فالمرض الرحيم وضع النفس في وثاق يمسكها حينا ليحبسها على تأمل حقائق الحياة المغطاة و يكرهها
على أن ترى الدنيا أهون من أن تصغر لها النفس
و أحسن من أن يسقط بها القلب و أحقر من أن تتهالك عليها الأحياء
و بذلك يكون الإنسان دائما في حاجة إلى بعض الأمراض
سبحانك اللهم إنما هذه الأمراض أخلاق أنت تنشئ بها الرحمة في قلوبنا المتحجرة
و تصرفنا فيها إلى نفوسنا بعد أن نكون قد جهلنا هذه النفوس في أعمال الحياة
أو جهلتنا و تعلمنا جميل صنعك في تواتر حلمك علينا مع قبيح صنعنا
في ترادف عصياننا لك و تنقلنا بها في خطوة سريعة
من خطى الأزلية لنرى الدنيا من آخرها
فلا نجد نعيمها إلا معاني الهلاك و لا ملذاتها إلا اصبابا من الندم
و لاغناها إلا فنونا من الحسرة ثم لا ننظر في أجسامنا
إلا اشكالا قائمة من التراب
و لا نعرف من أعمارنا إلا أنفسنا كانت تصعد من فم القبر
وإذا أذنت بعد في شفائنا و مسحت بيد العافية علينا كانت الأمراض و سيلة من وسائل تجديد العمر
وخرج المريض و كانه مقبل على الدنيا من ناحية لم تكن فيها
فينسم من كل شيئ رائحة الحياة
و يرى على كل جمال أثرا كاثر الحب و لذته
وحنينه و يستقبل نفسه الراجعة إليه في موكب الحواس القوية
فلا يكون له إلا ما قد يكون مثله في الملك المخلوع أعادوه الى العرش
فجاءوا بالتاج و أقاموا له الزينة و حشدوا له الحفل و قالوا سمعنا و أطعنا
سبحانك إنما هذه الأمراض مواعظ منك تعلمنا كيف نضع شهوتنا في مواضيعها من الضرورة
و نحصرها في حدودها من الإزدراء و المقت فلا تعدو بطبائعنا علينا و لا تعدو بنا على سوانا
وإنه ما يخطئ أمرؤ في الحياة إلا من إقرار شهواته في غير أمكنتها حتى تأخذ من عقله و تنال من رأيه
و تجور على حواسه فيقلبها ذلك من أن تكون حركة في الحياة إلى أن تصير الحياة كلها حركة من حركاتها
وحينئذ لا تكون الشهوات إلا أكثر مما هي فتقتضي أكثر مما تستحق من الجهد و العمل الإنساني و لا تكون الحياة إلا أحقر مما هي
فلا تخرج إلا اقل ما يمكن أن تخرجه من القيمة الإنسانية
سبحانك اللهم إنما هذه الأمراض في الدنيا بعض مواد البحث الفلسفي العميق لدرس أساليب الطبيعة البشرية
فكم من عملية جراحية في طب الناس هي حقيقة عملية حسابية في وزن هذه الطبيعة و تقديرها
وكم من أنة وجع في المرض و هي نفسها كلمة عتاب بين الطبيعة و النفس
وكم من ضجعة للداء هي في الواقع نهضة للأخلاق من ضجعتها
سبحانك ولك الحمد إن ساعة النجاح و تحقيق الآمال و انتعاش الحظ و تبديل صورة من الحياة غيرها تكون أسمى و أكمل
وساعة الغنى و إقبال الدنيا و مسالمة الأيام و تزيين الحياة بحياة أجمل منها و ابدع و ساعة الحب
و فيضان الجمال على النفس و نسيان الحياة بالحياة التي هي أمتع منها و ألذ
كل هذه الساعات لا تعد إلا دقائق و ثواني من السعادة
إذا أتفقت بعد المرض ساعة الحياة ساعة رجوع الصحة
وكم نتمنا رجوع الصحة لمن ذاق طعم المرض
من تجرع كؤوس المرض عرف جمال وقيمة الصحة