الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعدُ...

فتلك كلماتٌ أخُطّها وأنا في ترقّب وانتظار وحَيرة واستنفار، أبحث في نفسي وأفتّش في أعمالي عن عمل أرجو قبوله وأؤمل ثمرته إذا لقيت ربي يوم العرض عليه، ولا أدري إن كان قد تقبل الله مني صومي وقيامي على تقصيري وانهزامي، أم قد ردَّه عليَّ بسوء تصرّفي وقلّة إقبالي وضعف همَّتي؟؟

أكتبُها عسى الله أن يجعل فيها تذكيراً لنفسي وإرشاداً وتأديباً وتعليماً وتهذيباً، ولعلَّها أن تكون سبباً في هداية قارئ يقرؤها فيقبلُ بسببها على الله مستغفراً منيباً تائباً فيغفرُ الله لي به ويعفو عني بعفوه عنه...

هذه أيام رمضان قد انصرمت وأنفاسه الأخيرة قد تسارعت، وقد أوشك على الرّحيل وآذن بزوال لا رجعة بعده إلى يوم القيامة فإمَّا شفعت لنا أيامه ولياليه، وإمَّا كانت شاهدةً على سوء تصرف المقصّرين ـ نعوذ بالله أن نكون منهم ـ.

ومِن جميل ما وقفت عليه من معاني هذا الشهر الفضيل ما لاح لي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقى المنبرَ فقال: «آمين ، آمين ، آمين» فقيل له: يا رسول الله ، ما كنت تصنع هذا؟ فقال: «قال لي جبريل: رغم أنف عبد ـ أو بعدَ ـ دخل رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين...» الحديث (رواه ابن خزيمة وابن حبان والبخاري في الأدب المفرد وقال الشيخ الألباني : حديث حسن صحيح).

تأمَّلتُ هذا الحديث وحاولتُ استشفاف بعض فوائده فكان منها:

1ـ أنَّ إدراك رمضان في حد ذاته فرصة ونعمة ومنَّة ومحضُ كرم ولُطف من الله عز وجل، وأنه مَغنم لا يعرف قدره إلا العارفون الأذكياء أولوا الألباب "كما توحي بذلك وتشير إليه كلمة (أدرك)" والتي تُشعر بأنه ملاذٌ من خطر وحصن من عدوّ.

2ـ أنَّ المَغنَم من رمضان ليس بمجرَّد إدراكه دون عمل ومجاهدة؛ وإلاَّ فما كان لهذا العبدِ أن يخرُج منه دون مغفرة ورحمة وعفو إلا إذا كان قد أمضاه وقضاه في غير الأعمال الصالحة والتجارة الرابحة.

3ـ أنَّ رمضان مناخٌ طيب وبيئة خصبة للحصول على المنافع أعلاها، والوصول إلى الغايات أسماها، والفوز بالدرجات أعلاها، وليس ذلك إلا بالجد والاجتهاد، والبذل والعطاء، والنشاط في مرضات الله عز وجل.

ولعل الناس يذكرون أن في رمضان في كل ليلة ويوم عتقاء من النار لا يعلم عدَدَهُم إلا الله فأنَّى للعبد أن يُفوِّت فرصة العتق من النار والنجاة من الخزي والعار والبعد عن الهوان والبوار إلا إذا كان مخذولاً تعيساً، فحُق له أن يدعو جبريل بأمر الله ويؤمّن على الدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم عبد أو بعد عبدٌ» نعوذ بالله من الخذلان.

وهل يخفى على عبد أن أبواب الجنات مُفتَّحة وأبوابُ النيران مُغلقة وينادي مناد كل ليلة: يا باغيَ الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر... وهذا فيه إشعار بأنَّ الأعمال المُوصلة إلى الجن َّات أرجى وأحرى بالقبول، وأنَّ الأعمال الموصلة إلى النيران ـ نعوذ الله منها ـ أرجى وأحرى بالمغفرة والعفو عنها وترك المؤاخذة عليها.

أرأيت كيف أقبل الناس من كل مكان على ديوان المظالم هنا في مصر الحبيبة يقدّمون رغباتهم ويعرضون مطالبهم ويرفعون مظالمهم، لعل رئيس الدَّولة وفَّقه الله لمرضاته يعملُ على حلّها ودفع الأذى ورفع البلاء، وما هو إلا بشر من بني آدم لا يملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا...
فكيف لو أقبلَ النَّاسُ على الله عز وجل الملك وقد أخبرنا سبحانه أنَّهُ يُجيب المضطرَّ إذا دعاه وأخبرنا المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للصائم دعوة مستجابة...؟

4ـ الصيام جُنّة... وقاية وحماية وحفاظة وحصن من الشرور والبلايا والمعاصي والرزايا، ولكنها ليست لأيّ أحد إلا لمن استعمل مفتاح الحصن وأدار جهاز الحفظ ولبس الدرع الواقي من الزلل... فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يفسق؛ فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم...

وحسبنا في النهاية أنَّ في رمضان ليلة القدرالتي هي خير وأعظم وأكبر أجراً وثواباً وعاقبة ومآباً من ألف شهر،
تأمَّلت لو أن رجلاً من بني آدم قد وفَّقه الله إلى أن يعمِّرَ في الأرض ألف شهر في طاعة تامّة وعبادة خالصة وعَصمه من الزلل والخطأ والنسيان والعصيان، وقَبل منه طاعته هذه، ثم جاء يوم القيامة رجلٌ من أمة النبي صلى الله عليه وسلم بأجر ليلة واحدة فقط من عمره وهي ليلة القدر وقد وفقه الله فقامها ودعا الله فيها إيمانا واحتسابا فتقبل الله منه وكتبها له، فأيّ الرجلين يكون أعظم أجرا وأثقل ميزانا؟؟؟

لا شكَّ هو العبد الذي أتى بثواب ليلة القدر...

فكيف إذا كان العبد قد أقامَ على الطَّاعة أعواماً، ووفّق لليلة القدر مراراً وتقبل الله منه هذا العمل، وكتب له هذه الليلة مرات عديدة أعواماً مديدة...؟

فتلك بعض الثمرات الواضحات الجليات نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يعتق رقابنا من النار أجمعين اللهم آمين...

لا أودّ أن أُكثر الكلمات ولا أنسج العبارات؛ فوالله لو نطقت الأعمال لصرخت بحقيقة عاملها، ولو أُجيزت الكلمات لهتكت ستر قائلها لكنها رحمة الله وعفوه وستره الجميل وصفحه، فاللهم لك الحمد وأستغفرك وأتوب إليك