بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الرحمن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم سيد ولد عدنان، بل سيد الإنس والجان، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
وبعد: فإن الناظر في تكوين هذا الإنسان، ذلك المخلوق عجيب التكوين، يجد أنه يتكون من ثلاثة أشياء رئيسة، وهي: الجسم والفكر والقلب، وكل واحد من هذه الثلاثة يحتاج إلى رعاية وترويض، وإلا مرض أو مات.
أما الجسم: فرعايته وترويضه بالطعام والشراب والحركة، وهذا ما لا يكاد يغفل عنه إنسان، لأنه مفطور على ذلك، وأما الفكر: فرعايته وترويضه بالعلوم والمعارف والتأمل وتقليب وجهات النظر، وأما القلب: فرعايته وترويضه بالذكر والإقبال على الله، والنظر في المآل، وليس حديثنا هنا عن الجسم ولا عن الفكر، إنما هو عن القلب، تلك الجوهرة اللطيفة التي جعلها الله أشرف ما في الإنسان، التي إذا صلحت صلح باقيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ، حتى غدت محط نظره تبارك وتعالى كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وحين نرجع إلى القرآن الكريم، نجد أن ربنا تبارك وتعالى يذكر ثلاثة أنواع من القلوب وهي: القلب السليم، والقلب الميّت، والقلب المريض، ولا يخلو إنسان من أن يملك واحدا من هذه القلوب الثلاثة.
أما القلب السليم: فهو ذلك القلب المشرق بالإيمان، الممتلئ بالمحبة واليقين، المفعم بحسن المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الخالص من شوائب الشرك والريب، وسائر الأخلاق الرذيلة، وحين نقول المتابعة لرسول الله، فذاك لأن المتابعة له عليه الصلاة والسلام لا تعني اتباعه في الظاهر فحسب، بل لا بد للحصول على هذا القلب السليم، من أن تكون هناك متابعة في الباطن، من المراقبة والحضور وصدق الوجهة إلى الله تعالى، وإذا كان اتباعه في الظاهر لا بد منه لتصحيح العمل ورجاء القبول، كأن نصلي كما كان يصلي، ونحج كما كان يحج، ونجاهد كما كان يجاهد، ونعامل الناس كما كان يعاملهم، وما إلى ذلك من الأعمال الظاهرة، وإذا كان ذلك كذلك، فإن اتباعه في الباطن لا يقل أهمية عن هذا الاتباع، إن لم يكن أهم وآكد، ذاك لأن أمراض القلوب والذنوب الناشئة عنها أشد فتكا بالإنسان، وأعظم ضررا عليه من الذنوب الناتجة عن التقصير أو الإخلال في الأعمال الظاهرة، ولا يخفى ما في الحسد والحقد وحب الدنيا وإساءة الظن بالمسلمين، ونحو ذلك من الأمراض القلبية، من الضرر على صاحبها والعياذ بالله.
ثم إذا رزق العبد ذلك القلب السليم، الذي قال الله تعالى فيه: يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم (الشعراء: 88-89) واستقام عليه، فإنه سيظفر بذلك النداء المحبب حين يكون في آخر لحظات حياته من الدنيا، وأول ساعات دخوله في عالم الآخرة، تلك البشارة العظمى التي تتطلع إليها نفوس المؤمنين: يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي (الفجر: 27-30)، جعلنا الله تعالى بفضله من أهل ذلك.
وأما القلب الميت: فهو ذلك القلب المنكوس، الذي لا يدخل فيه شيء من النور، ولا يصل إليه شيء من الهدى، إنه قلب الكافر الذي أغمض عينيه عن الحق وسد بوجهه سبل الهدى والنور بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (النساء: 155).
وإذا ما استمر العبد على هذه الحال، وحان أجله وهو يحمل ذلك القلب المنكوس، فإنه سيقرع بمقارع ذلك النداء المفزع المرعب، حين يكون في آخر لحظات حياته من الدنيا، وأول ساعات دخوله في عالم الآخرة، ذلك التقريع الذي لا حيلة في دفعه أو الاعتذار عن سببهولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (الأنعام: 93)، وتوضيح ذلك في قوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق. ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد(الأنفال: 50-51).
وأما القلب المريض: فهو ذلك القلب الذي يشبه الكأس الذي فتح من جانبيه، من فوق ومن تحت، فهو لا يمسك خيرا، ولا يستقر فيه هدى ولا نور، إنه قلب المنافق، الذي كان يسلك مسالك المكر والخداع والاستهزاء بالمؤمنين، مرة هنا ومرة هناك، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء” (النساء: 143)، إنه قلب مريض كما قال تعالى: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (البقرة: 10).
ومن المعلوم أن المريض قد يصح ويشفى، وقد يزداد مرضه فيموت، وكذلك قلب المنافق، فإن تاب وأناب بالشروط الأربعة التي ذكرها الله تعالى، إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ، فقد أفلح وأنجح لأنه انتقل من القلب المريض إلى القلب السليم، إنه يلحق بأهل الإيمان فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما ، وإن أصر على مكره، وتمادى في غيه، ألحق بالكافرين وأصابه ما أصابهم، بل إن عذابه سيكون أشد إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (النساء: 145).
ومما ننبه عليه هنا: أن قلب المؤمن قد يصيبه بعض المرض الذي لا يصل إلى درجة النفاق، فعليه أن ينتبه لنفسه، قبل أن يستفحل الداء، ويعز الدواء، فيصدق عليه قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (المطففين: 14)، أجل قد يصاب قلب المؤمن بنوع من الحسد أو الحقد أو الغل أو إساءة الظن بالمسلمين، أو التعلق بالدنيا والميل إليها، والغفلة عن الله والحياة الآخرة، وهنا يكون قد دب فيه دبيب المرض، الذي يخشى عليه إن لم يتداركه بالتوبة والتصحيح أن يصل به إلى أحد القلبين الآخرين والعياذ بالله، وإن المراقبة وقوة المحاسبة، وصحبة الصالحين والكينونة مع الصادقين، كفيلة بإذن الله وتوفيقه بالوقوف على الداء والوصول إلى الشفاء.
بقي أن نذكّر أنفسنا بذلك الحديث العظيم الذي ترتعد منه الأفئدة اليقظة، ذلك الحديث الصحيح الذي يحذرنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم من أن نكون من أولئك النفر الثلاثة، الذين أتوا من الأعمال أحسنها، ولكن لمرض قلوبهم وسوء نياتهم، هبطوا إلى الحضيض بدل أن يرقوا إلى الدرجات العلى كما هو شأن الصادقين.
إنهم قارئ للقرآن وعالم به، وشهيد، ومنفق في وجوه الخير، فهل ترون أسمى وأجل من هذه الأعمال؟
إنهم حين يسألون عن سر أعمالهم هذه، ولمَ أتوا بها؟ ويقولون: إنما فعلنا ذلك لله، يقول الرب تبارك وتعالى وهو العليم الخبير، يقول لكل واحد منهم: كذبت، إنما فعلت ليقال.. وقد قيل، خذوا به إلى النار، ليقال قارئ، ليقال: جريء، ليقال جواد، إن كلمة ليقال هذه قد أقضت مضاجع الصالحين، وأرقت جفون المتقين، فاللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل يا أرحم الراحمين.