة بهذا الإسم .
4- أزد عُمان: كانت منازلهم بعُمان .
وكان للأزد ملك بالشام من بني جفنة ، وملك بيثرب في الأوس والخزرج ، وملك بالعراق في بني فهم . (كحالة:1/16).
فالبطون الأزدية التي سكنت العراق في الدفعة الثانية من الهجرة :
1- بنو مالك بن عثمان بن أوس، وقد انفرد بذلك صاحب معجم قبائل العرب .
2- بنو حِلس بن كنانة بن أفكة بن الهنو بن الأزد ، سكنوا نهر الملك شمال شرق كربلاء ، والذي سمي فيما بعد: نهر نينوى .
3- بنو فهم بن غنم ، بن دوس بن عدنان بن عبدالله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد .
وخرج من اليمن مع عمرو بن عامر مزيقياء حين أحسوا بسيل العرم ، فلما صارت الأزد إلى مكة وغلبوا جرهم على ولاية البيت أقاموا زماناً ، ثم خرجوا إلا خزاعة فقد أقامت على ولاية البيت ، فصار مالك بن فهم إلى العراق ، وسكن حوالي480 ق.م هو وبنوه الأنبار ، وقام بتأسيس مملكة قبل مملكة آل المنذر اللخميين في الحيرة ، وحكم عشرين سنة ، وكان منزله مما يلي الأنبار ( ابن الأثير: 1/342). ثم قتل ، فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي (حوالي 350 ق.م) وهو ثاني ملوك اليمانيين النازلين بأرض الحيرة ، وحكم نحو خمسة وعشرين سنة .(الزركلي: 5 /83).
وملك بعده إبن أخيه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم (حوالي366 ق.م) وعاش طويلاً ، وكان من أفضل ملوك العرب رأياً ، وأبعدهم مغاراً ، وأشدَّهم نكاية ، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وضمَّ إليه العرب وغزا بالجيوش . وكان به برص فكنَّت العرب عنه فقيل الوضاح والأبرش إعظاماً له . وكانت منازله بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وعين تمر وأطراف البر إلى العمير وخفية، وكانت تجبى إليه الأموال وتفد الوفود، وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهم من اليمامة (ابن الأثير:1/342) ثم غزا أعالي الفرات ، وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة العميلقي من عاملة العمالقة ، فقتله جذيمة وانهزمت عساكر عمرو . وملكت بعد عمرو ابنته الزباء (زنوبيا) واسمها نائلة ، وكان جنود الزباء بقايا العماليق وغيرهم ، وكان لها من الفرات إلى تدمر، فلما استحكم ملكها واجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها ، قالت لها أختها وكانت عاقلة: إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده ، والحرب سجال ، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة ، فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها !
فلما انتهى كتاب الزباء إليه استخف ما دعته إليه ، وجمع إليه ثقاته وهو ببقة من شاطئ الفرات ، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ويستولي على ملكها .
وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد من لخم وقد تزوج أمةً لجذيمة فولدت له قصيراً ، وكان أديباً ناصحاً لجذيمة قريباً منه ، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال: رأي فاتر ، وعدو حاضر ، فذهبت مثلاً . وقال: لجذيمة: أكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك ، وإلا لا تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها .
فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير، وقال له: لا، ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح ! فذهبت مثلاً .
ودعا جذيمة ابن أُخته عمرو بن عدي اللخمي فاستشاره ، فشجعه على المسير وقال: إن نمارة قومي مع الزباء فلو رأوك صاروا معك ، فأطاعه . فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر !
فسار إليها في عدد قليل من أصحابه ، فاستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف ، فقال: يا قصير كيف ترى ؟ قال: خطر يسير ، وخطب كبير فذهبت مثلاً ! وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة ، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإن القوم غادرون . وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى أُدخل على الزباء ، وأفلت قصير منهم على فرس سريعة العدو ، فسقت الزباء جذيمة خمراً ، ثم أمرت بضرب عنقه في طست . (ابن الأثير: 1/345).
4- ملوك آل المنذر اللخميون
وينسبون الى مالك (لخم) بن عدي ، بن الحارث ، بن مرة ، بن أدد بن زيد ، بن يشجب ، بن عريب ، بن زيد ، بن كهلان ، بن سبأ .
وولده جزيلة ، ونمارة . وولد نمارة: عدي وهو عَمَم ، وحبيب ، وحذمة ، والعباد . والمناذرة من بني نمارة ، سكنوا العراق وأسسوا فيه مملكتهم ، وتوزعوا بين الأنبار وتدمر .
وهم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عدي بن نمارة بن لخم . (جمهرة أنساب العرب:2/422).
وعندما توجه جذيمة الأبرش ملك الأنبار الى الزباء خلَّف مكانه عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد التنوخي ، فنازعه عمرو بن عدي بن نصر اللخمي ، ابن أخت جذيمة بعد مقتل خاله ، فانتزع منه الملك ، فانتقلت بذلك الإمارة والملك من بني فهم بن غنم الأزديين الى بني نصر من نمارة من لخم ، ثم سمُّوا فيما بعد بآل المنذر ، لكثرة من سمِّي منهم بالمنذر .
وقد تمكن عمرة من الإنتقام لخاله جذيمة الأبرش من قاتلته الزباء في خبر طويل . وكانت إقامته بالحيرة ، وهو أول من اتخذها منزلاً من ملوك العرب ، ومات فيها ، وحكم أكثر من50 سنة. (الأعلام:5/ 82).
ومن ملوك الحيرة: امرؤ القيس الأول ( 285 ق ه = 328 م) بن عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، ولقب بملك العرب ، ولبس التاج ، وملك 35 سنة. وهو أول من تنصر من الملوك ومات بحوران بسوريا واكتشف قبره قريباً في غار بالصفاة وعليه كتابة بالحرف النبطي وهي أقدم كتابة وجدت ، وهي قريبة من عربية قريش ، وتاريخ وفاته (7 كسلول من السنة 223 لبصري . يوافق 7 ديسمبر 328 للميلاد). (الأعلام:2/12).
ومن ملوك الحيرة :
1 - الحارث بن عمرو ، بن عدي ، بن نصر اللخمي: وليَ بعد موت أخيه امرئ القيس ، وطالت مدته .
2 - عمرو بن امرى القيس ، بن عمرو ، بن عدي اللخمي ، نحو250 ق. ه ، ملك بعد أبيه امرئ القيس ، واستمر نحو أربعين سنة وهو ابن مارية التي يضرب المثل بقرطيها .
3 - امرؤ القيس الثاني نحو 212 ق ه وهو ابن عمرو ، بن امرئ القيس الأول ، ولي بعد مقتل أوس بن قلام ، نحو سنة 382 م. وكان جباراً يعرف بالمحرق ، لأنه أول من عاقب بالتحريق بالنار . قال ابن خلدون: هلك في أيام يزدجرد الأثيم .
4 - امرؤ القيس الثالث (نحو 104 ق ه( وهو ابن النعمان الثاني ، بن الأسود اللخمي. ولي نحو سنة 111 ق ه 507 م ، وبنى الحصن المعروف بالصنبر ، وحارب بني بكر فغلبهم . (الأعلام:5/73).
5- النعمان بن الأسود ، وهو عاشر ملوك الحيرة ، حكم في الفترة 500- 504 م. بعد وفاة أخيه المنذر أربع سنين ، في زمن قباذ .
ويظهر من رواية ل ثيوفانس أن النعمان أغار على حدود الروم والعرب المحالفين لهم فاصطدم بالقائد أوجينيوس حوالي سنة 498م. عند موضع بثرابسوس على الفرات ، فأصيب بخسارة فادحة . واشترك في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس حوالي سنة502م. اذ طلب منه قباذ أن يهاجم حدود الروم من جهة الجنوب ، فهاجمها في حرَّان واصطدم بالقائدين أوليمبيوس وأويجينيوس فتغلب عليهما ، وأصيب بجرح بليغ في رأسه في معركة قرب قرقيسياء فمات .
وفي أثناء غيابه عن الحيرة ، أغار بنو ثعلبه وكانوا تحت حكم الروم على عاصمته ، وأخذوا ما أمكنهم أخذه ، ففر الناس من الحيرة .
5- الحياة الفكرية والدينية في الحيرة
كان في الحيرة معاهد للعلم ، فقد ذكروا أن إيليا الحيري مؤسس دير مار إيليا تلقى دراسته الدينية في مدرسة في الحيرة ، كما تلقى مار عبد الكبير دراسته في إحدى مدارسها .
وعندما فتح المسلمون عين التمر كان في كنيستها أربعون صبياً يتعلمون ، منهم سيرين أبو محمد بن سيرين ، ونصير أبو موسى بن نصير فاتح الأندلس ، ويسار جد المؤرخ ابن إسحاق .
وكذلك تعلم المرقش الأكبر وأخوه حرملة ، الكتابة وبعض العلوم في الحيرة . وكان ملوك الحيرة يهتمون بالتدوين ، وقد أمر النعمان بن المنذر بنسخ أشعار العرب في كراريس فنسخت له ، وعثر على بعضها مدفوناً في قصره الأبيض في زمن المختار .
وكان من شعراء الحيرة: المثقب العابدي ، والنابغة الذبياني ، وطرفة بن العبد ، ولقيط بن يعمر الأيادي ، وعدي بن زيد العبادي ، وعمرو بن كلثوم ، وعمرو بن قميئة ، وأعشى قيس ، والمرقش الأكبر ، ولبيد بن ربيعة . وكان النعمان يقيم مهرجاناً أدبياً يسمى المؤتمر .
وكانت الحيرة مركزاً للطب ، فكان حنين بن إسحق النصراني العبادي ، من أطباء المتوكل العباسي ، وكان أبوه صيدلانياً بالحيرة .
كما اهتم المناذرة بالتجارة والصناعة والزراعة ، فكانت لهم قوافل تجارية بين الجزيرة والشام ، وكانوا يشاركون بلطائمهم أي بقواقلهم في أسواق العرب ، وكان لهم قوارب في الفرات الى الأبلة على الخليج وسفن ضخام تقصد البحرين وعدن والهند والصين .
وكانت الأراضي بين الحيرة والنجف والفرات مزروعة بالنخيل والبساتين والجنان . واشتهر الخمر الحيري . كما نسبت الى الحيرة صناعة السيوف والسهام والنصال للرماح ، ونسج الحرير والكتان والصوف ، والتطريز بخيوط الذهب ، وكان في قصر الخورنق عدد من القَيْن والنُّسَّاج، ومن أزياء الحيريين الساج والطيلسان والدخدار واليملق والشرعبية والسيراء .
وكان ملوك الحيرة يخلعون على الشعراء وغيرهم أثواباً تعرف بالرضا ، وهي جباب مطوقة بالذهب ، ومنها ما يسمى المرفل .
ومن الناحية الدينية كان المناذرة وثنيين يعبدون أصنام العرب .
وكان بعضهم نصارى على المذهب النسطوري ، وذكر مؤرخوا المسيحية شخصيات كنسية وقساوسة من أهل الحيرة ، منهم القديس حنان يشوع ، والقديس مار يوحنا ، والقديس هوشاع ، الذي حضر مجمع إسحاق الجاثليق عام 410م. وشمعون الذي أمضى أعمال مجمع يهبالا الذي انعقد سنة 486م ، وشمعون الذي حضر مجمع أقاق وإيليا المنعقد سنة 486م. وأمضى في سنة497م مجمع أباي، وترساي الذي تحزب سنة524م لنرساي الجاثليق ضد اليشاع وأفرام ويوسف ، وقد حضر مجمع أيشوعياب الأرزني الذي انعقد سنة 585م ، وشمعون بن جابر الذي نصرّ الملك النعمان الرابع في سنة 594م.
وكان مار يشوعياب الأرزوني المتوفى سنة 596 م ، من أصل عربي ودرس الديانة في نصيبين ، ثم صار أسقفاً على أرزون ، ثم صار بطريكاً على النساطرة سنة580م . وزار الملك النعمان وتوسط عند الروم لمساعدة خسرو أبرويز ضد بهرام . ولما توفي نقل إلى الحيرة ، فدفن في دير هند ابنة النعمان .
وذكروا أن كنيسة الباعوثة في الحيرة كانت كرسي المطرانية ، والمركز الديني الرئيسي في الحيرة ، وأنه انعقد فيها عام 424م ، مجمع داد يشوع لتنظيم شؤون الكنيسة النسطورية .
6- جيش المناذرة ومعاركهم
كان للمناذرة جيش من خمس كتائب هي: الأشاهب ، ودوسر، والرهائن ، والوضائع ، والصنائع ، وكل كتيبة ألف مقاتل . ويضرب المثل بالأشاهب والدواسر ، فيقال: أبطش من دوسر .
ومد المناذرة نفوذهم على شرق الجزيرة ونجد فكان بينهم وبين السبئيين حرب ، وحاصر امرؤ القيس بن عمرو ثاني ملوك المناذرة نجران التابعة لسبأ ، فأرسل ملك سبأ شمر يهرعش حملة على نجد والأحساء والقطيف وفرضوا سلطانهم بواسطة كندة التابعة لهم .
ومن جهة الشام كان لجيش المناذرة معارك مع الغساسنة ، واشتهر منها يوم حليمة (554م) في قنسرين ، وانتصر بها الغساسنة ، وانتقموا لهزيمتهم على يد المنذرالثالث عام (544م) حيث أسر أحد أبناء الحارث الغساني وذبحه قرباناً للعزى!
وذكر المؤرخون أن المناذرة كانوا يساعدون الفرس في معاركهم ضد الروم والغساسنة ، وأن المنذر الثالث تمكن سنة(519) من أسر قائدين بيزنطيين هما ديموستراتوس ويوحنا ، فأرسل البيزنطيون وفداً من شمعون الأرشامي وأبراهام والد المؤرخ نونوس وسرجيوس أسقف الرصافة ، لفك أسرهما ، وكان وصول الوفد الرومي مع وصول وفد ذي نواس الملك الحميري ، يطلب من ملك الحيرة أن يحرق نصارى مملكته كما حرق هو نصارى نجران !
وذكروا معركة للمنذر مع الغسانيين سنة (528- 529م) وأنه وصل بجيشه الى حمص وأفامية وأنطاكية والأناضول وأحرق خلقدونية ، وأخذ أسرى منهم 400 راهبة ، وأحرقهن بالنار قرباناً للعزى .
وذكروا أن المناذرة شاركوا مع الفرس ضد القائد الروماني بلزاريوس في معركة نصبين (530م) ومعركة كالينيكوم (531م) قرب الرها ، وانتصر الفرس ووقعوا معاهدة مذلة للروم .
لكن هذه الخدمات لم تمنع كسرى من قتل آخر حكام المناذرة النعمان بن المنذر ، حيث استدرجه وغدر به ، فثارت حمية العرب لقتله ، وقاتلوا الجيش الفارسي في معركة ذي قار عام (610م) .
** مع جزيل الشكر **