الصوفي الكبير أبو القاسم الجُنَيْد البغدادي
( ت 297 هـ )
نشأة الجنيد
ومن نهاوند خرجت أسرة الجُنَيْد بن محمد، أما هو نفسه فقد ولد ونشأ في بغداد، وكنيته أبو القاسم، وعرف بالخَزّاز والقَواريري، إذ كان خزّازاً يتّجر في الخزّ (نوع من الحرير)، وكان أبوه يبيع قوارير الزجاج.
وهذا يعني أن الجنيد كان من أسرة متوسطة الحال، تمارس التجارة، ونجده مع ذلك علماً بارزاً من أعلام التصوّف في عصره (القرن الثالث الهجري)، والدليل على ذلك أمور ثلاثة: أقواله وأفعاله، وكثرة المهتمين بترجمته، وحرص الذين ترجموا لغيره من الصوفية على أن يقولوا في تراجم بعض الصوفية:
" من أقران الجنيد"، " كان الجنيد يقول فيه: .. "، " صحب الجنيد "، " مات قبل الجنيد .."، " من كبار أصحاب الجنيد "، " لقي الجنيد .. "، " من أقارب الجنيد وجلسائه "، " وكان في عصر الجنيد، وكان الجنيد يقول بفضله "، " أخذ عن الجنيد "، " أبوه صحب الجنيد ".
وهكذا دواليك.
رحلته الصوفية
ولا نعرف إلا القليل عن بدايات تحوّل الجنيد إلى التصوّف، فالذين ترجموا له ذكروا أنه تتلمذ على خاله الصوفي سَرِيّ السَقَطي (ت 253 هـ) وجاء في (الرسالة القشيرية) أن سَرِيّ السقطي كان وحيد زمانه في الورع وأحوال السنة وعلوم التوحيد، وهو تلميذ الصوفي الكبير معروف الكرخي (ت 200 هـ)، وكان سريّ أيضاً تاجراً.
ويبدو أن الجنيد صحب خاله سَرِيّ السقطي مدة طويلة، إضافة إلى تتلمذه على جماعة من مشايـخ الصوفية، منهم الحارث المُحاسبي (ت 243 هـ)، وقد قيل في الحارث: " لا نظير في زمانه علماً وورعاً ومعاملة وحالاً "، كما درس الجنيد الفقه على إبراهيم بن خالد بن اليمان المشهور بكنية أبي ثَوْر الكلبي صاحب الإمام الشافعي، وأحد الأئمة المجتهدين.
ومهما كان من أمر فقد كان عند الجنيد استعداد لأن ينحو منحى الصوفية منذ صغره، ولا شك أن للوسط الاجتماعي الذي عاش فيه تأثيراً كبيراً في هذا المجال، وفي حديثه عن صباه إشارة واضحة إلى ذلك، لقد قال:
" كنت بين يدي سَريّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلّمون في الشكر. فقال لي: يا غلام، ما الشكر؟ قلت: الشكر ألا تعصي الله بنعمه. فقال: أخشى أن يكون حظك مـن الله لسانك! قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السَرِيّ ".
ويبدو أن سريّ السقطي كان يتوسّم الخير في ابن أخته الجنيد، ويلمس فيه تباشير الفطنة والتأمل والصلاح، وإلا ما كان ليسأله ذاك السؤال الدقيق الذي لا يتناسب والقدرات الفكرية للصبية، ولعله كان يحاول بذلك أن يوجّه ابن أخته إلى دائرة التصوف، ويشجّعه على المضي فيه، وها هو ذا الجنيد يذكر خبراً آخر يعزّز ما نذهب إليه، قال:
" قال لي خالي سريّ السقطي: تكلّم على الناس! وكان في قلبي حِشمة من ذلك، فإني كنت أتّهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم- وكانت ليلة جمعة- فقال لي: تكلّم على الناس! فانتبهت، وأتيت باب سريّ قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: لم تُصدّقنا حتى قيل لك! فقعدت في غدٍ للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلّم، فوقف عليّ غلام نصراني متنكّر، وقال: أيها الشيخ، ما معنى قوله عليه السلام: (اتّقوا فِراسِة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)؟ فأطرقت، ثم رفعتُ رأسي فقلت: أسلمْ، فقد حان وقت إسلامك! فأسلم ".
هكذا بدأ الجنيد تجربته التصوّفية بإيمان عميق، وهو إلى هذا معدود في طبقات فقهاء الشافعية المرموقين، وحسبنا دليلاً على ذلك أنه كان يفتي بحلقة أبي ثَوْر الكلبي وله من العمر عشرون سنة فقط. قال علي بن إبراهيم الحدّاد:
" حضرت مجلس ابن سُرَيْج الفقيه الشافعي، فكان يتكلّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجيب. فلما رأى إعجابي قال: أتدري من أين هذا؟ قلت: لا! قال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد ".
ونفهم من هذا الخبر أن الجنيد لم يقتصر في حديثه إلى الناس على علم الحقيقة وأحوال التصوّف فقط، وإنما كان ضليعاً في علوم الشريعة أيضاً.
من أحواله وأقواله
ونذكر من أحوال التصوّف التي نقلت عن الجنيد الخبرين الآتيين:
قال أبو عمرو بن علوان، وهو ممن صحب الجنيد وأخذ عنه:
" خرجت يوماً إلى سوق الرَّحْبة في حاجة، فرأيت جنازة، فتبعتها لأصلّيَ عليها، فوقفت حتى تدفن، فوقعتْ عيـني على امرأة مُسفِرة، من غير تعمّد، فألححت بالنظر إليها، واسترجعت واستغفرت الله تعـالى، وعـدت إلى منزلي. فقالت عجوز لي: يا سيدي، مالي أرى وجهك أسود؟! فأخذت المرآة فنظرت، فإذا هـو كما قالت، فرجعت إلى سِرّي أنظر من أين ذهبتُ، فذكرتُ النظرة، فانفردت في موضع، أستغفر الله، وأسأله الإقالة أربعـين يوماً، فخطر في قلبي أن زُرْ شيخك الجنيد، فانحـدرت إلى بغـداد، فلما جئت حجرته طرقت البـاب، فقال لي: ادخل أبا عمرو! تذنب بالرحبة، ونستغفر لك ببغداد ".
وقال أبو الحسن خير النسّاج (صوفي أصله من سامرّاء، وعاش ببغداد):
" كنت يوماً جالساً في بيتي، فخطر لي خاطر أن الجنيد بالباب فاخرجْ إليه، فنفيته عن قلبي، وقلت: وسوسة! فوقع لي خاطر ثانٍ بأنه على الباب فاخرجْ إليه، فنفيته عن سِرّي، فوقع لي ثالث، فعلمت أنه حق، ففتحتـه، فإذا بالجنيد قائم، فسلّم عليّ، وقال لي: يا خير! لِمَ لا تخرج مع الخاطر الأول "؟!
وجاء في (طبقات الأولياء) لابن المُلقِّن:
" كان يقال: في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان الحِيري بنيسابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله الجلاّء بالشام ".
ويخرج المرء من سيرة الجنيد بنتيجة مفادها أنه لم يكن صوفياً من الغلاة الذين يقولون بالحلول والاتحاد، ولا من أولئك الذين قالوا بإسقاط التكليفات الشرعية؛ إن تصوّفه يرتكز على إيمان عميق، وتمسّك شديد بالسنة النبوية، وحرصٍ كبير على التزام ما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو القائل في هذا الصدد:
" الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر رسول الله عليه الصلاة والسلام ".
وقال أيضاً:
" من لم يحفظ القرآن الكريم، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنّة ".
ومن أقواله التي تدعو إلى التأمل:
- " من طلب عزّاً بباطل أورثه الله ذلاًّ بحقّ ".
- " من همّ بذنب لم يفعله ابتُلي بهمّ لم يعرفه ".
- " الأدب أدبان: أدب السرّ، وأدب العلانية؛ فالأول طهارة القلب من العيوب، والثاني حفظ الجوارح من الذنوب ".
- وسئل من العارف؟ فقال: " من نطق عن سرّك وأنت ساكت ".
- وسئل: أنطلب الرزق؟ فقال: إن علِمتم في أيّ موضع هو فاطلبوه. فقالوا: نسأل الله ذلك؟ فقال: إن علمتم أنه نسيَكم فذكِّروه. فقالوا: ندخل البيت، ونتوكّل على الله؟ فقال: تجرّبون الله في التوكل؟! فهذا شك. قالوا: فكيف الحيلة؟ قال: تركُ الحيلة.
- وقال شعراً:
وإنّ امرَأً لم يَصْفُ لله قلبُـه لفي وَحشة من كل نظرةِ ناظرِ
وإنّ امرَأً باع دنيـا بدينـه لَمُنقلِبٌ منــها بصفقةِ خاسرِ
- - - - -
قال أبو بكر العطار:
حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلّي ويَثني رجله، فثقلت عليه حركتها، فمدّ رجليه وقد تورّمتا فرآه بعض أصحابه، فقال: ما هذا يا أبا القاسم؟! قال: هذه نِعَم، الله أكبر! فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمـد الجُرَيري: لو اضطجعت! قال: يا أبا محمـد! هـذا وقت يؤخذ منه؟! الله أكبر. فلم يزل ذلك حاله حتى مات، وكان ذلك سنة (297 هـ).