بينما كان القطار يشق طريقه ليصل الى مدينة فاس ، كان الأمل يتدفق بغزارة في شراييني و يسري في عروقي ليرسم بريقا ساطعا في مقلتاي. كنت واثق على أنهم لن يرفضوا طلب اجراء تدريب صيفي في وكالتهم ، لأن التطبيق الذي كنت أنوي أن أبرمجه كان سينتشل وكالتهم من بين أكوام الأوراق و الخرائط البئيسة الى عالم المعلوميات و حضارة البرمجة.
عند المدخل ، استقبلتني مريم ( مهندسة في تحليل المعلومات الجغرافية ) بابتسامة عريضة ، رحبت بي و استضافتني في مكتبها المتواضع. شرحت لها بالتفصيل أهداف تطبيقي ، و كيف سأتمكن من برمجته و الوسائل التي سأعتمد عليها. أبرزت لها منافعه. اقتنعت بفكرتي، و أشادت كثيرا بها. بعدها طلبت مني أن أنتظر حضور المسؤول عن الموارد البشرية لكي ننهي أخر الاجراءات و يتم قبول طلبي بنجاح. و هنا بدأت القصة أو بالأحرى انتهت القصة.
بعد حوالي ساعة من الانتظار ، قدم المسؤول أخيرا، طرقت بابه بلطف و استأذنته الدخول و يا ليتني ما فعلتها. لم تلبث رجلي أن وطأت أرض مكتبه حتى أطلق شرارات غضب من عينيه و كأنها عاصفة رعدية كسرت ربيع أملي ، تنفست ببطئ لكي أتأقلم مع الانقلاب الجوي الغير مرتقب ، و رسمت بسمة لعلها تطرد الشحنات السالبة التي أرسل هذا السيد. لكن الصنديد لا يعرف معنى البسمة و لا معنى الرحمة ، بل استمر على طبيعته قائلا :
ـ من أنت ؟ ماذا تريد ؟ ألا ترى على أنني مشغول ؟
ـ أسف ، أنا اسمي .... و أنا طالب بالمدرسة الفلانية للمهندسين ، قدمت اليوم من الدار البيضاء لمقابلتك ، أنت من طلب ذلك من مريم أليس كذلك ؟
نظر الي نظرة الجندي لعدوه ، و أراهن على أنه لو كان هنالك سهم بجانبه لما تردد في تسديده نحوي ، لكنه لم يجد سوى سهام الكلام فأرسلها نحوي اتباعا
ـ لما قدمت الى هنا ؟ أنا مشغول ، من طلب منك القدوم ..... المهم انتظرني ريثما أنهي أعمالي ، بامكانك انتظاري في المكتب المقابل ، و بعدها سأتحدث معك و مع مريم .
ثم أرسل الي اشارات بصرية مفادها ، انطرد الأن ، أغرب عني وجهك. بدهشة كبيرة انصرفت من مكتبه ، أردت الذهاب بدون عودة لكن ماذا سأفعل مع مريم البريئة ؟ هل أتركها تعاني لوحدها مع هذا الذئب الشرس ؟ لا لا سأتحمل شره لكي لا أسبب لها مشاكل هي في غنى عنها. طأطأت رأسي ، و حاولت أن أتفهم هذا الواقع المرير ، شخص طلب ملاقاتي منذ أيام و هو الأن يعاملني كجرذ حقير دون أي مبرر و دون أي سبب ؟ لم أشرح له طبيعة عملي بعد و هو يحاربني بنظراته ، بتنهداته و في الأخير يسقطني بالقاضية بكلماته. جلست في المكتب المقابل ، كانت هنالك فتاة تحاول أن تستفسر عن علاقتي بذلك السيد ، طلبت مني بلطافة أن أصبر قليلا و ألا أنزعج لأن صاحبنا ليس في أفضل حالاته اليوم. كانت بين الفينة و الأخرى تقول لي على أنه غارق في دوامة العمل ، لدى وجب علي أن أجهز أعصابي لكي تستقبل حماقاته. لقد قرأت في ملامحي القسوة التي عاملني بها ، و الفظاظة التي أكرمني بها أيضا ، تمنت لي الحظ الموفق ثم طلبت مني أن أعود الى مكتب الزعيم.
بخطوات متثاقلة دخلت الى عرينه مرة أخرى ، ألقيت بعيني يمينا و شمالا و لم أجد مريم ، يبدو على أنها لم تحضر بعد. حاولت أن أضع غشاوة في أذني لتمنع كلماته الجارحة من اختراق طبلتي. بينما هو كان يحمل سماعة الهاتف بيده اليمنىى و كأنه يحمل بندقية ، و عندما رفع الخط أرسل رصاصاته
ـ مريم ، أريدك حالا في مكتبي.
وضع السماعة بقوة ، ثم استدار
ـ لقد قلت لك سابقا أنني مشغول ، لماذا قدمت اليوم ؟ و من الدار البيضاء ؟
ـ لقد أخبرتني مريم على أنك كنت تود ملاقاتي في هذا اليوم ، و لذلك تغيبت عن الدراسة لكي أتمكن من الحضور.
ـ ماذا تريد الأن ؟
ـ لقد حدثتك مريم ، أريد أن أقوم بتدريب صيفي داخل وكالتكم.
ـ هذا ليس بالشيء الهين ، هل تملك موضوعا أم ماذا ؟
ـ نعم ، أريد أن أقوم بتطبيق يقوم بحساب و تمثيل كل بيانات حوض سبو ، سيقوم بترقيمه و ستحدد مناطق الصبيب المرتفع ما سيمكنكم من معرفة المناطق المهددة بالغرق. كما سيقوم بتحديد مجرى المسالك المائية النابعة من الحوض بدقة كبيرة ما سيمكن الفلاحين من الاستفادة الكبرى منها ، كما سيقوم بتحليل صور الأقمار الصناعية للحوض ، و هته الصور ستمكننا من استخراج بيانات مهمة سنبني عليها توقعات حول حالة الحوض للسنوات المقبلة.
في هته الأثناء دخلت مريم ، حياها المسؤول ببرودة ثم أرسل الي الكلمات التالية
ـ لكن هذا كثير ، و نحن لا نقوم بهذا ، نحن لا نقوم بالأبحاث.
ثم أضاف
ـ مريم ، لقد حدثك عن تطبيقه و أنت تعلمين على أننا لا نقوم بالأبحاث هنا ، نحن نعمل بما نملك فقط و لا شيء أكثر
ـ لكن تطبيقه مهم و يمكن استغلاله في السنوات المقبلة ، صحيح على أن النظام المعلوماتي ليس متطورا هنا ، لكن تطبيق كهذا سيكون له أثر طيب في المستقبل ، و سيغنينا عن شراء برامج أخرى في المستقبل ,
ـ لا ، ان هو أراد أن يعمل في مشروعنا الحالي مرحبا ، و الا فنحن لسنا بمختبر أبحاث. تعلمين على أننا لا نقوم ب - Teledetection ـ هنا و لن نقوم بها.
ـ لكن، العديد من الشركات تستقبل الطلبة ليقوموا بهذا النوع من التداريب ، و أنا عندما كنت طالبة مثله قمت بنفس الشيء.
ـ لا ، في البداية كان عليه أن يحدد موضوع يناسب حاجاتنا ، المهم يمكنك الاتصال بعزيز و اطلبي منه أن يعطيك لائحة المشاريع الحالية ان هو استطاع مساعدتنا.
اكفهرت وجوهنا أنا و مريم ، انسحبنا في صمت ، نتجرع مرارة كلامه و كرمه . كلمات تكسر الزجاج فما بالك بالأفئدة ، عبارات جارحة و استضافة فاضحة ، تدمر ذرات الأمل واحدة تلو الأخرى ، واقع يصفعك و لا يرحمك ، يذكرك بمستقبلك في هذا الوطن. هل هكذا سيتقدم الوطن ؟ عندما تحمل مشروعا ينبض بالروح و الأمل ، سيساهم في تقدم وكالة من وكالات وطنك ، لكنك ترفض و ليس أنما رفض ، انما تطرد و تداس كرامتك ، لا تملك شيئا سوى .... سوى تفكير عميق مع النفس ، تسأل نفسك ، ان أنا مهندس أريد أن أساهم في تنمية وطني لا يرغبون بي ؟ فما علي سوى حمل شهادتي نحو أقرب بلد في الخارج ، خير لي أن أغترب في الغربة على أن أغترب في وطني.ا
ليست هته المرة الأولى أو الاخيرة التي ألقى فيها جحود أبناء جلدتي ، فمرات و مرات تعرضت للتناسي أو النسيان ، بينما أحتضن من طرف الأجانب. فرسالة صغيرة لأوروبي أو أميركي ، أتلقى فيها ردا مطولا مشروحا بدقة و تفصيل و ترحيب. بينما عندما أقدم خدمتي و مجانا لوطني يتم طردي بدون سابق انذار. سامحك الله يا وطني :)