نَشَأ على مَرِّ السنين الكثيرُ من نظريات التعلُّم، التي تُحاول أنْ تُفسِّر الحركات والسلوكيَّات المختلفة التي تتَّخِذها الأشياء من حولنا، وإيجاد العلاقة بين هذه الأشياء ومسبباتها.
ومن هذه النظريَّات النظرية السلوكيَّة التي درست سلوكَ الإنسان، وقارنته بسلوك الحيوان، مُستخدمةً الحيوان في إجراء التَّجارب؛ من أجل فهم السلوك الإنساني، واعتمدت المدرسة السلوكية التجريبَ كوَسيلة للوصول إلى النتائج.
وتلتها النظريَّة المعرفية القائلة بأنَّ الإنسانَ كِيانٌ مُفكر، وليس كالحيوان، بل يحكم سلوكه غالبًا التفكير والمعرفة, وقسمت فيها مراحل نُمُو المعرفة إلى 4 مراحل حسب تطوُّر الإدراك والتفكير لدى الفرد.
ثم ظهرت النظريَّة البنائية، وقد ركَّزت على أنَّ المعارف التي يَعرفها الإنسان ليست لحظيَّة، وإنَّما هي تراكمات لمعارف سابقة أضيفت إليها أخرى لاحقة في فتراتٍ مُختلفة، فسميت بنائية؛ لأنَّ المعلومات والمهارات والخبرات تُبْنَى على مدًى طويل، فالطفلُ تنمو معارفه وتتراكم حتى يكبَر معتمدًا بداية على الخبرات السابقة، ثم يبدأ بالتعلُّم ذاتيًّا، حتى يصل لبناء مفهومه الخاص به.
ثُمَّ نشأت نظريةٌ تسمى نظريةَ التوقُّع، ومعناها باختصار أنَّ كلَّ فعل يُؤدَّى يُتوقع له نتيجة، فمن يتعلم "نتوقع" أنْ يَحصل على شهادة، ومن يعمل صالِحًا "نتوقع" أن يثيبه الله.
وتُعَدُّ من النظريَّات المهمة في تفسير الحفز عند الأفراد، وجوهر نظرية التوقُّع يشير إلى أن الرغبة أو الميل للعمل بطريقة مُعينة يعتمدُ على قوة التوقُّع بأن ذلك العمل أو التصرف سيتبعه نتائجُ مُعيَّنة، كما يعتمد أيضًا على رغبة الفرد في تلك النتائج.
وهكذا تعاقبتِ الكثيرُ من النظريَّات العلميَّة حتى نشأت نظريَّة الفوضى (Chaos Theory)، وهي من النظريات المثيرة جدًّا، التي انتشرت حديثًا، ولاقت اهتمامًا واسعًا؛ لتفسيرها الكثيرَ من الأمور التي توقَّفت النظرياتُ العلمية السابقة عند تفسيرها، ولم تَجد مُقنعًا يُبرِّر حدوثها، ولتزيل الكثير من الغموض حولها، وأصبح من الممكن إيجادُ الصِّلة بين الأمور المتباينة، أو توقع الرابط بينها.
نظرية الفوضى (Chaos Theory)
تقرِّر هذه النظرية أنَّ بعض الأمور التي نراها مُختلطة وغير مترابطة قد تكون مُنظمة، وتسير حسب نَسَق مُحدد بعكس ما تبدو عليه.
فالمراقب لحركات النَّحل أو سلوكه يَلْحَظُ التردُّدات العشوائيَّةَ التي يُمارسها دون نظام ظاهر، حركات مُستقيمة وأخرى ملتوية دائرية أو اهتزازية، سريعة أو بطيئة، لا يبدو بينها أيُّ ترابُط، ولكن ما كشفه العلمُ من أنَّ هذه الرقصاتِ والحركات العشوائية ما هي إلاَّ لغة منظمة يتواصل بها أفرادُ الخلية تُحدد من خلالها مكانَ الغذاء الذي وجدته، ورُبَّما نوعه، فهذه الفوضى الظاهريَّة في حركات النَّحل هي في الأَصْل تنظيم بديعٌ في الحركة، فلكلٍّ منها هدف محدد واضح لكل فرد منها.
وكذلك عند مراقبة الأبناء وهم يتهيؤون صباحًا للانطلاق إلى مدارسهم، فإنَّ منظرهم يُوحي بالفوضى يتحرَّكون كثيرًا، ويُراوحون جيئةً وذَهابًا، هذا يأخذ شيئًا وذاك يضع آخر، وهذا يخرج والآخر يفتح دولابه، أو يرتدي ثيابه، أو ينتعل حذاءه في فوضى ظاهرة، لكن في حقيقة الأمر، فإنَّ عملَ كلٍّ منهم منفردًا هو عمل منظَّم يبدأ بترتيبٍ مُحدد يُمارسه بشكل يومي دقيق.
فالحركات التي تبدو عشوائية هي في الواقع تَتْبَع مَساراتٍ غيرَ خطية تتكرر وتتداخل بنَسَقٍ معين غير متماثل تمامًا، ولكنه منظم جدًّا وكأنها تعود إلى نقطة جذب مُحددة بعد أن تنطلق عنها.
وتُحاول نظريةُ الفوضى هذه الوصولَ إلى النظام الخفيِّ غير الظاهر فيما يبدو عشوائيًّا من الظواهر، أو الأحداث، أو السلوكيات، أو الحركات، ووضع قواعد لدراسته والاستفادة من تطبيقاته.
وهي وإنْ كان بِها جانبٌ فلسفيٌّ، إلاَّ أنَّ الجانب الآخر من علم الفوضى هذا يهتمُّ بإيجاد أنماط محددة من الترتيب داخلَ الفوضى الظاهرة، ففي مثال الأبناء السابق وجدنا نوعًا من النمط المتكرر بشكلٍ دَوري منتظم، مع ما يبدو عليه الحال الظاهري من فوضى.
وهذا أمرٌ مُثير حقًّا؛ إذ إنَّ النظامَ هو أساسٌ في التكوين الكوني، فلا شيءَ يسير فيه دون نظام، ولا شيء فيه يَجري بغير ترتيب، فسبحان الله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ!
إنَّ أنظمة الكون مُعقدة ومُتداخلة، ولفهمها علينا تَحليلها إلى عوامِلِها المختلفة ومعرفة تأثير كلٍّ منها على غيره، فالإنسانُ الذي يعيش حياتَه بطريقةٍ اعتيادية قد لا يكون مؤثرًا بشكل مباشر في شخصٍ بعَيْنِه يعيش في بلدٍ آخر بعيد، ولكنَّ الْمُذهل أنْ تؤثِّر به طريقة حياة الأول - دون أن يشعر - وذلك بتأثيره على أشخاصٍ لهم القُدرة على التأثير بالآخر البعيد، ومِنْ ثَمَّ فهناك نوع من التنظيم في هذه الأمور التي تبدو عشوائية وغير مترابطة.
إنَّ بعضَ الأمور التي لا تبدو مُهِمَّة، أو قد تكون تافهة لا تُثير اهتمامًا لدينا، فإنَّها تؤثر تأثيرًا بالغًا في جانبٍ آخر بعيد، لا نَدْري ربَّما أنَّه قد تأثَّر بتلك التوافه بنظرنا، وهذا ما توضحه نظرية تأثير الفراشة النَّاشِئة عن النظرية السابقة.
تأثير الفراشة (Butterfly effect):
تقول بأن "رفة جناح الفراشة في مكانٍ ما قد تُسَبِّب إعصارًا في مكان آخر من الأرض بعد عِدَّة سنين".
قد يبدو الأمر مبالغًا فيه، ولكنَّه منطقي، فتيارات خفيفة تحت سطح البَحر على عُمق كبير أو انشقاق لا يُذكَر في قشرة الأرض هناك تُسبِّب فيضانات شديدة وكوارث، ككارثة التسونامي المعروفة، عبر انتقال الاهتزاز وتضاعُف حجمه، وتسلسُل انتقاله من مكان لآخر، فلا تعجَب إذا علمتَ أنَّ هناك نوعًا من الترابُط بين اهتزازِ التيارِ تَحت الماء، الذي قد ينشأ عن ذوبان الجليد في القُطب، أو حتى بسبب تَحرُّك أحد الأحجار في القاعِ، وبين سقوط منزلٍ على رأس أصحابِه في منطقة بعيدة عن مكان الحجر الساقط.
والنظريَّة تُوضِّحُ علاقةً توافُقية في اتِّجاه واحد، وتُؤكد تسلسلاً لأحداثٍ مُعيَّنة وتتاليها؛ لتنتج أثرًا مختلفًا في الزمان والمكان، والصفة، والنوعية، والكَمِّية، والأبعاد - عن الحدث الأول.
فأحداث صغيرة من شأنها أنْ تنتج كوارثَ كبيرةً غير متوقعة.
فهل تصدق بأن إطلاق منبه سيارتك قد يُؤدِّي إلى انهيار أحدِ الجبال؟!
نعم، فما يفعلُه البعضُ من إطلاق مُنبِّهات السيارات في داخل الأنفاق الجبليَّة هو خطأ جسيم يُؤدِّي إلى تصدُّع الجبل وانهياره، وما ذاك إلاَّ لأنَّ الصوت الصادرَ عن المنبِّه هو في الأصل عبارة عن مَوجات صوتيَّة تنتقل في جُزيئات الهواء، ثُمَّ في جوانب الأنفاق، وتَخترق الجدار؛ لتنتقلَ في ذرَّات الصخر المكونة للجبل؛ مما يُؤدي إلى تخلخُلها وتشقُّقها، ومِنْ ثَمَّ تصدع الجبل.
الأمر منطقيٌّ جدًّا، ولكنَّه بعيد المدى، فلا يتصدع الجبل فَوْرَ إطلاقك لمنبه الصوت، ولكن سنوات من تَكرار هذا الفعل كفيلة بإحداث الأثر، فكن على حذر.
يُمكن للإنسان التفكير في الكثير من الأمور التي يُمكن أن تتغير حياتُه لو اختلف شيءٌ من أحداث حياته في فترةٍ منها، وتصور النَّتائج التي كان من الممكن أنْ تنتج لو اختلفت الشروط الابتدائية.
فلو تخيلتَ مثلاً أنَّ القِطَّة أَكَلت الفأرَ الذي تحتفظُ به لاختبارِ الغَدِ في مادة التشريح، ولم تتمكن من الحصول على بديلٍ له، لتَسَبَّب ذلك في رُسُوبِك في المادة، ورُبَّما تأخرك في التخرج، وربَّما لاحقًا تأخُّرك في الوظيفة.
من الطَّريف أن تتخيل ذلك، ولكنَّ الرائعَ حقًّا هو أن تدرك أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولأنَّنا مُؤمنون بالقَدَر نعلم أنَّ كلَّ ما يحصل قد قدَّره الله لنا، فلا نسترسل في الخيال كثيرًا، ونغرق في قولنا: ماذا لو.
ومن الأمثلة الفعليَّة لهذه النظرية ما تسبَّب به عددٌ من الأرانب المستورَدة من بريطانيا إلى أستراليا عام 1859 من اختلالٍ خطير للنِّظام البيئي؛ حيث تكاثرت تلك الأرانب بسُرعة هائلة مُحدِثَةً أضرارًا بالحشائش والمراعي والمحاصيل الزِّراعية، ولم تُفلح الوسائل في القضاء عليها، فكانت النَّتيجة سيئةً للغاية، فقد فاق عددُ الأرانب عددَ السُّكان، وأقفرت مناطق مُتسعة من المروج، وتَحوَّلت إلى براري قاحلة، ولحقت بالمنطقة أضرارٌ مادية هائلة، فهل كان من الممكن التنبُّؤ سلفًا بما قد تفعله عِدَّة أرانب في قارة كاملة؟
وقد لوحظت بعضُ الظواهر الجويَّة في مناطق معينة، يليها ظواهر من نوعٍ آخر في مناطق أخرى بعيدة، كالعواصف الرَّعْدية فوق المحيط الهادي، والتي لوحظ أنَّه دائمًا ما تسبقها عواصف رعدية فوق القارة الإفريقيَّة.
وما كشفه خبراء أمريكيُّون بجامعة "أوهايو" عن تغيُّرات مناخية طرأت على اليَمن ودول الجزيرة في أعقاب زلزال "تسونامي"، إِثْرَ تسبُّب الأخير في جعل المنطقة تحت تأثير الرِّياح الموسمية القادمة من المحيط الهندي، والمحملة بالأمطار الغزيرة على غرار ما كانت عليه قبل حوالي 5000 عام.
فالتجأ العلماءُ لاستخدام هذه النظريَّات عَبْرَ دراسة الرَّابط بين هذه الظَّواهر؛ للاستفادة منها في التنبُّؤ بالتغيرات الجوية، أو لتفادي الكوارث والخسائر النَّاجمة عن الفيضانات بدراسة العَلاقة بين المسبب "المؤثر الابتدائي" والنتيجة "الأثر النهائي".
ومن المنظومات التي تُبيِّن هذا العلمَ: دراسةُ العلاقة بين ذوبان الجليد في المناطق الباردة، وفيضان البحار في المناطق الحارَّة، فذوبانُ الجبال الجليديَّة يُؤدِّي إلى تدفُّق المياه العذبة الباردة إلى قاع المحيط، ويُؤدي الاختلاف في درجات الحرارة والملوحة بين المياه العميقة الدَّافئة والمياه الباردة العذبة إلى تبايُن في كَثافة الماء، في مناطقَ من البحر، مسببةً تياراتٍ مائيَّة تنتقل عبر مياه المحيط على شَكْلِ أمواج مضطربة داخلَ البحر، قد تُؤدي إلى فيضانات وكوارث في منطقة بعيدة عن مكان الحدث.
فما يبدو بالمجمل غير مترابط هو في الأصل مُترابط جدًّا ومتسلسل الأحداث، والبحث في التفاصيل هو ما يظهر هذا الترابط.
وحاليًّا يُحاول البعض الاستفادة من تطبيق هذا التأثير؛ لدراسة التغيُّرات في اقتصاد الأسواق، ومعرفة الأسباب التي يُمكن أن تؤثر بشكل غير مباشر بها، فارتفاعُ الأَسْهُم المالية أو تدنّيها قد تكون وراءه أسبابٌ أخرى خفيَّة غير تلك الظاهرة لنا.
توسَّعت آفاقُ العلم ولا زالت في اتِّساع، فسبحان القائل: ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85].
إنَّ هذا الكون دقيق الصُّنع مُحكم مُتقَن بدرجة تَجعل العقلَ يقفُ عاجزًا عن مَعرفةِ أسراره، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، الذي خلق هذا الكون، فنظمه تنظيمًا بديعًا.
من الجميل ربطُ كلِّ ما نتعلمه من علوم ومعارف بربِّ الكون الذي خلقه، فتحرُّكات الخلق جميعًا في كلِّ مكانٍ وبقعة من الأرض - بشرًا كانوا أم شجرًا - منظمة تنظيمًا محددًا يُحدده القدر الذي قدَّره الله قبل أن نوجد، فهل من متفكر.
﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].