غـــــزة.. و صـــراع المحـــاور
أحمد الشرقاوي

لم يكن من باب الصدفة إختيار مصر الوسيط الوحيد في إتفاق التهدئة التي وضعته أمريكا وإسرائيل بشروط تركيعية مزحفة، وسلم للعميل ‘السيسي’ لتسويقه باعتباره “مبادرة مصرية” صناعة مخابراتية. هذا الأمر لم يرق لتركيا وقطر اللتان كانتا تحضران لمسودة إتفاق تشمل رفع الحصار عن غزة وبناء ميناء دولي تشرف عليه الأمم المتحدة ودول صديقة ليكون بوابة القطاع على العالم.

“إسرائيل رفضت الوساطة التركية القطرية لتوجسها من الرابط الإديولوجي بين حزب ‘أردوغان’ و ‘حماس’، ودعم قطر المعروف للإخوان في كل مكان.. هذا بالرغم من العلاقات “الحميمة” التي تربط هذه الأطراف، ما اضطر ‘أوباما’ لوقف وساطة القطري والتركي، والإصرار على أن يكون الوسيط الوحيد المقبول لدى إسرائيل هو مصر دون سواها.. وهو ما يفسر سرعة قبول ‘النتن ياهو’ لمبادرة يبدو أنها كانت بدرج مكتبه، وأعدت على مقاس أوهامه من قبل الأمريكي، قبل أن تسلم نسخة منها إلى مصر.. هذا علما أن حماس لم تستلم من القاهرة مسودة المبادرة لدراستها، وطلب منها الموافقة على وقف إطلاق النار والعودة إلى تهدئة 2012 والدخول في مفاوضات دون شروط مسبقة، و “يا غازي كأنك ما غزيت”.

ويتزامن كل هذا، مع إصرار الرئيس ‘محمود عباس’ على طلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني في عزة، وهو ما يعني دخول قوات دولية لنزع سلاح المقاومة وحماية إسرائيل تحت مسمى “حماية الشعب الفلسطيني”.. هذه خيانة عظمى يرتكبها ‘محمود عباس’ في حق شعبه ووطنه وفي حق المقاومة الخيار الوحيد الناجع كما أكدت التجارب في حين فشلت كل مسارات التسوية، وفي حق مقدسات الأمة العربية والإسلامية، لأن هذا الرجل خسر كل شيىء بما في ذلك الحياء، ولم يعد لديه ما يقدمه للأمريكي والإسرائيلي بعد أن أعطاهم الأرض والأمن والكرامة غير الخيانة نهارا جهارا، فدخل على الخط بخطته الإحتياطية في حال رفضت المقاومة “المبادرة المصرية” التي تعتبر “مصيدة” حقيقية وموؤامرة مكشوفة لنزع سلاحها.. لأن المبادرة كما صيغت وقدمت كان ينتظر منها أن ترفض شكلا ومضمونا، وهذا هو المطلوب في هذه المرحلة.

لإن رفض المقاومة للمبادرة المصرية التي أقرتها الجامعة العربية، وقبول “إسرائيل” بها، يقلب قواعد اللعبة، ويظهر أن “إسرائيل” التي قبلت بالسلام، ها هي يعتدى علي شعبها من قبل منظمات إرهابية في غزة، الأمر الذي يعطيها شرعية “أخلاقية” من وجهة نظر “المجتمع الدولي” وعملائه في المنطقة، لإدارة “التوحش” في غزة وسفك المزيد من دماء المدنيين الأبرياء، وصولا إلى إجتثات المقاومة من غزة وتسليم إدارة القطاع لـ’محمود عباس’.

وبهذا الوهم، تكون مصر قد أمنت ما تعتبره “إرهابا” يهدد أمنها القومي إنطلاقا من غزة، وإسرائيل إرتاحت من صواريخ “المجارير” و “الصرف الصحي” التي تقلق راحة مواطنيها ليل نهار، كما تقول عنهم، أما “فلسطين القضية”.. فلتذهب للجحيم.

وإذا أضفنا لما سبق، ما كشف عنه الإعلام من فضيحة كبرى تتعلق بتحريض وزير خارجية الإمارات في إجتماع سري جرى بينه وبين الصهيوني ‘أفيغدور ليبرمان’ الشهر الماضي في باريس، حيث حثه على بحث خطط عسكرية تتضمن إجتياحا بريا لغزة، مقابل أن تتكفل الإمارات بتمويل الحملة.. نكون أمام صراع أحلاف إقليمي بإدارة دولية يدور اليوم في غزة ويهدد في حال إنتقاله إلى الضفة الغربية من خلال إنتفاضة ثالثة إلى تفجير المنطقة بأكملها.

ومرة أخرى، يتجلى الصراع في أوضح صوره بين محور المقاومة و محور المؤامرة، غير أن محور المؤامرة هذه المرة منقسم إلى فسطاطين بتعبير ‘ابن تيمية’، السعودية والإمارات ومصر والأردن، تحرض إسرائيل على سحق ‘حماس’، وتركيا وقطر اللتان يكنان للسعودية عداوة متقدة كالجمر تحت الرماد بسبب المنافسة على النفوذ “السني” وما لحق بحكم “الإخوان” في مصر وما يحضر لـ’حماس’ في غزة، وفي هذا تتقاطع مصالح إيران مع تركيا وقطر في غزة، ولو “مرحليا” بسبب تباعد الخيارات في الإستراتيجيا، باعتبار تركيا دولة أطلسية ولها طموحات سلطانية قديمة في المنطقة.

لأن ما تحاوله السعودية والإمارات ومصر هذه المرة من خلال إستعمال “إسرائيل”، هو القضاء على “الإخوان” في غزة وإعادة القطاع للعميل المطيع ‘محمود عباس’، وهذا تعتبره “إسرائيل” نصرا إستراتيجيا عظيما بحسب ما أعلنه أحد كبار المسؤولين الصهاينة في شعبة الإستخبارات العسكرية الأسبق ‘عاموس يدلين’.

لهذا السبب هدد ليبرمان نتنياهو بتفجير الحكومة إذا لم يقدم الأخير على حرب برية لإعادة إحتلال غزة.. وقيل حينها في وسائل إعلام الزيت أن مشكلة ‘غزة’ “مشكلة سياسية” بين رئيس الوزراء وليبرمان.. وطبعا ما كان لها لتكون “مشكلة سياسية” بالمعنى المسرحي الكوميدي الثقيل لولا أن ‘ليبرمان’ و ‘النتن ياهو’ قبضا عمولاتهما نقدا وعدا من عند تاجر ‘الكوكايين’ الشهير بطائراته الخاصة وفق تقارير إستخباراتية، وزير خارجية الإمارات المدعو ‘عبد الله بن زايد’.. وبالتالي، اللعبة السياسية كانت تقتضي إخراج مسرحية الخلاف السياسي وخطر إنفراط عقد الحكومة الصهيونية وخلافه من الترهات التي تقذف للإعلام ليسوقها باعتبارها العناوين الأهم في هذه المرحلة، وإشغال الناس عن الجرائم والفظاعات التي يرتكبها الجيش الصهيوني”الأخلاقي” ضد المدنيين الأبرياء في غزة الذين يقاومون العدوان بالإرادة القوية واللحم البشري الحي.

ومرة أخرى، تتحول فلسطين إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية بين الأحلاف، والمستفيد حتى الساعة من هذه المؤامرات الخبيثة من هنا وهناك هو الكيان الغاصب والمعتدي، الذي هب الغرب لنجدته عندما أدرك أنه دخل مغامرة أكبر من حجمه، وأن التوغل في حرب برية سينقلب ضده..

لكن غزة الجريحة، لم تجد من يقف معها في هذه الظروف المظلمة والقاسية غير الله ومحور المقاومة الذي يدعمها بالمال والسلاح والتكنولوجيا والتدريب، وهو الوحيد القادر على حمايتها مما يكاك ضدها من مؤامرات دنيئة.

لكن ماذا عن أهداف أمريكا و”إسرائيل” من هذه الحرب العدوانية الجديدة على غزة؟..

وفق ما أعلن ‘أوباما’ نفسه في أكثر من مناسبة، أنه لن يسمح لإيران باستنساخ نماذج للمقاومة على شاكلة حزب الله اللبناني في دول المنطقة، وأن هدف الإدارة الأمريكية اليوم، هو نزع سلاح المقاومة في غزة، ليسار بعد ذلك إلى نزع سلاح حزب الله قبل التسليم لإيران بحقها في التخصيب النووي السلمي.

هذا هو وجه الصراع الحقيقي وهذه هي استراتيجيته كما يستفاد من المعطيات المتوفرة ومتابعة تطورات المشهد في المنطقة.. وبالتالي، كل المؤشرات تؤكد أن المرحلة ستكون للتصعيد العسكري.. و وفق معادلات الميدان سيتصرف محور المقاومة.. لكن ما نحن على يقين منه، هو أن غزة لن تسقط، وأنها ستنتصر، وستفرض شروط شعبها للمرحلة المقبلة.

خاص بانوراما الشرق الاوسط