رسائل صبابة وحنظلة
ماهر منصور
لا أرض لك سوى المخيّم، وما من دروب تحملك إلى الوطن البعيد سواه. في لحظة الجنون، تركض لتجمع ما تيسّر من زاد للهروب من نار القصف والموت العبثي، تستعير مشهداً عبر به أجدادك منذ أربعة وستين عاماً، فتتمهل... تقول لنفسك: بهدوء!
تعيد ما قذفته داخل الحقيبة على عجل. فعليك ألا تكرر أخطاء أجدادك لدى خروجهم ذاك في عام 1948!
تبتسم لتمرين تخترعه للتو. تمرين خاص بالفلسطينيين. تتساءل: لو أن جدي وقتها فكر بما عليه حمله في خروجه الأول من فلسطين، ما الذي عساه حمله غير مفتاح البيت؟ تسخر من نفسك قائلاً: يصلح السؤال لمسابقة!
تتفق، أنت وأنت، بأن لا يدخل الى الحقيبة أي شيء قد يبدد إحساسك بأنك ستعود يوماً. فأنت في إجازة قسرية من المخيم. لا خروج بلا عودة. تبتسم لكلمتي «خروج وعودة». المصطلحان يستخدمان غالباً في مكاتب وكالات السفر، أثناء حجز تذاكر الطيران. تسأل نفسك ساخراً: ماذا لو كان تشريد الناس كما في الرحلات السياحية الجماعية؟ لكنت وأهلك وجيرانك والأصحاب، حجزتم كلكم تذكرتي «خروج وعودة». تروقك الفكرة، تحاول أن تفلسفها، على طريقة مثقفي المخيم في تبرير أوجاعهم وربما خيباتهم، تقول هذه المرة بصوت عال، بشيء ربما من الحزم: هم يختارون ساعة خروجي مشرداً من المخيم، وأنا أختار ساعة عودتي إليه.
مجدداً تجد نفسك أمام فراغ الحقيبة، المتروكة على السرير أمامك، ومجدداً تسأل السؤال ذاته: أي شيء يريد أن يحمله لاجئ فلسطيني من مخيم لجوئه نحو ملجأ جديد في لجوء مؤقت؟
ثقيلاً يمر السؤال في فمك.
لوهلة تعتقد أنه ثقل حرف جيم «اللجوء» الذي يتكرر كثيراً في الجملة على لسانك، لكن مرارة الجملة تحيلك إلى البحث في طعمها لا إلى وزنها على لسانك. هي مرارة المعنى أن تكون لاجئاً في مخيم للاجئين، وتنزح عنه لا إليه.
تسأل نفسك مجدداً، هل يسقط نزوحنا من مخيم اليرموك بدلاً من اللجوء إليه، هل يسقط عنه صفة المخيم..؟! وسواء سقطت الصفة أو لم تسقط، ألا نصير نحن «دبل» لاجئين... ويصير أبي «تريبل» لاجئ؟
مجدداً تستشعر ثقل مثل تلك الأسئلة على روحك، كأن السخرية لا تخفف من دراما الواقع وما تختزنه من مرارة، كلما حدقت في تلك الأسئلة وحفرت في معانيها. تقول لنفسك: الوقت ليس وقت الأسئلة، فالقناص والقذيفة والهاون والطائرة، جميعها بانتظارك في الخارج، ولا وقت لديك سوى لتعدّ حقيبة لاجئ.
تقرر أن تكون منهجياً في ملء الحقيبة إن كنت ستنام في العراء، أكثر من الملابس الثقيلة على جسدك لا في الحقيبة، لتدع فراغ الحقيبة إذاً لشيء أهم، ربما عليك أن تأخذ شيئاً يذكّرك بلقبك كلاجئ: بطاقة الهوية المؤقتة، مفتاح بيتك في فلسطين، صورة مسجد قبة الصخرة التي تتصدر جدار بيتك... وصورة والدك وهو شاب في العشرين، يبتسم بثقل لمصور فلسطيني في أحد شوارع صفد.
تلملم تلك الأغراض، تحمل صورة قبة الصخرة، تتساءل: لماذا لم يخطر ببالك يوماً أن تصور صوراً شبيهة من حيث قيمتها، لمعالم مهمة في مخيم اليرموك، مخيمك الذي لم تعرف سواه وطناً بانتظار العودة إلى فلسطين؟ لا جواب لمثل هذا السؤال، فالإجابة تحتاج إلى وقت، والموت في الخارج يتربّص، فأسرع، تقول لنفسك.
تمد يدك لتنزع صورة أبيك عن الجدار، ثمة مستطيل أصفر على الجدار مكانها، وأنت تأخذ الصورة، ينتابك أحساس كما لو أن المستطيل الأصفر يناديك لتأخذه معك، يقول لك «وأنا»؟ تضحك، تهمس لنفسك: كم أنا غارق بغسان كنفاني، حتى إني حسبت مستطيلي الأصفر، هو مستطيل الصورة الأصفر ذاته الذي تحدث عنه في رواية «عائد إلى حيفا». ترى، هل تختزن صورة أبي مرارة اللجوء الأول ذاته كما قرأتها في رواية غسان؟ لعل أبي خبأ المرارة هذه في ثنايا ملامحه في الصورة، وربما هو أخفاها عنا في اصفرار المستطيل تحتها.
تبتسم هذه المرة لصورة أبيك، كان يقول لنا إنكم جيل لم تتذوقوا مرارة اللجوء؟ ها نحن نتذوقها مجدداً معك يأ أبي، حتى مستطيل صورتك الأصفر يريد أن يعيش اللجوء مجدداً معك ومعنا... فيرجوني أن آخذه معك.
تلملم تلك الأشياء على عجل، تكتشف أنك تلملم الأغراض ذاتها التي ستحملها لو أنك عائد إلى فلسطين، ولكنك خارج من لحظة موت عبثي، وستعود بعدها إلى المخيم، فلا تصح العودة إلى فلسطين إلا من المخيم. ألم نتعاهد جميعاً على ذلك: أن لا خروج من المخيم إلا إلى فلسطين.
تقرر إعادة كل تلك الأشياء إلى مكانها، وتعود لتتواجه مع فراغ الحقيبة القاسي... وأخيراً، تصيح: وجدتها.
تقرر أن لا تحمل في حقيبتك سوى مرارة تلك الأسئلة السابقة الكثيرة التي سألتها وحيرة البحث عن أجوبتها... وتقول لنفسك، بما يشبه اليقين، وحدها مرارة تلك الأسئلة كفيلة بأن تجعلني أعود.