مقدمة
إن ألفاظ الشهادة التي كانت تنطقها الأجيال الأولى من المسلمين هي ذات الأفاظ التي جرت على لسان الأجيال المتأخرة « أشهد ألا إله إلا الله و أن محمد رسول الله » و لكن الأولى كانت تهز الأرض كلها و تحركها لإنها كانت تعمل في واقع الأرض برصيدها الكامل و شحنتها الكاملة، و الأخيرة لم تعد تصنع شيأ في الأرض بل لم تعد تستطيع أن تحافظ على الوجود الإسلامي أمام الغزو العسكري و السياسي و الإقتصادي، و أمام الغزو الفكري الذي هو أخطر من هؤلاء جميعا لأنها صارت كلمة بغير شحنة و لارصيد.

و حركات الصلاة من قيام و قعود و ركوع و سجود، و قرآن يتلى و ألفاظ تردد، هي هي منذ كانت الى اليوم لم يتغير فيها شيئ. و لكنها كانت تقام فتعلن عن وجود أمة حية قوية مهيبة، لأنها كانت تؤدى على حقيقتها، و تؤدي مقتضاها، فتعلن عن و جود أمة حققت في عالم الواقع غاية الوجود الإنساني، فكان لها من ثم الغلبة على أية أمة أخرى لا تحقق هذا الوجود على صورتها الحقيقية.
الإيمان بالقضاء و القدر جزء رئيسي من عقيدة المسلم، كما بينها حديث جبريل عليه السلام : « الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شره ».

وكذلك عقيدة القضاء و القدر.. صورتها الظاهرة هي الإيمان بأن كل مايحدث في هذا الكون و في حياة الإنسان يتم بقضاء من الله و قدر، و أنه لا يحدث في هذا الكون العريض كله و لا في حياة الإنسان إلا ما قدره الله: « إنا كل شئ خلقناه بقدر » و قال « قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا، هو مولنا و على الله فليتوكل المؤمنون ».



ثم كانت نتيجة إيمانه بذلك أن يقول لنفسه: إن ذهبت الى ميدان القتال أقتل بسبب ذهابي إلى هناك؟ أم أنه يجري علي ماقدره الله لي؟ فإن كان كتب لي الشهادة هناك فسأقتل – بقضاء من الله و قدر- و إن كان كتب لي العودة فسأعود؟ ثم إن كتب الله علي الموت فسأموت و لو كنت في مكاني هذا و لم أذهب الى القتال..إذن فما الذي يقعدني عن القتال؟ خوف الموت و هو مقدر على أي حال ؟ أم خوف الأذى و لن ينالني منه إلا ماقدره الله في كل حال؟ كلا فلنذهب الى أداء فريضة ربنا، و لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا، هو مولنا و على الله فليتوكل المؤمنون، ثم يذهب الى القتال بنفس شجاعة فيستبسل، فيمضي الله به قدره في الأرض، و ينصر به هذا الدين و يمكن له، ثم يكون من أمره ماقدره الله، إما الشهادة أو النصر.


وكذلك كان في حس المسلم الأول أن إيمانه بالقضاء و القدر لا ينفي مسؤليته عن عمله حتى يرتكب خطأ يعرضه للجزاء، لأن الخطأ من أنفسنا.. و في ذات الوقت هو بإذن الله. كما جرى في غزوة أحد، المسؤلية عن الخطأ قائمة، و الإيمان بأنه من قضاء الله و قدره قائم لا يتعارضان.

و من أعظم ماتعلمته الأمة : إزالة التعارض بين الإيمان و الإنسان بمسؤليته عن عمله، و إمانه بقضاء الله وقدره، و إقرار الأمرين معا في قلب البشر ليتوازن بينهما و يتوازن بهما في مسيرته في هذه الأرض.

ثم أنه لم يكن في حس الأمة الأولى تعارض بين التسليم لقدر الله و العمل على تغيير الواقع السيئ حين يكون.
و لكن الله لم يأمر الناس أن يستسلموا لقدر الله بمعنى عدم العمل على تغيير الواقع السيئ الذي هم فيه.

إن نقطة التوازن بين إتجاهات شتى يتعرض لها الإنسان حين لا ينظبط سلوكه فكره، و تصوره بالمنهج الرباني الصحيح، فشعور الإنسان بعظمة الله التي لا تحدها حدود و هيمنة سبحانه على كل شئ و جريان الأمر كله بمشيئته، عرضة أن ينتهي بالإنسان إلى سلبية منحسرة لا تعمل شيئا لا تتطلع إلى إنجاز أي شئ!

و شعور الإنسان بذاتيته، و مقدوره على العمل و التصرف، ورؤيته لإنتاجه الذي ينتجه بفكره و جسمه، عرضة أن ينتهي بالإنسان إلى التأله و الجحود و الطغيان، إعجابا بإجابيته و فعاليته.


و الجهل الأوربي المعاصر ينظر بسذاجة إلى العقلية الإسلامية فيقول إنها عقلية غيبية لا تؤمن بقانون السببية. و هو في قولته هذه يكشف عن جهله بأمر لا يستطييع حسه الضيق أن يلم به، فالعقلية الإسلامية – الصحيحة- غيبية نعم، لإنها تؤمن بالغيب، و تؤمن بقدر الله . و لكنها في الوقت ذاته عقلية علمية أصيلة، بدليل أنها هي التي أهدت الى المنهج التجريبي في البحث العلمي، و أهدته إلى أوربا، و هو منهج قائم كله على الملاحظة و التجربة و علاقة السبب بالنتيجة! و لكنها و هي تتعامل مع سنة الله الجارية – لا تغلق قلبها عن مشيئة الله الطليقة التي لا يحدها قيد على الإطلاق.

هذه العقيدة الرائعة التي أنشأت في حياة الأجيال الأولى من هذه الأمة ماأنشأت من منجزات.. ماذا أصابها خلال القرون فانحدرت إلى مثل ما أنحدرت إليه البوذية و الهندوكية و الرهبانية؟

و في أثناء ذلك كانت عقيدة القضاء و القدر قد تحولت إلى مباحث كلامية تختلف الفرق حولها، و لم تعد منهجا للتربية الإسلامية بل قضايا فلسفية يجهد الذهن في إجاد حلول لها، و الأمة لا تربي و لا يلتفت أحد إلى القيمة التربوية الهائلة لعقيدة القضاء و القدر و في صورتها الإسلامية الصحيحة.

ثم يجئ طور على « المسلمين المعاصرين » ينسلخون فيه من عقيدة القضاء و القدر كما أنسلخ سادتهم الأوربين من قبل، و يقولون: نريد أن نترك العقلية الغيبية التي كانت سبب تأخرنا، و تكون لنا عقلية علمية تقدمية، إن القضاء و القدر لا يوجد. إلا حيث توجد الفوضى و الجهل و الإنحطاط و التأخر، أما حيث يوجد النظام، العلم، التقدم، التخطيط العلمي و العقول الإلكترونية فأنى للقدر أن يتدخل، و كل شئ محسوب له ألف حساب ؟!

و يغفل هؤلاء عن معنى قوله تعالى: « فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون »، بل يغفلون عما هو أقرب الى المشاهدة الحسية من ذلك الغيب الذي يوشك أن يتحقق، يغفلون عن الأمراض التي تفاجئ أولئك الحاسبين و المخططين الذين يحسبون أنهم أفلوا بحسابتهم كل فرصة لقدر الله ينفذ إلى واقع الأمور. أمراض من كل نوع : نفسية، عصبية، عقلية، جثمانية، أخلاقية، اجتماعية، فكرية و سياسية و إقتصادية.. كلها لم تكن في الحسبان.

- هل كانت أمراض الحساسية في الحسبان؟
- هل كان مرض فقدان المناعة في الحسبان؟
و كل هذه –وغيرها- بوادر الغيب يوشك أن يتحقق بقدر من الله: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين ».

و المسلمون اليوم في حاجة الى تصحيح مفهوم القضاء و القدر الذي أختل في حسهم خلال القرون فلا هو بالسلبية التي غشت القرون الأخيرة، و لا هو الفتنة بالأسباب التي توشك أن تعم العالم الإسلامي اليوم مع الغزو الفكري القادم من جاهلية الغرب.

يحتاج المسلمون إلى إعادة ذلك التوازن البديع الذي تمثله تلك العقيدة في صورتها الصحيحة في حياة الإنسان و يحتاجون أن يكفوا عن دراستها في صورة مذاهب كلامية يحشون بها رؤوس طلاب الشريعة و الدراسات الإسلامية، لتصبح كغيرها في هذا الدين جزء من منهج التربية الإسلامية، الذي يهدف الى إخراج « الإنسان الصالح »الذي يحقق المنهج الرباني في و اقع الأرض. (محمد قطب. مفاهيم يجب أن تصحح)

و الواقع في أمور القضاء، القدر و الحرية، و كثيرا من المواضيع التي كانت كل فرقة أمام مشكلة عويصة حاولت أن تحلها من جانب تعقدت من جانب آخر فإذا قلنا إن إرادة الله و مشيئته شاملة لكل ما يحدث فكيف يشاء الشر؟ و إذا قلنا إن إرادته لا تتوجه إلا إلى الخير، فكيف يقع في ملكه ما لا يريد.

و مثل هذا الخلاف في إرادة الله، الخلاف في قدرته تعالى و بعبارة أخرى في العلاقة بين قدرة الله و أعمال العباد: هل أعمال العباد مخلوقة لله، أو هي مخلوقة للعباد؟ هذه المسألة التي تعنون عادة بخلق الأفعال فأكثر المعتزلة يقولون إن أفعال العباد خلقت لهم و من عملهم هم لا من عمل الله و باختيارهم المحض، ففي قدرتهم أن يفعلوها أو يتركوها من غير دخل لإرادة الله و قدرته و دليل ذلك مايشعر به الإنسان من التفرقة بين الحركة الاختيارية و الاضطرارية ( كحركة من أراد أن يحرك و يرتعش)، و ثانيا لو لم يكن الإنسان خالق أفعاله لبطل التكليف و إذا لو لم يكن قادرا على أن يفعل و لايفعل ما صح عاقلا أن يقال له إفعل و لا تفعل، كما استدلوا على مذهبهم بكثير من آيات القرآن كقوله تعالى (اليوم نجزي كل نفس بما كسبت) و (فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر).

و كان للمعتزلة خصوم مختلفون، فأشد خصومهم من كان يذهب إلى الجبر المحض، و يرون أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، و ليس لقدرة الناس فيها، و ليس الإنسان إلا محلا لما يجريه الله على يديه فهو مجبر جبرا مطلق و هو و الجماد سواء لا يختلفان إلا في المظهر و الجماد مجبرا مظهرا، حقيقة و تنسب الأفعال للإنسان مجازا.

و الواقع أن هذه مشكلة المشاكل سميت بالجبر، الاختيار، الحرية، الإرادة ، القضاء و القدر و حار فيها الفلاسفة قديما و حديثا فآثرها الفلاسفة قبل المعتزلة، كان بعضهم يرى إن الإرادة حرة في الاختيار و بعضهم كان يرى أنها مجبورة على السير في الطريق لا يمكنها إن تتعداه كالرواقيين، و لما جاء الإسلام جاء دور البحث أثاروا هذه المسألة فقال الجبريين على رئسهم (جهم ابن صفوان) إن الإنسان مجبور، و ليست له إرادة حرة، و لا قدرة على خلق أفعاله، هو كالريشة في مهب الريح أو الخشبة بين يدي الأمواج و إنما يخلق الله الأعمال على يديه و قالت المعتزلة إن إرادة الإنسان حرة و قدرته تخلق ما يعمل، باستطاعته أن يفعل و لا يفعل، هو يفعل ما يختار و الذي دعى إلى هذا الاختلاف بين المسلمين، أن الأدلة العقلية متباينة و ظواهر النصوص مختلفة.

فمن ناحية نرى أن الله يطالب الناس بالعمل و يدعوهم إليه و يأمر و ينهي و يثبت على فعل ما أمر و يعاقب على الإتيان بما نهى، ووضع الحدود و العقوبات ووعد وأوعد، وساءل العصاة لم تعديتم ولم عصيتم و لم كفرتم و قد أفسحت لكم مجال العمل، و أرسلت لكم الرسل، و أبنت الحجة ثم ملئت نصوص الكتاب بذلك، فكيف يعقل بعد إن نقول إنه لا أثر لقدرة الإنسان أصلا، و لو لم تكن له قدرة لما كان معنى للطلب، ولما كان معنى للثواب و العقاب، و لكان التكليف تكليفا بالمجال، و الحق اعتراض المعترض بأنه لم يفعل ما فعل حتى يستحق لوما أو عقابا.

ومن ناحية أخرى إذا قلنا أن العبد خالق أعماله ترتب عليه تحديد قدرة الله و أنها لم تشمل كل شيء و أن العبد شريك الله تعالى في إجاد ما في هذا العالم و الشيء الواحد لايمكن أن تتعاون عليه قدرتان، فإن كانت قدرة الله هي التي خلقته فلا شأن للإنسان فيه و إذا كانت قدرة الإنسان هي التي خلقته فلا شأن لقدرة الله و لا يمكن أن يكون بعضه بقدرة الله و بعضه بقدرة العبد، لان الشئ الواحد لا بعض له – هذا موجود في النصوص القرآنية الكثيرة الدالة على شمول إرادة الله و قدرته.

أمور كثيرة ناقشها كل من المعتزلة و فرق أخرى فيما يخص القضاء و القدر و اختلف كل منهما و أثارو مشاكل عدة في كل المجالات وهذه أرائهم في معالجة القضايا المطروحة في عهدهم.( احمد أمين. ضحى الإسلام).

إن علم الله ليس كمثله علم، فإن علم الخلائق محدث و محدود، أما علمه سبحانه فقديم أزلي مطلق لا يتحدد بزمان أو مكان وأن الله قد أوجد الكون و الخلائق على نحو مقدر منظم، فكل شيء قد جاء مقدرا تقديرا فلا عشوائية و لا صدفة و لا فوضى بل إن كل شيء يسير ضمن نظام متقن قد قدره الله تقديرا.

فالمقصود بالقدر: هو علم الله الأزلي بوقوع الأشياء و الحوادث من قبل أن تقع فهو سبحانه عالم بكل ما سيكون من قبل أن يكون و علمه بذلك كله قديم بمعنى الأزلية التي لا يحدها زمان و على ذلك يمكن القول أن الله سبحانه في كتابه الحكيم يؤكدهذه الحقيقة (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء و الأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير).
فالله سبحانه و تعالى عليم بأجزاء الكون و حوادثه فلا يند عن علمه و أحاطته شيء و إن كان مثقال ذرة أو أصغر كل ماهو كائن في المستقبل مهما أمتد الزمن و طال فإن الله به عليم و هو أن كل شيء منظم تنظيما دقيقا يسير داخل نظام كوني منسق شامل جاء كما شاء له الله مقدرا تقديرا.

أما القضاء: فهو تعلق إرادة الله بالأشياء و عند إيجادها و هو أن تتعلق إرادته بالأفعال و الأشياء عند تحققها ذلك أمر مسبوق بإرادته المتعلقة بتلك الأمور منذ الأزل وعلى ذلك فإن القدر و الإرادة أزليان والقضاء بمثابة تحقيق لعلم اللهسابق و تنفيذ لإرادة قديمة و يمكن أن نستخلص مفهوم القضاء في الآيات التالية (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا يختلفون) (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون)

هذه جملة نصوص كريمة تنطوي على مفهوم القضاء باعتباره تنفيذا لإرادة الله الأزلية و باعتباره تحقيق الأفعال و أشياء قد قررها الله في الأزل و على ذلك فأنه ليس لأحد أن يقعد عن السعي و العمل و يظل رهين التخلف، الانكماش و السلبية بحجة أن ذلك أمر مقدر، الله عز وجل لا يرضى لعباده الكفر و لا يرضى لهم المعاصي أو التخلف و العجز باسم القضاء و القدر.

وهذه حقيقة لاشك فيها وهي أن الإيمان بالقدر يحفز للعمل الصالح و يمد الإنسان بزخم هائل من النشاط و الاندفاع لكي يمضي في الحياة ساعيا قويا مطمئنا، والإنسان المسلم وهو يحمل في قلبه تصورا ناصعا نقيا ماكان لمسلم يؤمن بقدر الله أن يعاني منها أو أن يستسلم لها.

ومن اعضم المنجزات التي تتحصل عن الإيمان بقدر الله ذلك الأمن و الاستقرار الذي يغشى النفس ليذيقها حلاوة السكينة والطمأنينة و يحس إحساسا غامر بالرضي و هي حقيقة يحسها من اضطلع بأمانة المسؤولية و كيفما كانت، ثم أدى واجبه على خير أداء.