تعتبر ظاهرة "العولمة" اليوم من المواضيع الرئيسية في الساحة الثقافية السياسية في الوطن العربي والتي تقام حولها الندوات المتعددة وجلسات الحوار المختلفة وذلك لأنها تطرح علينا أسئلة جوهرية وأساسية نستطيع تكثيفها فيما يلي:1. ما مفهوم العولمة ؟ وهل هي ظاهرة جديدة أم قديمة ؟ وما المستويات التي وصلت إليها اليوم على أرض الواقع سياسياً واقتصادياً وثقافياً ؟
2. هل العولمة حالة حتمية لا نملك حيالها كشعوب وكدول إلا أن نميل مع إيقاعها ؟ أم يمكن تجاهلها حفاظاً على استقلالنا الذاتي ؟
3. هل تقتضي مصلحتنا تجنب العولمة ؟ وهل تمتلك العولمة جوانب إيجابية بالنسبة لبلداننا الفقيرة والمتخلفة،أم أنها ظاهرة سلبية كلياً وبشكل مطلق غايتها اكتساح هذه البلدان وإفقارها المتزايد وتحديد هوياتها المتمايزة ؟
4. هل العولمة مرادفة للأمركة ؟ وهل تعني بالتالي السعي نحو تعميم النموذج الأمريكي في الحياة ؟ وهل ستقود آلياتها المجتمع الإنساني فعلاً في هذا الطريق أم ستقوده نحو الاعتراف بالتعددية الحضارية وتعميقها ؟
5. هل انتهت الخصوصيات الوطنية والقومية في ظل ظاهرة العولمة؟ وهل فقدت هذه المطالب مشروعيتها بالنسبة للبلدان التي لم تنجز بعد مهامها الوطنية والقومية ؟
6. هل فقد المشروع الاشتراكي بريقه وهل أصبحت الرأسمالية بفضل قدراتها التجديدية سقف التاريخ ونهايته ؟ وهل انتهى دور الدولة السياسي _ الاقتصادي وفقد القطاع العام أهميته وضرورته ؟ وهل يمكن إعادة إنتاج سياسات اقتصادية ذاتية التمحور وتحقق التنمية الاقتصادية ؟
7. هل من الممكن بالنسبة لبلداننا أن تواجه العولمة وتقاوم آثارها السلبية وما الشروط الضرورية لبلورة استراتيجية مجابهة على مستوى ما كان يسمى ببلدان العالم الثالث وعلى مستوى قومي وعلى مستوى أقطار وقوى سياسية ؟
8. ما الموقف المطلوب من ظاهرة العولمة ؟ وكيف يمكن صوغ رؤية مقاربة لها ولتعاملنا معها ؟
كل هذه الأسئلة مطروحة للنقاش على جميع الأوطان والأقطار والقوى السياسية في مختلف بقاع العالم وخاصة في الدول الفقيرة والمتخلفة كبلداننا العربية، ولذلك يكتسب الحوار حول العولمة أهميته وضرورته. ونحن هنا سنحاول مقاربة هذه الأسئلة لكن بالطبع هي مقاربة غير مكتملة وتسعى للتفاعل مع باقي الرؤى لأجل بلورة موقف ناضج واستراتيجيات فاعلة ومؤثرة وخطاب سياسي رزين وهادئ حيال هذه الظاهرة.
1) العولمة : مستوياتها وآلياتها :
إن الطموح نحو توحيد العالم ودمجه هو طموح قديم وقد ظهر في مختلف الأديان والفلسفات والإيديولوجيات على مر التاريخ، كما ظهر في الماضي أيضا طموح الاستعمار القديم ورأس ماليته الصاعدة نحو تحقيق هذا الهدف،لكن الفارق الذي يحدث اليوم هو توافر وامتلاك الوسائل والتقنيات القادرة على تحقيق هذا الدمج.
إذ إن العولمة اليوم تتجاوز كل ذلك، من حيث أهدافها المرسومة، وطموحها إلى مرحلة أعمق من الاندماج العالمي، أي التوجه نحو إخضاع جميع المجتمعات لنمط اقتصادي واحد وموحد عالمياً وقيم وأنماط تفكير واحدة. أما المستويات التي وصلت إليها اليوم فهي :
• سوق واحدة لرأس المال / بورصة عالمية واحدة/ على الرغم من تعدد مراكز نشاطها.
• التقنيات الإعلامية ووسائل الاتصال أي من قناة تلفزيونية واحدة وطنية إلى تعدد القنوات العابرة للحدود الوطنية.
• المعلوماتية وشبكة الإنترنت.
وعلى ما يبدو فان العنصر الرئيسي البارز اليوم في العولمة هو كثافة انتقال المعلومات وسرعتها أو كما يقال اليوم تحول العالم إلى قرية واحدة. وهذا بالطبع يجعلنا أمام مرحلة جديدة ونوعية مختلفة عما قبل التسعينات أي مرحلة الدولة القومية والحدود السياسية والجغرافية الواضحة للدولة.
إن العولمة اليوم ليست ماهية منجزة ونهائية وثابتة، ولكنها كغيرها من الظواهر سيرورة تاريخية من الممكن التدخل في سيرها،ولكنها تبدو اليوم الدينامية الرئيسة أو الآلية المحورية المحركة للعالم على الرغم من عدم ناجزيتها وتحققها وعلى الرغم أيضاً من وجود معارضات لها ومعوقات وآليات دافعة ومحركة أخرى.
وطالما أن العولمة ليست ظاهرة مكتملة، وطالما أنها في طور التشكل على الرغم من محوريتها، فإنها تحتوي في ثناياها على جوانب موضوعية¬ حتمية لا يمكن التنكر لها مثلما تحتوي على جوانب ذاتية أي فعل المجتمعات المختلفة وتأثيرها فيها. فالعولمة ظاهرة كلية، فيها ما هو موضوعي خارج عن نطاق القبول والرفض، وفيها ما يتبع لفعل الذات وتأثيرها، أي وعي و فعل الأفراد والجماعات.
أما الجانب الموضوعي فيتمثل بالثورة العلمية التكنولوجية التي فرضت نفسها على العالم وبقوة،لذلك يغدو الاعتراف بهذا الواقع الموضوعي الحتمي في ظاهرة العولمة شرطا ضروريا وأساسيا كبداية للفعل والتأثير فيها، وذلك بصرف النظر عن المستفيد من هذه الثورة وثمارها.
في قضية العولمة تنطرح إذاً من جديد ضرورة وعي وإدراك ديالكتيك العلاقة بين الذات والموضوع، والتي كثيراً ما نضع فيها الذات معارضة للموضوع.... أي لا بد من فهم طبيعة العلاقة التي تربط الذات، بوصفها الفاعلية البشرية الاجتماعية، بالموضوع بوصفه المعطى الواقعي _ التاريخي.هذه العلاقة لها مستويات متعددة تبدأ من الخضوع التام للحركة الموضوعية وتنتهي بالتأثير الفاعل والمؤثر والمغير في مسار هذه الحركة الموضوعية لصالح الذات. أي باختصار ثمة شرطان أساسيان لفهم ظاهرة العولمة والتأثير فيها،الشرط الأول : التسليم بما هو موضوعي فيها وليس التغاضي عنه،فحرية الذات تبرز عندما تعترف بما هو قانوني في الطبيعة والمجتمع وليس التنكر له ومحاربته، والشرط الثاني هو الذات الفاعلة والمؤثرة وصاحبة الرؤية والمشروع المتكامل.
2) الأمركة والهيمنة..... وبناء الموقف من العولمة :
من البديهي أن نقول أن هذه المرحلة من تاريخ البشرية لا يمكن فهمها إلا على أنها استمرار وتعميق للمرحلة الإمبريالية السابقة بما فيها من علاقات هيمنة، أي أن ما وصلت إليه البشرية اليوم هو نتيجة لصراعات سياسية واقتصادية دولية وشركات متنافسة وغيرها، أي أن ثمة إرادات ومصالح مختلفة قادت البشرية بالترافق مع الثورة العلمية التكنولوجية إلى ظاهرة العولمة.
إذاً العولمة تحمل من دون شك إمكانية تجسيد نظام هيمنة أكثر شمولاً وقسوة من كل ما عرفته البشرية في السابق،عن طريق تشجيع نظام الهيمنة الأمريكية والعلاقات الإمبريالية بشكل أوسع،لذلك فهي تحمل معها مخاطر التركيز الهائل للثروة المادية والعلمية والثقافية في أيدي فئة قليلة من سكان العالم الذين يتوافر لديهم القدرات والمواقع والآليات اللازمة للهيمنة.
كما أن هذه الظاهرة باعتمادها وارتكازها على حرية المبادلات المطلقة وغياب أية عوائق تحول دون التفاعل بين المركز الإمبريالي والأطراف ورفضها للاعتبارات السياسية والأخلاقية التي تحول دون حرية الأسواق والتجارة... فإنها تحمل معها مخاطر تعميم الفقر والبؤس والتهميش الجماعي للكتل البشرية الكبيرة في العالم وانعدام الاختيار لديها وانسداد آفاق المستقبل وانفجار أشكال متجددة من العنف والحروب الداخلية بالإضافة إلى تعميم الفساد والنهب غير المشروع لرأس المال الاقتصادي ضمن البلدان والمجتمعات الضعيفة وفكفكة الأسوار الوطنية والقومية لهذه المجتمعات.
كل ما سبق صحيح من مخاطر العولمة،لكن هذا لا يبرر الرؤية السائدة عربياً والتي تنظر للعولمة على أنها غول أو استراتيجية إمبريالية أمريكية وحسب، وأن العولمة إنما هي أمركة للعالم وحسب، وليس من هدف لها إلا الإيقاع بالدول الضعيفة ونهبها وإفقارها. إن هذا الرأي على الرغم من التقاطه لإحدى الآليات المركزية في العولمة فإنه مضلل على صعيد التعامل مع العولمة،لأنه يخفي البعد الموضوعي والحتمي للعولمة ويدفع بالتالي إلى إهمال ضرورة العمل على استيعاب وتمثل الجوانب التقنية الضرورية للبقاء.
من الضروري أن نتفهم أن الأمركة ليست نتيجة للعولمة،كما أن عملية التوسع الرأسمالي ليست من منتجات العولمة،ولكن بالمقابل فإن أمريكا هي أحد الأركان الرئيسة للعولمة وذلك عندما نرى أرجحية المساهمة الأمريكية في الإنتاج المادي والثقافي والعلمي الذي يملأ العالم وسيملؤه في المستقبل أكثر بفضل ثورة المعلومات المستمرة.
أما الرأي الذي لا يرى في العولمة إلا فرصة للتحرر والحرية وحسب، أي فرصة للتخلص من الاستبداد والتخلف وفرصة لرفع الإنتاج العالمي والفوائض المالية، فإنه رأي واهم أيضاً لأنه ينظر لهذه الفرصة وكأنها محققة في المستقبل وبشكل أكيد.
إن هذه الفرصة للتحرر والحرية موجودة ولكنها ليست عفوية أو تلقائية،أي إن هذه الفرصة لن تتحقق بمعزل عن دور الذات الواعي والفاعل والتي تتوجه نحو بلورة استراتيجية يمكنها تحويل هذه الفرصة إلى حقيقة واقعية.
إن الرأي الذي لا يرى في العولمة إلا استراتيجية أميركية للهيمنة على العالم يبني موقفه من العولمة على أساس الصد والرفض،والرأي الذي يرى في العولمة فرصة للتحرر وتثويرًا للإنتاج المادي يبني موقفه منها على أساس من الانخراط السلبي بدون رؤية متكاملة أو مشروع خاص.
نقول هنا :إن حمل العولمة لمشروع هيمنة عالمية لا يبرر رفضها ولا البقاء خارجها، فهذه ليست أول مرة يعرف فيها العالم عصر الهيمنة الدولية،فالثورة الصناعية حملت معها مشروع هيمنة،لكن هذا لم يمنع الدول المتخلفة من الاستفادة من إيجابياتها ومن وضع مشاريع وطنية تستفيد من هذه الثورة.
إن رفض العولمة والاعتقاد بأن هذا الرفض يقود إلى مقاومتها وصد هيمنتها على مجتمعنا إنما يقود في الواقع إلى التشجيع على الاستقالة السياسية من العالم وتعزيز وتعميق الهيمنة بالضرورة.
إن احتواء العولمة على مشروع هيمنة أمريكية لا يلغي فوائد الانخراط فيها والفرص الإيجابية التي تحملها،وبالتالي فإن البقاء بعيداً عن العولمة لا يعني أننا لا نخضع لقوانينها أو تأثيراتها، لكنه يعني تحمل عواقبها ونتائجها السلبية من دون الاستفادة من نتائجها الإيجابية.
أي أن المستقبل سيحمل معه إمكانية بقاء بعض المجتمعات خارج العولمة الفاعلة، أي بقائها على هامش عالم العولمة، لكن هذا لا يعني أن هذه المجتمعات لا تخضع لتأثير العولمة وعواقبها السلبية.
إن موقف الرفض للعولمة يطرح إمكانية قيادة "عالمثالثية" لعملية الخروج من نظام العولمة،أي إمكانية تشكيل قطب عالمثالثي مضاد ومناقض لعالم العولمة والانتقال نحو عالم خالٍ من آثار الهيمنة.
في الواقع اليوم لسنا حيال اختيار حر بين نظام هيمنة ونظام تحرري،ثم إنه لا توجد في الواقع إمكانيات لتجسيد وتكوين مثل هذا القطب المضاد والمناقض لعالم الهيمنة، فضلاً عن فشل هذه المشاريع السابقة، إن كان على صعيد تشكيل قطب عالمثالثي أو على صعيد تشكيل قطب اشتراكي من خارج الظاهرة الرأسمالية ومضاد لها،فالتناقضات لا تنمو إلا بالتدريج ومن داخل الظاهرة وليس بالتخارج معها، حيث النقيضان الاجتماعيان الجدليان لا بد أن يكونا في عالم واحد ويرتبطان ببعض القواسم المشتركة.
إن منطق الرفض إزاء ظاهرة العولمة وتوهم إقامة بديل سلبي ومحارب ومجانب ومضاد بشكل مطلق للعولمة هو منطق واهم،فالدخول في العولمة وتقنياتها وحقولها وميادينها هو أمر حتمي ومفروض على كل مجتمع يريد أن يبقى في دائرة المجتمعات التاريخية و لا يريد أن ينسحب من الفعالية الدولية المشتركة وينعزل ويعيش في عالمه الخاص،إذ من الضروري أن نتفهم آليات الهيمنة الجديدة وأن نسعى بكل الإمكانيات إلى تعديل وتغيير أثرها علينا وإبراز إمكانية مقاومة الهيمنة وشروطها من داخل العولمة ذاتها لتفكيك آليات الهيمنة والحد منها.
إن رفض العرب للعولمة اعتقادا منهم أن هذا الرفض سيبقي على حظوظ أكبر للاحتفاظ بمواقعهم في المجتمع الدولي هو اعتقاد واهم لأن العكس سيحدث أي الاستبعاد المتزايد من الدورة الاقتصادية الدولية ومن سيرورة التغيير العالمي والإفقار المتزايد والانهيارات الشاملة.
هل المخرج يعني الانخراط في العولمة والتسليم بها بدون مرتكزات ذاتية أو بدون بلورة استراتيجية إزاءها ؟
إن منطق الانخراط السلبي في العولمة يستند إلى طابع قدري أو تسليمي لا يرى أي دور ممكن للذات في تحسين الشروط وتغيير بعض السياسات والحصول على بعض المكاسب الإيجابية وتنحية بعض السلبيات،أما المنطق المستند إلى شكل من أشكال التمني والرغبة في أن تؤدي العولمة لإنقاذنا بفعل آلياتها وحسب من الاستبداد والتخلف والفقر،فانه يتجاهل أن هذا الدخول لا يقدم بصورة تلقائية فرصاً أكبر للتقدم.
إن الإشارة إلى خطر الانقطاع عن العولمة لا يعني أن للانخراط فيها بالضرورة نتائج إيجابية مضمونة، إذ لا بد من توافر دور للذات قادر على استثمار إيجابيات العولمة،وهذا يعني أن الانخراط في العولمة بدون بلورة استراتيجية ذاتية لا قيمة له وهو نفس منطق الرفض،وهنا يأتي المخرج الوحيد: أي الدخول الفاعل في العولمة من منطق الصراع من داخلها في سبيل تحسين وتعديل موازين القوى المتحكمة بها وتحسين فرص السيطرة على جزء من آلياتها والتحكم في نظمها وفعاليتها وبالتالي الحد من الهيمنة الأمريكية فيها وليس القفز فوقها أو التسليم لها.
إن التحكم بالقرار العالمي في ظل العولمة يرتبط بتطوير المهارات التقنية والإدارية والتكنولوجية سواء تعلق الأمر بشبكات الاقتصاد والمال أو بالشبكات السياسية أو بشبكة المعلومات والإعلام والاتصالات. وبالتالي فأن اكتساب التقنية الحديثة والمعلوماتية يشكل هدفاً رئيساً لكل قوة اقتصادية متفاعلة مع المنظومة العالمية، وغير ذلك يعني العيش على هامش المجتمع العالمي،أي إن الأخذ بتقنيات العولمة شرط رئيسي للدفاع عن البقاء وضمان القدرة الاقتصادية والثقافية وغير ذلك يعني الإهمال والتخلي عن جزء أساسي من آليات الاحتفاظ بالفاعلية التاريخية والمقدرة على الاستمرار،لكن الاستفادة من هذه التقنية غير ممكنة بدون وجود استراتيجية ذاتية مبلورة، وهنا تأتي المهمة العربية في توفير الشروط التي تسمح بتفتح الإمكانات للتأثير على الطابع التقني للعولمة وتحقيق منتجات تقنية وعلمية جديدة من جهة وبلورة استراتيجية ذاتية وخصوصية تسعى إلى وضع التقدم الموضوعي في خدمة أهداف التنمية المحلية وصولاً إلى تنمية محلية مستديمة وقابضة على مرتكزات العولمة.
3) القومية والاشتراكية في إطار العولمة :
إن الاستراتيجية العربية إزاء العولمة والتي تضع هدفها بالتنمية المحلية المستديمة والقابضة على مرتكزات العولمة في المجال التقني والعلمي،لا بد لها من توفير الشروط اللازمة لتحقيق هذا الهدف والتي تشكل "الديمقراطية السياسية" بكل مستلزماتها وأركانها الشرط اللازم لها في كل بلد عربي لكنه غير الكافي،وتأتي كفايته عبر دعم السوق العربية المشتركة وتطويرها وتجديد آلياتها.
وهنا يكتسب العمل القومي مشروعيته وضرورته إذ إن دخول أمة موحدة في إطار العولمة أو على أقل تقدير درجة ما من الاتساق بين أركانها وأجزائها له حظوظه الأكبر في تعديل الموازين والحد من الهيمنة في إطار العولمة.
إن العولمة كما قلنا هي الدينامية المحركة الرئيسة في العالم اليوم على الرغم من أنها لم تحقق بعد أهدافها كاملة،لكن سيرورتها تتجه نحو مرحلة جديدة للتنظيم الاجتماعي والإنساني ومختلفة عن مرحلة الدولة القومية،وهذا لا يعني إلغاء دور الدولة القومية، إذ أنها ما زالت قائمة ولا زالت تلعب دوراً رئيساً في الشؤون الدولية وفي رسم سيرورة العولمة أيضاً،والواضح أنها ستظل تلعب دوراً رئيساً إلى أمد بعيد، فالعوائق أمام الدمج والتوحيد الجغرافي والسياسي للمجتمعات الإنسانية ما زالت كبيرة ومتعددة، فضلاً عن أن الخصائص التاريخية لهذه المجتمعات ستظل حاضرة بقوة في رسم السياسات العالمية وتحديد مسارات العولمة النهائية.
أما بالنسبة للأهداف التي تضعها البشرية والمتمثلة بالمجتمع الاشتراكي كبديل للمجتمع الرأسمالي فإنها أهداف مشروعة، لكنها اليوم بحاجة لإعادة صياغة من داخل إطار العولمة وليس بالتخارج معها، وما يمكن تحديده بدقة اليوم هو مطالب العدالة الاجتماعية أما الاشتراكية كنظام عالمي بديل للنظام الرأسمالي فلا يمكن بلورته دون العمل تحت سقف العولمة ذاتها ودون أن تتحدد معالم هذه العولمة وحدودها ومرتكزاتها على مستوى العالم.
يرتبط بالمفهوم الاشتراكي إعادة النظر بدور الدولة والقطاع العام الحكومي خاصة في دول العالم الثالث التي تبنت الخيار الاشتراكي فيما مضى. إذ إن هيمنة الدولة على مجمل الفعاليات الاقتصادية في المجتمع قد قادت إلى أزمات اقتصادية متعددة و إلى فشل عملية التنمية والنهوض الاقتصادي، فضلاً عن الفساد والإفساد.لذلك تبرز اليوم ضرورة الحد من هذه الهيمنة وتحديد دورها بالتخطيط العام والإشرافي على البنية الاقتصادية، مثلما تبرز ضرورة إصلاح القطاع العام أو الحكومي وتحديد المجالات الاقتصادية التي عليه أن يستثمر فيها والمجالات التي عليه أن يبتعد عنها.
إن الدولة سوف تظل إلى أمد بعيد من مرتكزات عمليات النهوض الاقتصادي، فلا يجوز القفز إلى المراحل الأخيرة والأهداف النهائية التي تطمح إليها العولمة واعتبار أن العولمة بكامل مفاصلها وأركانها وأسسها قد تحققت،فدور الدولة والقطاع العام لا زال قائما حتى في ظل البلدان الرأسمالية الكبرى،خاصة في ميادين الاقتصاد الرئيسية و مجال الخدمات والضمانات الاجتماعية.
4) ثقافة العولمة والثقافات المحلية :
ثمة مفاهيم أخرى درجت على علاقة وثيقة بمسار العولمة، منها: سعي العولمة لتحويل الثقافة إلى سلعة وتصدير النموذج الأمريكي في الحياة وتهديد الهوية القومية والغزو الثقافي..... و ظهرت مفاهيم جديدة كحوار الحضارات وتفاعلها أو صراعها الخ...
بداية نقول إن أي تهديد يقوم للهويات الجماعية لا ينجم عن توسع دائرة التفاعل والتشارك والتثاقف بين الثقافات،إنما ينجم عن غياب استراتيجيات فاعلة للمجتمعات الأقل تطوراً وللثقافات التي تحملها من أجل الاستفادة من حالة التفاعل الثقافي التي بدأت ترسيها العولمة بشكل موضوعي.
وبالتالي فإن الطرح الذي لا يرى في العولمة إلا محاولة لتعميم النموذج الأمريكي في الحياة إنما يعكس مخاوف الجماعات الضعيفة من المستقبل أكثر مما يساعد في الكشف عن تغيير الشروط غير المتكافئة التي يحصل فيها هذا التفاعل.
ثانياً: لن يكون لثقافة المجتمعات الضعيفة أي دور أو مستقبل فعلي إلا إذا أدرك حاملوها طبيعة هذا النمط الجديد من السيطرة الثقافية وآلياته وقاموا ببلورة الإستراتيجيات المناسبة التي تسمح لثقافتهم القيام بدور فاعل على مستوى المشاركة الإبداعية العالمية، وليس مجرد الإبقاء على الهوية الثقافية الخاصة بدون أي فعالية أو تأثير عالمي
وثالثاً: إن الثقافات على مر التاريخ قد وجدت في حقل تفاعل وتأثير متبادل وقد تحددت بينها على الدوام علاقات هيمنة وخضوع على درجات متباينة ومتفاوتة بحسب عوامل متعددة منها القوة الاقتصادية والعسكرية ومنها ما يتعلق بميادين الإبداع والثقافة، وبالتالي قد تكون العلاقة استلابية تجاه الثقافة الأقوى والمسيطرة تؤدي إلى سحق ثقافة المجتمعات الضعيفة وقد تكون الهيمنة جزئية في أحد الحقول فقط كالمجال العلمي والتقني.
ورابعاً: إن السيطرة المادية ( أي الاقتصادية والعسكرية والسياسية ) هي العامل الحاسم في السيطرة الثقافية إي أن هذه الثقافة السائدة لا تسود بسبب تفوقها القيمي والأخلاقي والإنساني على غيرها من الثقافات إنما بسبب حملها من قبل المجموعات البشرية المتفوقة أو المسيطرة مادياً.
ثم تأتي العوامل الأخرى لتلعب دوراً إضافيا في السيطرة الثقافية ومنها قدرة هذه الثقافة أو تلك على التجدد والإبداع المتواصل.
وخامساً : من الممكن بلورة إستراتيجيات فعالة للحد من السيطرة الثقافية أو الالتفاف عليها بطريقة تسمح لثقافة البلدان الأضعف الاستمرار والمشاركة في الإبداعات الحضارية، كما هو الحال بالنسبة للثقافات الأوربية في مواجهة الثقافة الأمريكية، لكن في حال غياب هذه الاستراجيات الفعالة يصبح خطر الانسحاق والاستلاب و التماهي قائماً.
هذا يعني أن السيطرة الثقافية الأمريكية لن تكون كلية وثابتة،فدرجتها تتبع شكل المجتمعات المتعاملة معها من جهة وتتبع تغير موازين القوى المادية داخل إطار العولمة من جهة ثانية.
وهذا التغير عندما يكون لصالح المجتمعات الضعيفة سوف يتيح لها إعادة بناء ثقافتها وهويتها الخاصة على أسس ومرتكزات جديدة نمكنها من الفعل والتأثير والحد من الهيمنة.
وسادساً : لا يمكن إلا أن نرى أن ثمة خطاً واضحاً لنشوء ثقافة عالمية تتشكل من الموارد المشتركة للنخبة الدولية التي سوف تدمجها الشبكات والقطاعات المعولمة وتنشر منها القيم والسلوكيات وأنماط التفكير، بشكل رئيسي الموارد الثقافية الأمريكية وبشكل أقل موارد الثقافات الأوربية وبشكل أقل ثقافة نخب المال والسيطرة المادية في بقية مجتمعات العالم. وهذا يعني أن الصراعات الثقافية سوف تكون عامة في كل المجتمعات الإنسانية وليس فقط صراعاً مع ثقافة الدولة الأمريكية.
وسابعاً : إن أشكال الصراع بين الثقافات المحلية والثقافة الأقوى تتخذ أشكالاً متعددة فإما أن تأخذ شكل التماهي بالثقافة القوية والاستلاب تجاهها والتسليم بها من دون شخصية ولا برنامج ولا مشاركة إيجابية، وإما أن تأخذ شكل الانغلاق على الذات وإعادة إنتاج ثقافة ما ضوية ذات طابع هيمني رافض ومحتج على ثقافة العولمة وحسب. ويبقى التوجه الثالث وهو المخرج أي المشاركة الإيجابية في التفاعل الثقافي من خلال رؤية واضحة وبرامج وشخصية قابلة للتجدد ومترافقة مع تعزيز المواقع المادية في إطار العولمة.
إنها ذات الأسئلة في الجوهر التي طرحت في عصر النهضة العربية لدى تعرفنا بالكائن الجديد آنذاك أي " الغرب المتفوق " والتي كوّنا حولها إجابات ترتكز إلى عقد النقص وفقدان الثقة بالذات فاستبد بنا تارة هوس الدفاع عن الذات فبقينا كما نحن سعداء بجهلنا وتخلفنا،وتارة أخرى دوخنا الغرب بسحره وثقافته وعلمه حتى ذبنا به وفقدنا ملامحنا وهويتنا ولم ندرك عيوبنا ومشاكلنا.
إن الدفاع عن هويتنا لا يتحقق من خلال الحفاظ عليها كما هي، أي عن هوية الماضي، ولكن من خلال إعادة بنائها من أفق المستقبل وفي إطار العولمة والثورة العلمية التكنولوجية، أي بناء العالمية فيها،والانتقال من حالتي الرفض والاستلاب المعيقتين لنمو هذه الهوية وتطورها، والتوجه نحو المشاركة الإيجابية في العالمية والعمل مع القوى الأخرى على تفكيك السيطرة الثقافية الأحادية وإعادة بناء العالمية من أفق التعددية الثقافية الكونية وفي إطار الاحترام والتعاون والتفاعل المثري.
إنه صراع مزدوج،صراع ضد السيطرة والهيمنة الخارجية في إطار العولمة، وصراع ضد ضعف الذات وعجزها وقصورها وعيوبها،صراع مزدوج يتجاوز الاستسلام للآليات الرافضة والدفاعية التي تقودنا نحو صراع خاسر، مثلما يتجاوز ردود الفعل السلبية والتنكر للذات ولدورها.