وثائقيات عن كرة القدم... وأبعد منها
لقطة من الوثائقي “بيكهام في الأمازون”
"معركة من أجل ريو"، "إلى المجهول" و"الضربة القاضية.. قصص عن كرة القدم، الأحلام والحياة" ثلاثة عناوين لأفلام وثائقية جديدة، تزامن عرضها التلفزيوني مع بطولة العالم لكرة القدم التى جرت في البرازيل. توقيت العرض تجاري بامتياز ومجاراة لحمى كرة القدم التي تجتاح العالم. غير ان الافلام الثلاثة لا تقف عند هذا الحد. فهي، والى حد بعيد، ليست متصلة مباشرة بالبطولة ولكنها في الوقت عينه شديدة الإلتصاق بعالم كرة القدم الواسع والمتشابك اقتصادياً واجتماعياً. هذا ما حاولت الأفلام الوثائقية الثلاثة معالجته على مستويات مختلفة وفي مقاربات متنوعة، انطلقت من طبيعة كرة القدم كلعبة شعبية يعشقها الناس ويحلم كثر من شباب العالم باحترافها. في فيلمه "الضربة القاضية.. قصص عن كرة القدم، الأحلام والحياة"، اقترح جينس هوفمان الجانب الإقتصادي سبباً رئيسياً لاستماتة الشباب في احتراف كرة القدم، مبيّناً كيف يدفع الفقر المستشري في دول أمريكا اللاتينية الموهوبين من لاعبيها إلى التفكير في احترافها كوسيلة لتخليص أنفسهم وعائلاتهم من البؤس الذي هُم فيه. الكرة هنا صارت وسيلة خلاص أكثر منها وسيلة إمتاع ابتكرتها البشرية وتورطت بحبها حدّ الجنون! حاول هوفمان بكياسة المخرج الواعي عرض مقدار تداخلها مع العوامل الإجتماعية والإقتصادية وحتى الثقافية في ما بعد، في القارة الأكثر ولعاً بها، من خلال مجموعة لاعبين صغار السن تابع تطورهم ولاحق خطوات صعودهم الى درجات عالية من الإحتراف الكروي، مُبيّناً دور الحاجة الإقتصادية في دفعهم نحو المضي قُدماً في ممارستها والخضوع الى شروط سوقها القاسية، الأمر الذي نقله المخرج بصرياً مزاوجاً بين العتمة والجمال البصري المرتبط بحلاوة المشاهد المنقولة من الملاعب. مما لا شك فيه انه ليس بإمكان فيلم واحد، ولا حتى عدة أفلام، تغطية كل الجوانب المتعلقة بعالم كرة القدم الشاسع، لهذا نراه يخضع باستمرار لبحث ودراسة علماء وأساتذة جامعات ومساهمات قيّمة من أدباء وكتّاب، بخاصة في أمريكا اللاتينية، الى جانب دخول السّينما الوثائقية على خط البحث البصري فنتذكر هنا مساهمة المخرج الصربي إمير كوستوريتسا "مارادونا" والذي يقترب من أسلوب معالجتها هذة المرة الإنكليزي أنتوني ماندلر في فيلمه "إلى المجهول".بيكهام في الأمازون رافق المخرج ماندلر اللاعب الإنكليزي الشهير دايفيد بيكهام في رحلته الى مجاهل الأمازون، ليتعرف عليه عن قرب ويقدم بعدها "بورتريه" عن شخصية طالما اعتبرت استثنائية على أكثر من صعيد: داخل الملعب كلاعب موهوب يتمتع بأخلاق عالية، وخارجها كأب محب لعائلته وأطفاله متجنباً الفضائح قدر الإمكان، ولاسيما أنه متزوج من مغنية مشهورة أيضاً. جاءه ماندلر وعرض عليه أن يشاركه رحلته بعد أن اعتزل بيكهام الكرة نهائياً، فكانت المهمة من هذة الناحية أسهل على كليهما. جاءه في الوقت الذي بدأ بيكهام فيه التفكير في التعرف على عوالم جديدة غير الملاعب والكرة. أراد في "تقاعده" النظر الى تجربته الحياتية وتقييمها بهدوء، ولهذا قَبِل فكرة صديقه الحميم بالسفر الى البرازيل ودخول غاباتها المطرية كإنسان عادي وليس كلاعب مشهور. واحدة من مفاجآت شريط بيكهام اكتشافنا له كمتحدث لبق هادىء، يصوغ أفكاره ببساطة ووضوح وقادر على التعبير عن مشاعره أمام الكاميرا من دون وجل، بما يميّز هذا الشريط حيث "البوح" أحد علاماته. في بيته اللندني سنتشارك معه حبه لأطفاله وزوجته وسنفهم صعوبة قراره بالرحيل بإرادته هذة المرة. فالدافع الآن هي رغبته في الخروج إلى فضاءات أوسع حتى لو كانت داخل غابة اقترن ذكرها بالغموض وبالمغامرين الأوائل وبالمكتشفين الأوروبيين الذين دخلوها وصوروا الحياة فيها من منظور "التفوق العرقي والحضاري"، ولهذا يمكن تلمس ميل صانعه الى قراءة حديثة في معنى التصادم الثقافي، بوسيلة جد ذكية: كرة القدم. فاللعبة بطابعها الكوزموبوليتي، تنفي الحدود لكن يبقى العنصر الفرداني قائماً وربما حاسماً، أحياناً، في النظر الى الثقافات الأخرى خارج الملاعب. بهذا المعنى كانت الرحلة التسجيلية بمثابة اختبار للنظرة الشخصية المحملة بموروث ثقافي أوروبي وتطبيقاتها على الأرض. تعمّد ماندلر كشف أدواته التقنية، فأدخل فريق عمله الى "كادراته" حتى لا يعطي تصوراً كاذباً لمشاهده بأنه يصور تجربة أو مغامرة خطيرة يخوضها بيكهام وأصدقاؤه الثلاثة في مجاهل الأمازون وحيدين يواجهون حيواناتها المفترسة وقساوة طبيعتها. أراد على العكس من ذلك إعطاء انطباع حقيقي بمشاركتهم له في رحلة مؤمنة بشكل جيد ومرتبة التفاصيل لكنها لاتخلو قطعاً من روح الإستكشاف و"المغامرة" الصغيرة في أرض وحياة تعد "قاسية" نسبياً بالمقارنة مع حياة لاعب أوروبي محترف وثري.في الطريق من ريو دي جانيرو الى الأمازون، كان بيكهام يتذكر تفاصيل حياته وتجاربه ويقارنها بالذي يراه الآن بأم عينيه. انشغل أثناء الرحلة الطويلة بالحديث عن أولاده وصداقاته، عن والديه وطفولته وحين أصبح في ضيافة قبائل يانومامي البرية، صار يحكي عن البشر وحلاوة التنوع الثقافي والفروقات بين "الحضارة" وبين البراءة الأولى التي أثرت فيه وأحبها. في "إلى المجهول" تلميحات الى المصاعب التي تثيرها الشركات الرأسمالية في تلك البقعة الغارقة في سكينتها لهذا حمل بيكهام رسالة شخصية بضرورة ترك الناس هناك في حالهم ليعيشوا بسلام متجنبين ويلات "العصرنة" التي يتذرع أصحابها بها في غزوهم لأراضي ترفض العيش في شروط غير الشروط التي تعودوا عليها ولا يجدون غضاضة في المضي بها. وهذا ما خرج به بيكهام من مغامرته: ثمة عالم آخر يعيش في تناسق مذهل مع وسطه، لا يعرف كرة القدم لكنه يعرف ألعاباً أخرى أكثر بساطة وأقل تعقيداً من تلك التي ظهرت في طيات فيلم "معركة من أجل ريو" وعنوانه يكفي للدلالة عليه."معركة ريو"من المشهد الأخير، حيث يظهر فيه رجال شرطة مكافحة المخدرات وهم يحاولون مسح الشعارات والتهديدات الصريحة التي كتبها أعضاء في عصابات محلية خطيرة ضدهم على جدران بعض الأحياء الفقيرة، يمكن تلخيص نتيجة عمل المخرج غونزالو أريخون "معركة من أجل ريو". فالمعركة بالنسبة اليه لم تحسم بعد بين الأطراف المتصارعة (الشرطة والعصابات) لسبب جد بسيط هو أن الوسيلة التي اتبعتها الدولة في محاربة تجار المخدرات وعصاباتها في العاصمة البرازيلية لم تعالج جوهر المشكلة. فالقوة التي اعتمدتها أسلوباً للحل من دون الإلتفات الى مناقشة الأسباب التي تساعد على ظهور العصابات وإقبال البرازيليين على تعاطي المخدرات لن تفيد المتضررين منها بشيء. وإذا لم تُقترن بقناعة عند سكان "حزام الفقر" المحيط بالعاصمة بأن الإجراءات الأمنية التي يقومون بها تصب في مصلحتهم وبأنها ليست مؤقتة ومرتبة مع بطولة كأس العالم لكرة القدم- حتى تظهر المدينة المستضيفة لها هادئة وليس فيها ما يعكر صفو عرسها الكروي- فإن الحال ستبقى على ما هي عليه. يلاحق أريخون بصبر لافت ولأكثر من أربع سنوات نتائج المعالجات التي ابتكرتها الدولة البرازيلية قبيل انطلاق البطولة، منها تكليف وحدة شرطة خاصة سميت "وحدة احتلال المناطق" بالسيطرة على الأحياء الخطيرة واحتلال مراكز نشاط العصابات الإجرامية فيها الى جانب تأمينها التلال المحيطة بالملعب الرئيسي لكرة القدم. وحتى تُغيّر من طبيعة التركيبة السكانية، كلّفت بلدية ريو دي جانيرو بترميم البيوت الفقيرة وتهجير أهلها (مؤقتاً أو لحين حصولهم على سكن بديل) الى مناطق بعيدة عن الملعب. لقد تسببت مشاريع الدولة بنشوب معركة شرسة بين شرطتها وبين سكانها الذين لا يثقون بها ولا بسياساتها في محاربة المخدرات، التي زاد انتشارها منذ السبيعينات، وبالتالي فتوقيت تحركها "العسكري" بالنسبة اليهم مريب ولا يخدم سوى الأغراض التي قاتل المستفيدون المباشرون من أجل إقامة البطولة في البرازيل على حساب فقراء البلاد ودافعي الضرائب. يذهب الوثائقي الى ربط "المونديال" وإقامته بالمشاريع السرية التي كانت تقام على هامشه ومن بينها مشروع بناء ضخم أريد به سيطرة أصحاب شركات البناء على المناطق الجميلة والرخيصة المحيطة بالملاعب الرياضية الجديدة ما خلق حالة تصادم بين نمط الحياة التقليدية لسكان هذة المناطق وبين توجهات الدولة المدعية تحسين أحوال بؤسائها. على خط ثانٍ، لاحق "معركة من أجل ريو" بنباهة الصراع الدائر بين الشرطة وعصابات المخدرات فيما ظلت عدسة الكاميرا موجهة طيلة الوقت نحو حياة مجموعة عائلات فقيرة طُلب منها مغادرة بيوتها في موعد لا يتجاوز بدء انطلاق كأس العالم. في المستويين اللذين اشتغل عليهما الوثائقي تظهر علامات توجه اجتماعي واقتصادي جديد، ترافق بروزه منذ التحسن العام في معدلات نمو للبلاد خلال العقدين الأخيرين من الزمن، وغايته تغيير طبيعة الموروث الثقافي البرازيلي الذي اعتمد البساطة طريقة عيش وبالتالي فالتصادم الحاصل يتجاوز المعركة المعلنة بين الشرطة ورجال المخدرات الى معركة تستهدف نقل البلاد الى خانة الدول الرأسمالية الغربية وتلعب شركات الإحتكار دوراً بارزاً فيها. تفضح تحريات الوثائقي في سجلات بناء ملاعب كرة القدم ذلك بشكل جلي، وتكشف أن الخطط وضعت لتأسيس شبكة علاقات احتكارية بدأت في قطاعات اقتصادية كثيرة ووصلت مع بطولة العالم لكرة القدم الى المناطق المحيطة بملاعبها. يتوصل الفيلم الى نتيجة مفادها ان هذه المناطق ستبقى على حالها كأحزمة بؤس اجتماعي، وفي حالة نقل سكانها الى مناطق جديدة لا تستوفي شروط العيش العصري، فإن المظاهر نفسها السابقة ستنتقل معهم مثل الدعارة وتعاطي المخدرات والجريمة المنظمة، وإن تركيز الناس على بطولة العالم الحالية سوف لن يُنسيهم بعد انتهائها حقيقة الحياة التي يعيشونها. فالكرة قد تكون للحظة "مخدراً" للناس تستفيد منها الحكومة ورجالها المنتفعين من امتيازاتها ولكن مفعولها لن يدوم طويلاً وما عودة الشعارات المهددة والمتوعدة للشرطة والحكومة على جدران بعض البيوت حديثة الترميم سوى تأكيد على هذه الحقيقة وتعزيز لاستنتاج الوثائقي بأن "معركة ريو" لم تنته بعد بل ربما ستتصاعد وتيرتها بمجرد مغادرة الفرق للملاعب الحديثة التي بُنيت لأصحاب الشركات وليس لأطفال المدينة الفقراء، كي يلعبوا فيها ويبتعدوا من خلالها عن المخدرات ومخاطرها.