اخبار فلسطين/بقلم حلمي موسىوفي اليوم السادس عشر لعدوانها على قطاع غزة، اضطرت "إسرائيل" للاعتراف رسميا أنها غيّرت سياستها النارية، وبدأت باستهداف المستشفيات وتدميرها بعد أن توغّلت في دم الأبرياء الفلسطينيين في الأحياء والقرى والبلدات، لتغطّي عجزها، ليس فقط في حماية نفسها من الصواريخ، وإنما أيضا في حماية جنودها في الميدان.ففي كل مكان في قطاع غزة تواجه مقاومة شرسة ومكلفة تجبي دماء من قادة وجنود الجيش الإسرائيلي. ويتبين رسميا أنه خلال أسبوعين منذ إعلان حرب «الجرف الصامد»، وبعد خمسة أيام من العملية البرية، ألقت "إسرائيل" على غزة ثلاثة آلاف طن من المتفجرات.وبحساب بسيط، فإن إسرائيل ألقت تقريبا على غزة متفجرات بمعدل كيلوغرامين لكل فلسطيني على أرض غزة. وإذا لم يكن هذا الحساب كافيا، فإن إسرائيل ألقت ثمانية أطنان من المتفجرات على كل كيلومتر من أرض قطاع غزة.ومن الواضح حتى الآن أن هذا الكمّ الهائل من المتفجرات على هذه البقعة الضيقة من أرض فلسطين لم تفلح في تطويع إرادة القتال في القطاع. فغزة «تحاصر الحصار» كما يقال، وهي تطال بصواريخها ليس فقط مطار اللد (بن غوريون)، وإنما كل مكان في الأرض المغتصبة. ورغم الدمار الشامل في غزة جراء القصف الإسرائيلي الواسع، فإن حجم الخسائر في إسرائيل هائل، اقتصاديا وعسكريا، وهناك من يقدرها بحوالي نصف مليار دولار يوميا.ومع ذلك تحاول إسرائيل ادعاء أن بوسعها إطالة المعركة، وأنها تريد استمرارها إلى أن تتمكن من تحقيق الأهداف المطروحة. لكن من يعرف معطيات الواقع الميداني والسياسي يدرك أن إسرائيل باتت تعيش في مفارقة عجيبة، حيث تعجز عن حسم المعركة سريعا، ولا يبدو أنها قادرة على تحمل أعبائها. وليس صدفة أن وزير الدفاع الأميركي تشاك هايغل، وبشكل عاجل، عرض على الكونغرس الأميركي طلبا بدفع 220 مليون دولار لتغطية احتياجات منظومات «قبة حديدية» حديثة. لكن هذا الطلب ليس سوى جانب مما تريد إسرائيل من أميركا أن تساعدها في تغطيته، خصوصا أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تضغط من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف النار.وفي كل حال غيّرت إسرائيل سياسة النار المتبعة في القطاع، بإعلانها استهداف مستشفى الوفاء وتدميره تماما، بادعاء أنه غدا غرفة عمليات قيادية لـ«كتائب القسام». لكن معلوم أن إسرائيل شرعت بقصف المستشفى منذ أيام في إطار استهداف المستشفيات خصوصا، وأنها دمرت مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح ومستشفى كمال عدوان في جباليا واستهدفت مستشفى ناصر في خانيونس. وقد أرادت من وراء ذلك الإيحاء أن لا مكان آمناً في القطاع، حتى المستشفيات، في إطار الضغط ليس فقط على المقاومة وإنما على جمهور المقاومة أيضا.ويأتي هذا التغيير بعد أن أصبح استهداف المدنيين عاديا، بعد انتهاج سياسة «الإصبع الرخوة على الزناد». فإذا أرادت استهداف مقاوم لم يعد يضير إسرائيل القضاء على عائلته برمتها. وإذا استهدفت عائلة فلا يهمها أن تقضي على البيوت المحيطة بها، أو تدمير برج من عدة طوابق للقضاء على شخص واحد، وهو ما أفضى إلى تكاثر المجازر وارتفاع عديد الشهداء، وجلّهم من الأطفال والنساء، إلى 700 شهيد، وأكثر من 4100 جريح. ولم يكن الأمر فقط مجرد تنفيذ «عقيدة الضاحية» في الشجاعية وبيت لاهيا وبيت حانون والمخيمات الوسطى الشرقية وخزاعة، وإنما أكثر من ذلك. فالقصة ليست فقط استهداف مبان وبيوت بقدر ما استهدفت أيضا الأرواح.وبرر الجيش الإسرائيلي تغيير سياسته بشدة المقاومة التي جبت حتى الآن، وباعتراف رسمي، أرواح 32 من قادة وجنود الجيش الإسرائيلي في عمليات نوعية داخل حدود قطاع غزة وخارجها. فقد أعلنت إسرائيل أمس عن أسماء خمسة جنود جدد قتلوا في غزة، ما يجعل تقريبا المعدل اليومي لمقتل الجنود، منذ بدء الحرب البرية، حوالي 5.5 جندي يوميا. وإلى جانب هؤلاء تزايدت أعداد الجرحى من الجنود الإسرائيليين من دون حساب الخسائر في صفوف المستوطنين.في كل حال واصلت إسرائيل سياسة الأرض المحروقة في كل أنحاء قطاع غزة بقصد واضح، وهو رفع تكلفة الدم الفلسطينية بهدف خلق الردع عبر الدمار والدم. وتواصلت عمليات الالتحام بالدبابات والمدرعات الإسرائيلية واستهدافها على طول الحدود مع غزة، وتنفيذ عمليات في العمق عن طريق استخدام أنفاق هجومية. كما تواصلت الإطلاقات الصاروخية على تل أبيب وما بعدها، وفي غلاف غزة وحتى بئر السبع. وبعد أن أعلنت إسرائيل عن فتح مطار «عوفدا» العسكري في النقب لإقناع الشركات العالمية بإرسال طائراتها إلى هناك، أكدت المقاومة أن المطار في مدى صواريخها. وقد أعلنت شركات الطيران الأميركية والدولية والتركية والأردنية تمديد تعليق رحلاتها إلى إسرائيل، متحدية بذلك الإرادة الإسرائيلية التي أعلنت أن هذا خضوع للإرهاب. واعتبرت «حماس» أن قرار شركات الطيران الدولية وقف تسيير رحلاتها إلى إسرائيل لدواع أمنية «انتصار كبير للمقاومة».وفي كل حال من الواضح أنه وبقدر ما تشتد النيران تتعاظم الجهود الدولية للتقدم نحو اتفاق لوقف النار. وكان بارزا توافق الفلسطينيين، للمرة الأولى، على أن شروط المقاومة هي شروط كل الفلسطينيين، سلطة ومقاومة وقوى مدنية، وأن لا وقف للنار من دون رفع الحصار عن القطاع. ويبدو أن هناك اليوم عدة صيغ يجري التداول بشأنها. ولعب وزير الخارجية الأميركي جون كيري دورا مركزيا في هذه الاتصالات، بعد أن تبين أن وقف النار مطلوب لإسرائيل أيضا رغم ادعاء عدم رغبتها فيه.وقد زار كيري تل أبيب ورام الله على أمل تسهيل الاتفاق، وأعلن حدوث تقدم في هذا الشأن. وقال كيري، بعد لقائه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في القدس المحتلة، «لقد تقدمنا بالفعل بضع خطوات إلى الأمام، ولكن يتعين علينا القيام بالمزيد من العمل». وبعد لقائه عباس في رام الله، قال كيري «أحرزنا بعض التقدم في الأربع وعشرين ساعة الماضية في التقدم نحو ذلك الهدف» في إشارة إلى وقف إطلاق النار.ويعتقد خبراء إسرائيليون أن جانبا من المشكلة يتمثل في إصرار كل من إسرائيل والمقاومة على تحقيق مكاسب أكثر. لكن بديهي أن الاتفاق لن يكون إلا تعبيرا عن موازين قوى، يصر الفلسطيني على أن يكون عامل الحق عنصر قوة فيها. ويعتقد أن جهودا عربية تبذل مع مصر لإقناعها بتعديل مبادرتها لتسهيل تحقيق وقف النار. وهناك إشارات إلى أن واشنطن حاولت إقناع الدول العربية بالتوافق على صيغة لتسهيل إنزال الأطراف عن الشجرة التي تسلقوا عليها. ورغم الحديث عن التقدم، فإن كيري غادر تل أبيب من دون تحقيق اختراق على صعيد التسوية، لكن زيارته أثارت انطباعا بأن وقف النار يقترب.وقد أصيبت إسرائيل أمس بنكسة إعلامية جراء الموقف الذي اتخذه مجلس حقوق الإنسان في اجتماعه في جنيف بتشكيل لجنة تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. ومن المفترض أن يفتح هذا الباب لحملة دولية لملاحقة قادة إسرائيل بتهم ارتكاب جرائم حرب.