الإمام الحسن(عليه السلام) في عهد الدولة العلويةووجّه الإمام لدى عودته من صفّين بمنطقة يقال لها: «حاضرين» وصيةً مهمّة إلى ابنه الحسن (عليه السلام) وقد تضمّنت دروساً بليغة :
11 ـ وصية الامام أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن :
«من الوالد الفان ، المقرّ للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، والظاعن عنها غداً ، الى المولود المؤمّل ما لا يُدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، ورهينة الأيام ، ورميّة المصائب ...
أمّا بعد: فإن فيما تبيّنت من إدبار الدنيا عنّي ، وجموح الدهر عليّ ، وإقبال الآخرة إليّ ، ما يَزَعُني عن ذكر مَن سواي، والإهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرّد بي دون هموم الناس همّ نفسي ، فصدفني رأيي ، وصرفني عن هواي ، وصرّح لي محض أمري ، فأفضى بي الى جِدّ لا يكون فيه لَعِب، وصِدق لا يشوبه كَذِب . ووجدتُك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأنَّ شيئاً لو أصابك أصابني ، وكأنَّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي مستظهراً به إن أنا بقيتُ لك أو فنيتُ .
فإني أوصيك بتقوى الله ـ أي بُني ـ ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله . وأيُّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به؟
أحي قلبك بالموعظة ، وأمِته بالزهادة، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء وبصّره فجائع الدنيا وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيام ، وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب مَن كان قبلك من الأوّلين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا ، وأين حَلّوا ونزلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم . فأصِلحْ مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تُكلّف .
وخُضِ الغمرات للحقّ حيث كان ، وتفقّه في الدّين ، وعوّد نفسك التصبّر على المكروه ، ونِعْمَ الخُلُق التصبر في الحق ، وألجئ نفسك في أمورك كلّها الى إلهك ، فإنّك تلجئها الى كهف0] حريز ، ومانع عزيز .
فتفّهم يا بُنيّ وصيّتي، واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة ، وأنّ الخالق هو المميت ، وأنّ المفني هو المعيد ، وأنّ المبتلي هو المُعافي ، وأنّ الدنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها الله عليه من النعماء والإبتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء ممّا لا تعلم ... فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسوّاك، وليكن له تعبّدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك.
واعلم يا بُني أنّ أحداً لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرسول (صلى الله عليه وآله)فارضَ به رائداً ، والى النجاة قائداً ، فإنّي لم آلُك نصيحة فإنّك لن تبلغ في النظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظري لك .
واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأَتَتْكَ رُسلُه ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحد ، ولا يزول أبداً ولم يزل . أوّلٌ قبل الأشياء بلا أوّليّة ، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عَظُمَ عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صِغَر خَطَره وقلّة مقدرته وكثرة عجزه ، وعظيم حاجته الى ربّه ، في طلب طاعته ، والخشية من عقوبته ، والشفقة من سخطه ، فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح .
... يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تَظلم كما لا تُحبّ أن تُظلم ، وأحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك .
واعـلم أنّ الإعجـاب ضـد الصـواب ، وآفـة الألبـاب، فاسـعَ فـي
كـدحك ولا تكن خازناً لغيرك ، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك .
... واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفّل لك بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه .
... ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته ، فمتى استفتحت بالدعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يُقنّطك إبطاء إجابته ، فإنّ العطيّة على قدر النيّة، وربّما أُخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت الشيء فلا تؤتاه ، واُوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً ، أو صُرف عنك لما هو خيرٌ لك ، فلرُبّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، ويُنفى عنك وباله ، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له .
... يا بُني! أكثِر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجُم عليه ، وتُفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك ، وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد[ أهل الدنيا إليها ، وتكالبهم عليها ، فقد نبأك الله عنها ، ونَعَتْ هي لك عن نفسها ، وتكشّفتْ لك عن مساويها، فإنّما أهلها كلاب عاوية ، وسباع ضارية ، يهرّ بعضها على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها .
... واعلم يقيناً أنّك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنّك في سبيل من كان قبلك ، فخفّض في الطلب ، وأجمل في المكتسب، فإنّه رُبَّ طلب قد جرّ الى حَرَب فليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل بمحروم، واكرِم نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك الى الرغائب ، فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً.
ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً، وما خيرُ خير لا يُنال إلاّ بشرّ ، ويسر لا يُنال إلاّ بعسر؟.
وإيّاك أن تُوجف بك مطايا الطمع ، فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت ألاّ يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فإنّك مدركٌ قَسْمَكَ ، وآخذ سهمك ، وإنّ اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خَلْقِه وإن كان كلّ منه .
... ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك ، ولا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ، ولا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يَكبُرنَّ عليك ظلم من ظلمك ، فإنّه يسعى في مضرته ونفعك ، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه.
واعلم يا بُنيّ! أنّ الرزق رزقان : رزق تطلبه ورزق يطلبك ، فإنّ أنت لم تأته أتاك ، ما أقبح الخضوع عند الحاجة ، والجفاء عند الغنى! إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك وإن كنت جازعاً على ما تفلّت من يديك ، فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان ، فإنّ الاُمور أشباه ، ولا تكوننّ ممن لاتنفعه العِظَة إلاّ إذا بالغت في إيلامه ، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب ، والبهائم لا تتّعظ الاّ بالضرب .
... استَودِعِ الله دينك ودُنياك ، واسألهُ خير القضاء لكَ في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة ، والسلام .