عن "الجاهليّة الدينيّة"
بقلم محمود صالح عودة
إنه ليضيق صدر المرء إزاء ما يشهده عالمنا العربي والإسلامي من تخلّف على أكثر من صعيد وعادات هي أقرب لأيام الجاهلية. وما يزيد الأمر سوءًا هو البديل الذي يقدّمه أهل البلادة والتحجّر وضيق الأفق من الدعاة المسلمين.
منذ بزوغ فجر الرسالة الإسلامية والمسلمون يحاربون الجهل والأميّة، والتعصّب والوثنية، وسائر مظاهر التخلّف الجاهليّ؛ فكانت {إقْرَأْ} أول ما نزل من القرآن الكريم. إلا أن البعض يريد أن يعيد فينا، اليوم، سمات التخلّف والتنفير تلك تحت أعبئة وعمائم المشيَخة؛ إن كان من خلال التعسير بالمسائل الفقهية، أو بالتحريض على المختلفين بالرأي، وصولاً إلى التكفير الأعمى.
شاهدت مؤخرًا إحدى القنوات التي تبثّ البرامج الدينية، إذ دار البرنامج يومها حول صيام النفل، فقد ذكرت إحدى المشاركات للشيخ المضيف - وهو عضو "هيئة العلماء" في دولة عربية إسلامية - أنها أو أختها (لا أذكر بالتحديد) لا تصوم النوافل، فقام الشيخ بتوبيخها غاضبًا: "أنت كسلانة! أين الذين يصومون 3 أيام في الشهر نفلاً!"، وهو ما أثار الدهشة والاستغراب؛ فالنوافل من العبادات محبوبة ومرغوبة لمن شاء، ولكن هل أصبحت النوافل فرائض؟ أم هذه هي الطريقة التي ندعو بها إلى الله؟
لقد أمر الله تعالى نبيه الكريم (ص) أن يدعو بالتي هي أحسن، فقال عزّ وجلّ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}؛ فكانت الحكمة أول شرط للدعوة، والحكمة هي المعرفة المُحكمة، أي الصائبة المجرّدة عن الخطأ (ابن عاشور)، وهي استخدام العلم بالطريقة التي تؤدي للمراد، وهي العمل المناسب في الظرف المناسب والزمن المناسب مع الشخص المناسب، ولا تخطىء في العلل والأسباب، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}؛ المقنعة النافعة {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ فلا يكفي الجدال الحسن أو الجيد، بل المطلوب هو أحسن الجدال وأنفعه، إلى آخر الآية {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125)، فبعد الدعوة والنصح يعود الأمر لله الأعلم بعباده، الخبير بما في صدورهم. وهو ما يجعلنا نتساءل إثر تصرفات البعض: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24).
كما أن هناك من يدعون إلى المذاهب أكثر ممّا يدعون إلى الإسلام، ويسخرون ممّن يخالفهم الرأي ويكفّرونه، ووصل الحد ببعضهم باتهام من لم يتمذهب بالتكبّر، وكأنهم مأمورون بذلك؛ { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5)، فإخلاص الدين لله وحده، أما الآراء الفقهية فعديدة ومختلفة، وللمسلم أن يأخذ ما يناسبه منها وفقًا للظرف والزمان والمصلحة، دون تعصّب لصاحب الرأي، مع الذكر بأن التفريق والنزاع يخدم من يتربّص بالأمّة ويعاديها، ويبذل الأموال الهائلة في إذكاء نار الفتنة، التي أضحت إحدى أواخر آماله.
الأخطر من المذكور آنفًا، هو قيام بعض المشايخ بسلخ الدين عن الواقع الذي نعيشه سياسيًا وثقافيًا؛ فلا جدال ولا كلام ولا نقد للوضع السياسي والاجتماعي الكارثي الذي يعيشه العرب والمسلمون، وكل ما يصدر من أفواه بعضهم حول الموضوع هو وجوب "طاعة ولي الأمر" - ولو كان ظالمًا أفّاكًا أثيمًا، وهو كذلك في أكثر الحالات - وهم بذلك {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (المائدة: 13) كما فعل الكفّار من بني إسرائيل، ليستسلموا بعملهم لسياسة الأمر الواقع خدمة للحاكم، بالرغم من كون إقامة العدل والإصلاح الإجتماعي والسياسي هي من الأولويات الإسلامية.
إن الأنظمة العربية والإسلامية "المعدّلة" أمريكيًا وصهيونيًا، معنية - كأسيادها - بتفشّي مظاهر التخلّف والعصبية والطائفية وإلهاء الشعوب بلقمة العيش. كما أنها حريصة على وجود من يشوّهون صورة الدين وينفّرون الناس منه، لإظهاره بصورة "البديل السيء" لحكمهم الذي هو حقيقة خليفة الاستعمار، ولذلك تجدها تدعم وتغذّي تيارات التخلّف والفتنة، وظاهرة "الجاهليّة الدينيّة" إن صحّ التعبير، إضافة إلى التضييق على التيار الوسطي الذي يمثّل غالبية المجتمعات العربية، وتشويه صورة الرموز الدينيّة والوطنيّة التي لم تمحِ من قاموسها معاني العزّة والكرامة.