فراغ...ضياع...سواد...و أنا وحدي في وسط الطريق، أ أكمل المسير أم أتقهقر؟ الشحوب يلون كل الموجودات و الأشياء تطفو على سطح الدمع، لم يعد لي في هذه الحياة كلها ما يغريني بالاستمرار على قيدها، أوراق كثيرة و كلمات أكثر و وعود أخلفتَها قسرا، كيف أكون معك بالأمس و أكون بمفردي اليوم؟ ألم تقل بأنك ستظل معي إلى الأبد؟ رددتها صادقا فصدقتك و كذبك القدر... رددتها صادقا فعشت بها و أماتني القدر...هناك، خلف الباب المغلق، رنين الأجهزة الرتيب يعني لهم أن الحالة وصلت إلى نقطة النهاية بينما يعني لي النهاية نفسها، نهاية الورد و نهاية النبض و نهاية الابتسام، نهاية الكون و نهاية الحلم و نهاية الأزمان...كانت شاحبة مثلي لكن حزنها لم يكن مكتملا كحزني، في عينيها جذوة الأمل التي انطفأت للتو في عيني، و في خطواتها المرتبكة عزم و إرادة لم أعد أملك منهما إلا ذكريات الأمس القريب الباهتة، أراها تجر قدميها في الممر الطويل ثم تقف أمامي، تتوسلني بصمت، تنتحب بصمت، أملها اليائس يذبحني و أنا أهرب من حزنها إلى حزني، أسد أذني عن توسلاتها الصامتة، لا أريد أن يخدش مشرط جسد زوجي، لا أريد أن تقتنع حواسي بأنني أملك سعادتها بين أصابعي، و بأن حياة زوجها رهينة بحرمة جسد زوجي الذي غادرته الحياة للتو، أهز رأسي رافضة الإنصات فتنتحب و تجثو على ركبتيها و بلا وعي مني أجدني أنتحب معها، الموت الذي انتهى من من سكن روحي ما زال هنا في أروقة المشفى، يتنشق عبير المرض و يتشمم الجو في نهم عله يحظى بغنيمة أخرى، شهقت بحرقة و أنا أحس بأنه لا جدوى من أنانيتي و بأنني بهزة رأس واحدة قادرة على انتشال هذه الإنسانة من بحر السواد الذي سبقتها إليه.كل شيء حولي يرتدي زي الحداد، ما عاد شيء في هذا البيت ينبض، غادرتنا الحياة بلا رجعة، أدمنت المهدئات و المنومات و أدمنت الدمع و الصمت و الآهات، تفاصيلك ما زالت هنا، كتب وقصاصات جرائد و أوراق، أقلام عانقتها أصابعك يوما، كلبك المخملي رابض أمامي يطلق عواء حزينا يمزق القلوب بين الفينة و الأخرى، جناح الموت يرفرف فوقنا، ينشر رائحة خانقة تلف المكان و ساكنيه، كلنا نتنفس الموت بدونك، كلنا نعيش بلا حياة، حتى الجدران استحالت من لونها الزهري إلى لون مظلم حالك قاتم يجثم على الروح كأنما يبغي اجتثاثها من الجسد.هي من جديد، لكن خطواتها لم تعد ضعيفة مرتبكة كما المرة الأولى، متوردة الخدود و الشفاه، ناعمة كنسمة الصباح الأولى، تتقدم نحوي و عينيها ترسلان آلاف الكلمات، شكر و امتنان و تعاطف، تمسك أصابعي الباردة بين أناملها الدافئة، مواساة جميلة، لكنها لا تغير من واقعي شيئا، لا تزعزع الحزن من مكانه و لا تهز شعرة من رأس مارد الوجع الذي يسكن روحي قبل جسدي، تصارع بسمة حزينة مجاملة لتغادر شفاهي بلا جدوى، تحجر الفؤاد و تحجرت معه الشفاه، ما عدت قادرة على التفاعل مع ما يحيط بي، تهمس لي أنه هنا، و أنه راغب في التعبير عن امتنانه لي، ذلك الذي بجسده قطعة من توأم روحي، تلتفت إلى ظله مشجعة فيتقدم ببطء، يخرج ظله الفارع إلى النور الخافت، كأني به عاد إلى الحياة، أ تلعب الظلال لعبتها بجوارحي؟ أهي خيالات و هلوسات أرملة أطار صوابها الرحيل الموجع؟ أم هي روحي الجريحة من تصبغ ملامحه على وجه هذا الرجل الغريب؟أتحامل على نفسي فأقف على قدمين شلهما الوجع، أدور حوله، تتكسر في حلقي ضحكة مريرة، أسمعها تهمس بصوت مسموع "لقد جنت تماما" لكنني لا أبالي، تتسلل أصابعي إلي وجهه لأتحسس ملامحه في نهم، ترمقني عيناه في تعاطف غريب، أقترب منه أكثر و أملأ رئتي بجرعات متتالية من عطره ثم ألتفت لها "لقد حان دورك لتردي الجميل سيدتي"