تسمرت في مكاني مشدوها ليس من هول صدمة انقضاضها علي وامساكها بخناقي ولا غضبها الصارخ في وجهي ,بل شدني شيء آخر لم اعرف كنهه لا قبل ذلك ولا بعده, يبدو كمس كهربائي عالي التوتر مر في اوصالي جعلني اهمس لنفسي بصوت اخالها سمعته :"رباه , كم هي جميلة !", لا ادري كم مر من الوقت وهي تصرخ في وجهي تدفعني وتجرني , حتى صرت في يديها كقربة لبن يصر صاحبها على استخراج زبدة.
حدث هرج ومرج تدخل على اثره رجال "الأواكس" بقيادة عميد الكلية ", كأنهم كانوا فقط ينتظرون اية فرصة لينقضوا عل الجمع المتجمهر وتفريقه ,بعدها كنت و"زهرة" وبعض رفاقها على متن سيارة رجال الامن ,مبتعدين عن الكلية , كان هناك رجل بلباس مدني يرغد ويزبد في وجهنا :"سنقطع ألسنتكم الطويلة , ستتعلمون ألادب ,......" كان يصيح واللعاب يتطاير من فمه بشكل مقزز ,في ما كانت "زهرة" باسمة ضاحكة غير مكثرتة بالوضع المخيف بتاتا , عكسي تماما , كانت رجلاي تصطكان هلعا ,فانا المسالم لابعد الحدود , "داخل سوق راسي" لا اخرج منه ابدا إلى الاسواق الاخرى سواء كانت اسواقنا الوطنية او حتى الدولية , فلا قدرة لي ولا شجاعة على خوض عوالم السياسة والنضال , بل انا المؤمن المخلص لمقولة الاجداد " احضي راسك من العافية والواد والمخزن" .
كان رفاق "زهرة" ينظرون لي طوال الطريق شزرا , احدهم لم يملك صبرا حتى صاح في وجهي "ايها البوليسي المتخفي في زي طالب , ألا تخجل من نفسك ,نحن ندافع عنك وعن الاخرين و عن حقك في السكن الجامعي عن حقك في منحة محترمة , ......" استمر في صب غضبه لولا أن "زهرة" تدخلت موقفة اياه قائلة :" لا تلم المسكين , يبدو انه من الخائفين الخانعين المغررين بهم الكثر الذين يملؤون جنبات هذا الوطن المريض , دعه وشأنه", كان وقع كلماتها على نفسي اشد وطأة وألما من كلمات رفيقها .
بعد حوالي ربع ساعة كنا امام ضابط امن , كان فرحا للغاية مسرورا ,قال ساخرا :"
أخيرا و اخيرا ايتها المشاكسة وقعت بين يدي , اعد أنك ستدفعين ثمن القديم والجديد ,سنقطع لسانك للابد هاته المرة" .اقفل جملته بقهقات عالية متوحشة ثم استرسل هاته المرة متوجها لي بحديثه :" فؤاد , سنة رابعة علوم يبولوجية رقم البطاقة **** هل صحيح أنها منعتك من الالتحاق بمدرجك وتسببت بغيابك ,يكفي أن تشهد بذلك ...." سكت برهة ثم نظر إليها مكملا " وسنعمل على تربيتها , حتى تحرص على ابتلاع لسانها مرة اخرى "
كانت نظراتي موزعة بينه وبين "زهرة" التي بدت قسماتها اكثر تمردا وصمودا ,احسست بالخجل من نفسي , كيف لي ان اتسبب في سجن فتاة ذنبها الوحيد انها رفعت صوت عقيرتها من اجل غيرها .
لا اعلم من أين جائتني الشجاعة لاقول ردا ما كان يتوقعه احد : "لا يا سيدي الضابط , لا لم تمنعني فقط هو سوء تفاهم تطور لجدال ...", قاطعني مزمجرا :"أيها الابله هل تتذاكى علي , ألم تكن متجها إلى مدرجك وتم منعك من الالتحاق بحصتك واجبارك على المشاركة في وقفتها الفوضوية ؟", كنت بالكاد استطيع الوقوف رعبا , رغم ذلك اجبته "لا يا سيدي ,لم يمنعني ولم يعترض سبيلي احد ", انتهى هذا الاستنطاق بصقعيتن على خدي بعد أن تملكه اليأس مني , نادى على عسكري امن وامره ان يزجنا في زنزانة الى ان ينظر في امرنا مساء .
******
تم اطلاق سراحنا مساء بعد أن تدخلت بعض الاصوات الحقوقية منددة , مستغلة تواجد هيئة أممية في اشغال مؤتمر دولي منعقد انذاك بالمدينة ,عند خروجي كان العشرات من الطلبة متجمهرين هناك قبالة "مقاطعة الأمن " بلافتات استنكارية واحتجاجية على اعتقال زميلتهم , بمجرد ما رأوني حتى ارتفعت اصواتهم بلازمات غاضبة من قبيل " الحرم الجامعي غاضب من بوليسي طالب ", راعني ان اصبحت في مخيلتهم بوليسيا وانا الذي لم ادخل مركزا لللأمن في حياتي سوى مرة واحدة قصد تجديد بطاقة التعريف الوطنية , طأطأت رأسي خجلا من ذنب لم اقترفه اصلا , ثم اسرعت احث الخطى مبتعدا , توقفت فجأة شعارات التخوين الموجهة لي وحل مكانها هتاف حماسي بإسم "زهرة" التفت خلفي , تراءت لي هذه الثائرة الجميلة وهي تغادر مدخل المركز الامني بابتسامة عريضة واصابع يديها تصنع شارة النصر, ثم اخذت مكبر الصوت , بدأت سرد شعارات منظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب , ثم دعت الجماهير قائلة " حيوا معنا الطالب الذي أبى سوى أن يصطف مع الجماهير الصامدة , الذي ابىى إلا ان فوت على العميد وعلى سلطت الامن فرصة الزج بالمناضلين والمناضلات في سجون الخزي والعار ,حيوا معنا الطالب "فؤاد"..."
حين سمعت اسمي ورأيتها تشير للجمع نحوي , لا ادري هل تسمرت في مكاني من هول المفاجأة فرحا بنبسها لأسمى او خوفا من كلامها في حقي الذي قد يسبب لي مشاكل مع ادارة الجامعة ويسود ملفي النقي المسالم لدى السلطات الامنية ,لم تمر سوى لحظات حتى كانت الجماهير التي خونتني قبل قليل تحملني على اكتافها تحييني بشعارات النضال والصمود , سبحان مبدل الأحوال , كلمة واحد من ثغر الثائرة الفاتنة جعلتهم ينقلبون رأسا على عقب , كأن داء الزهايمر يعشش في ادمغتهم ينتظر فقط اشارة ما ليستفيق ويبدأ عمله .
انفض الجمع قبيل المغرب إلا صورة "زهرة" لم تبرح مكانها في خيالي , ظلت متربعة في مكان ما في داخلي ,مكان اكتشفته اول مرة ,مكان لم اكن اؤمن على الاطلاق بوجوده , كنت ارى القلب قطعة لحم حمراء ,مضخة دماء لا غير , في عرفي لا يوجد شيء اسمه عواطف ومشاعر, هي فقط ترهات وتفاهات تستوطن العقول الضعيفة الغبية , بدون شعور قلت لنفسي " من أنت يا "زهرة", هل ساحرة أم جنية, هل تقبلين بهذا الادمي إلى جانبك حتى ولو كسوار معصم في يدك ", لم يقطع حبل افكاري هاته سوى رنة رسالة هاتفية , خمنت انها غالبا ستكون رسالة من شركة الاتصلات تدعوني عبر عبارات بليدة مملة لتعئبة خطي, كنت عل وشك اهمالها كما هي عادتي , شيء ما جعلني اغير رايي , فتحتها , رسالة نصية من رقم غريب ,"السلام عليكم , اخي وصديقي المناضل "فؤاد", لا يسعني سوى شكرك على موقفك النبيل في مركز الامن , واعتذر عن تطاولي عليك وتهجمي , تحياتي , "زهرة".
"رباه , ما هذا , كيف يعقل , شيء لا يصدق ,كيف حصلت عل رقمي ,أمعقول ان الاحلام تتحقق بسرعة؟! ", كنت اصرخ فرحا واقفز في مكاني حتى خالني المارة من حولي مجنونا تنتابه موجة سعار ,اذكر جيدا ان تلك الليلة لم انم على الاطلاق , كنت انتظر صباح الغد بفارغ الصبر ,حتى التحق سريعا بالكلية ,اريد رؤيتها , اريد الحديث معها , جربت ان اتصل برقمها الذي بعثت لي منه رسالتها, لكن صوتا آخر اجابني مكانها "أن رصيدكم غير كاف لإجراء هاته المكالمة , المرجو....."