لمحبي, السياب, بدر, شاكر<b>
لمحبي بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب
تمثال الشاعر بدر شاكر السياب في مدينة البصرة
وأنا شخصياً لدي صورة في هذا المكان أمام هذا التمثال
بدر شاكر السياب (24 ديسمبر 1926-1964م) شاعر عراقي ولد بقرية جيكور جنوب شرق البصرة.
ويؤكدالباحث جمال الدين فالح الكيلاني وهوباحث متخصص بالانساب ان ال السياب في البصرة من قبيلة ربيعة العدنانية وان جدهم سياب من امراء ربيعة وهذاماكدته الروايات والمصادر التاريخية المتعلقة بالموضوع وهذه الاسرة انجبت العديدمن رجال العلم والادب والسياسة في تاريخ العراق الحديث
درس الابتدائية في مدرسة باب سليمان في أبي الخصيب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودية وتخرج منها في 1 أكتوبر 1938م. ثم أكمل الثانوية في البصرة ما بين عامي 1938 و 1943م.
ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها دار المعلمين العالية من عام 1943 إلى 1948م، والتحق بفرع اللغة العربية، ثم الإنجليزية. ومن خلال تلك الدراسة أتيحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجليزي بكل تفرعاته.
سيرته الأدبية
اتسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية ومنذ 1947 انساق وراء السياسة وبدا ذلك واضحا في ديوانه أعاصير الذي حافظ فيه السياب على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بقضايا الإنسانية وقد تواصل هذا النفس مع مزجه بثقافته الإنجليزية متأثرا بإليوت في أزهار وأساطير وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر
وقد ذهبت فئة من النقاد إلى أن قصيدته "هل كان حبا" هي أول نص في الشكل الجديد للشعر العربي ومازال الجدل قائما حتى الآن في خصوص الريادة بينه وبين نازك الملائكة، و من ثم بينهما وبين شاذل طاقه و البياتي.
وفي أول الخمسينات كرس السياب كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة فكانت "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي.
مع بداية الستينات نشر السياب ديوانه "أنشودة المطر" الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملائمة لشعراء الأجيال الصاعدة وأخذ السيات موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، جيكور قريته التي خلدها.
وتخللت سنوات الشهرة صراعات السياب مع المرض ولكن لم تنقص مردوديته الشعرية وبدأت ملامح جديدة تظهر في شعره وتغيرت رموزه من تموز والمطر في "أنشودة المطر" إلى السراب والمراثي في مجموعته "المعبد الغريق" ولاحقا توغل السياب في ذكرياته الخاصة وصار شعره ملتصقا بسيرته الذاتية في "منزل الأقنان" و"شناشيل ابنة الجلبي" .
سافر السياب في هذه الفترة الأخيرة من حياته كثيرا للتداوي وكذلك لحضور بعض المؤتمرات الأدبية وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لاحساسه الدفين باقتراب النهاية.
توفي عام 1964م بالمستشفى الأميري في الكويت، عن 38 عام ونقل جثمانه إلى البصرة و دفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.
سيدة البحر العميق
كان يعشق البصرة بكل فلكورياتها وجمالياتها ..
كان يستعين بسوقها كي يلتقي بالناس من كل الاجناس .. كانت البصرة بالنسبة اليه ، سيدة للبحر ، وعمق النهر ومفتاح البر ، ومفصل الأمم ، وسوق الدنيا ..
كان يرى في البصرة ، امّا حقيقية لقريته التي لا يمكن لها ان تعيش يوما واحدا من دون البصرة ..
البصرة عنده ، ضرورة حياة لا بجمالياتها حسب ، بل لأنها مستودع العيش ، ومحطة للانتقال ، وضفة النهر بكل مياهه المتدفقة .. ورأس البحر العميق ..
كانت البصرة بالنسبة اليه هي المجتمع المتلون من كل الأجناس ، وهي الديوان الفخم الذي يستقبل اهله ، وكل الزائرين بكرم غير معهود ..
كان يعدها صاحبة السيف والقلم ، ومنها انبثقت تصاريف لغة الضاد العريقة ، وشكّلت مدرستها النحوية ، ركنا أساسيا في حياة الحضارة العربية وحيويتها على امتداد الزمن ..
جيكور : صورة جديدة
كانت بلدة ابو الخصيب تهجع مع لواحقها وقراها .. ولم يكن احدا يتذكر جيكور حيث يقفز ذلك " الصبي " من مكان لآخر .. قريته التي عشقها والتي لا يتجاوز عدد سكانها عن الالف ومائتي نسمة ، والطريق الى جيكور قريب ، ولكنه ملئ بالملتويات .. واذا كانت جيكور عند رأس مثلث متساوي الاضلاع ، فان قريتي بكيع وكوت بازل تقعان عند قاعدة جغرافية ،
وطالما تنّقل الصبي في ذلك المحيط لوحده من اجل اكتشاف صورة جديدة لم يألفها وجدانه ليرسمها خاطره .. وهو في مسارب ترابية بين الاشجار ، ولا يلمح من قريب او بعيد الا بيوت طين وسعف نخيل ..
ولم يكن يحب الماء راكدا ، ابدا ، بل يعشقه يجري من هنا او هناك .. يركض ومجراه وهو يرقب شيئا ما ، ويصغي بكل جوارحه لخريره !
عشق جيكور بكل احاسيسه ومشاعره ، ويقال انه بقي يتردد اليها طوال سنوات عمره القصير على عكس زميله الشاعر سعدي يوسف الذي انجبته ابي الخصيب قرب البصرة ، ولكنه لم تشغل ذاكرته وتعيش معه ابدا ..
وجيكور تلك القرية الصغيرة المأخوذة من عبارة فارسية هي ( جوي كور ) ( اي : الجدول الاعمى ) والمقصود به : نهير بويب الذي تغنى به السياب كثيرا .. وهي يتهادى ماؤه في اراض تعود ملكيتها لآل السياب وهو يتفرع من نهر كبير ..
آل السياب يملكون بساتين نخيل ، لكنهم ليسوا من كبار الملاكين في جنوب العراق .
بيت العميان
بقي الشاعر وهو في طور التكوين الأول ،
يعيش هواجس الزمن ، وذاكرة المكان ، فاذا كان الزمن قد اتعبه كثيرا بكل تناقضات الحياة الصعبة ،
فان المكان ، ليس جيكور فحسب ، بل منطقة ( بكيع ) كلها ( : بكيع : كلمة فارسية تعني بيت العميان ) والتي تبعد عن ابي الخصيب بما يقارب الكيلوين من الامتار ، مثار الأسئلة الصعبة ، ومنها :
لماذا أسموها ببيت العميان ؟ وما حقيقة ذلك ؟ هل ثمة أسطورة عتيقة تختفي في ذاك البيت ؟ ..
أما جيكور ، المطلة على شط العرب ، فهي عنده بمثابة أمرأة ساحرة الجمال ، وهي مترعة بالحيوية والتوثّب، وأمامها جزيرة بارعة الجمال اسمها ( الطويلة ) تلك التي كان السياب يقضي فيها الساعات الطوال متأملا شاردا في كل الاتجاهات .. وهو يلتفت ، وقد جلس قبالة الغرب ذات اليمين فيرى المسافات البرية والنهرية الطويلة نحو بغداد ، أو ذات الشمال ، فيرى المسافات البحرية الخليجية نحو العالم
زورق يندفع ..
حدثتني اوراق قديمة ، أن صبيا ، كان يصنع له زورقا من ورق ، ليدفعه في مجرى نهر يتراءى للناظر انه راكد المياه ، ولكن الصبي يجد ، أن زورقه قد اندفع من خلال تيار يجري في العمق .. كان نهيرا اشبه بجدول ماء يسمونه بنهر ابو فلوس من شط العرب .. كان الصبي النحيل بثوبه المقّلم يزيغ بصره بعيدا حتى يختفي زورقه بين كتل اشجار النخيل الباسقة .. كان الصبي يدرك ، أن زورقه لا يختفي الا عند ساعة الغسق .. كان الصبي يعشق رؤية الشفق .. كان يتأمل في منظر النخيل وهو يحجب عنه قرص الشمس البرتغالي من مكان لآخر .. ولكنه يتنبأ بالظلام الذي سيجثو على كل المقبرة (= العراق ) .
ثورة العصافير عند كل مساء
كان يرسم في ذهنه صورا خيالية تفيض روعة وجمالا عن واقع حقيقي يراه كل يوم ، بل ويذهب خصيصا لاكتشافه ، وهو يلهو بزوارق من ورق .. كان يعود ليحكي كل مساء " لوحة " غاية في الجمال .. كان يهوى الصمت في برّ بساتين النخيل ، ولا يعجبه الا اصوات الطيور عند المغيب .. ثم ثورة العصافير الجياشة ، كل يوم ، وهي تبحث لها عن المأوى فوق الاشجار .. كانت موسيقاه لا تبدأ الا عند مغيب الشمس .. كان شط العرب في الافق البعيد تتلاطم امواجه الصاخبة عند الجنوب الشرقي من البصرة ..
غابة من نسوة فارعات بشعرهن المتدلي
كان يصف اي شجرة نخل ، بامرأة فارعة ، وقد فرشت شعرها على كتفيها .. يتخيلها واقفة لا تجلس ابدا ، وهي حزينة منذ آلاف السنين .. وكلما انحنت ذات يمين او ذات شمال ، فقد قض الحزن مضجعها .. يكتشفها دائمة البكاء ، وهي تكره الغربان السوداء التي لا تجد امكنتها على رؤوسها أبدا .. فتنكث شعرها ، وتبقى مضطربة لا تعرف ماذا تقول ، ولا تعرف ماذا تقول ..
كان يكتشف ان الغربان تكثر يوما بعد آخر وهي تنعق لتمزق الصور الجميلة الهادئة التي كان الصبي يرسمها لوحده في تلك البراري التي كان لوحده يتصورها بعيدة ، ولكنها قريبة جدا من بيته ! كان لا يستأنس من ناس قريته ، أو ناس قرى اخرى ، فيبقى منعزلا عن الاخرين وان وجدوه مع بقية رعيل الصغار ، فانه يبقى لوحده يلفه صمت قاتل بين اشجار النخيل السامقة ..
غربان ونوارس وعصافير
كان ينتظر لوحده وبيده خيزرانة من القصب ، يرسم بها على الارض ، خطوطا بانتظار لحظات الشفق وصورته التي يعشقها عشقا لا متناهيا .. انه يعشق وقت الغسق حتى اوان الغروب .. كان يكره اصوات الغربان ، وهي تشق الصمت بنعيبها ، ولكنها تتبدد بأصوات آلاف العصافير التي تريد ان تأوي الى اعشاشها وقت الغروب ، وهي تجيش بأصواتها حتى تهدأ عند خيوط الليل الاولى ..
كان يكره نعيب الغربان في اوقات الشتاء ، ويشمئز من زعيق النوارس اوقات الصيف ، ولكنه يستأنس للعصافير عند الامسيات ، وأغنيات البلابل عندما يشق الفجر نفسه من اقاصي الشرق بكل سحره وجماله .. فالفجر ، أو عندما يطلع الصبح عنده ، هو غير لحظات الغسق .
كان يستوقف الصبيان معه ، وهم يلعبون كي يعلمهم بتغيير الالوان عند المغيب ولا يجد له من مستجيب !
البلح الاخضر اقوى من قصر الامير
نعود إليه .. إلى أهله الذين عاشوا حياة محترمة في اعراف الحياة العراقية المحلية وقت ذاك ،
وكان العائلة كبيرة وكثيرة الابناء ولكن تقّلص عددهم مع توالي السنين ، وتداول الأيام ، وخصوصا ، اثر انتشار وباء الطاعون في العراق عام 1831. وكان الجد الأكبر سّياب بن محمد بن بدران المير ( المير هو الامير مختصرا بالتركية )
قد فقد جميع افراد عائلته ، وابتلي بالحزن الذي دخل حتى عظامه ، وان اسمه من " سيب وحيدا " .. وهناك من يقول ، إن معنى السيّاب نوع من البلح او البسر الاخضر.
الاشباح في منزل الاقنان
ان الأب شاكر بن عبد الجبار السّياب ، قد تزوج بابنة عمه ، فرزق منها بكل من بدر وعبد الله ومصطفى ، وكان فخورا بهم متمنيا ان يكبروا ليساعدوه في حياته ، ولكنهم ذهبوا في مسارب اخرى لحياة العراق الجديدة التي تبلورت لما بين الحربين العظميين ، ولم يساعده احدهم ..
وقد استلهم بدر صورا رائعة من طفولته وبدايات تكوينه ليضمنها " منزل الاقنان " متخيلا ذلك البيت الكبير الذي يزدحم بالعبيد ، وهو يعود للأمير الكبير منذ العهد التركي ولم يسمع عنه الا قصص الاشباح التي رسمها في شعره ، وكأنها لوحة تشكيلية خارقة ابدعها بريشة فنان !
ملامح المومس العمياء
او يجد في قريته ( جيكور ) او منطقتها ( بكيع ) ملامح مومس عمياء .. ! أو وهو يمشي في ازقة البصرة وابي الخصيب التي تخيلها ابنة الجلبي ،
وهي تتميز بشناشيلها الرائعة ومزججاتها الملونة التي تعكس شمس المغيب ، فتتراءى ألوانها العجيبة .. أو مترجما ما كان يسمعه من اغنيات محلية فولكلورية الى مقاطع شعرية !
ومنذ بواكيره يريد ان يعّرف العالم كله بكل جيكور ، فكان ان نشر صحيفة باسمها تدور على اصدقائه ، وكأنه يترجم رحلة رأي وخبر من الذي كان يسمعه في عقد الثلاثينيات الذي ازدحم بالصحافة والصحافيين .. وعند نهاية النهار ترجع اليه جريدته ( جيكور ) ليعلقها على احد الجدران .
روايات الاعاجيب
كان يهوى الاقاصيص التي يستسلم لسماعها من عجائز بيته ، والتي يختلط فيها المبهم بالصحيح ، ومعظمها حكايات غرست في ذاكرته ، وبقيت تعيش معه كل حياته .
ولقد شكّلت تلك " الاقاصيص " لديه عالما زاخرا بالاعاجيب ، وانها فتحت لديه المجال لقراءة أساطير وملاحم ، جعلت منه صاحب خيال خصب لا يمكن الاحاطة بكل ابعاده أو مسافاته ..
ونكاد نلمس من معظم اشعاره تأثير اغلب الحكايات والخرافات والاساطير التي كان يعالجها تفكيره من خلال تدفق ذكرياته ومؤثراته سواء عن البحر ، أو النهر ، أو الوحش ، أو السندباد ، أو عروس البحر ، أو أشباح الليل ، أو حدائق غنّاء .. الخ
الابتدائية.. الاولوية
لقد كانت ابتدائيته في مدرسة باب سليمان بأبي الخصيب ، ومنها الى المحمودية التي أسسها محمود جلبي العبد الواحد أحد اعيان ابي الخصيب سنة 1910 ابان العهد العثماني ( منح لقب الباشوية بعد ذلك ، وكانت له اسهامات وطنية وخدمية للعراق )،
وتخرج السيّاب في اروقتها بتاريخ 1 اكتوبر 1938. ومن سجلاتها ،
نسخ محمود العبطة المعلومات التالية ( عن سجل رقم 6 ، صفحة 757) : إن السيّاب دخل المدرسة في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1936 مقبولا في الصف الخامس ، ومنقولا إليها من مدرسة باب سليمان وانه أكمل ابتدائيته فيها وكان قد رسب في الصف السادس عام 1937 . ومن صفاته ابيض اللون ، واسود العينين . صحته جيدة وسيرته جيدة .
يبكي وحيدا عند قبر امهمؤلــفـات الســيــــاب
السياب خالدا على مد العصور .
لقد عاش بدر طفولة غير متجانسة برغم سعادته فيها ، إلا أنها لم تخل من المنغصات ،
فقد توفيت امه وعمره لا يتجاوز السبع سنوات .. لقد رحلت عام 1932 اثناء المخاض ، وهي في الثالثة والعشرين من العمر لتترك ابنائها الثلاثة وهم صغارا ..
وتلك اول صدمة حطمت قلب بدر حينما اخذ وهو بعد يافعا يركض في كل الاتجاهات ولم يجد امه ، وكان يفقه ما تأويلات والده وعمته ليذهب وحيدا الى قبر امه كي يمتلأ حزنا وكمدا .. يبكي لوحده وهو يناجيها ، ولكنها لم تعد اليه ابدا .. انه يدرك انها ترقد في قبرها عند السفح الذي يراه من قلب القرية .. انه ادرك غيبتها .. فراح يختزن طيفها في ذاكرته الغضة حتى وهو يلعب في البساتين .. او قرب نهر بويب .
لقد شكّل غياب أمه في تكوينه شيئا مهما جدا ، إذ بقي طوال حياته يبحث عن حنان مفقود لدى امرأة يعشقها كالطفل .
الحرمان منتج الصدمات
كان يلجأ الى جدته لأبيه ( امينة ) دوما كي تكون مستودع همومه وآلامه ، وابتعد بدر عن ابيه اثر زواج الاب بأمرأة أخرى ، ورحل وإياها إلى دار أخرى بعيدا عن اولاده ، ولكنها دار في بقيع ،
وبقي السياب وكل من أخويه في دار الجد بجيكور .. لقد نما شعور سايكلوجي مرير لدى السياب بالحرمان من الامومة والابوة معا منذ طفولته ، وليعشق قربه من جدته ويحتمي بها من قسوة الحياة ، ومن الشعور بالحرمان .. ولم تتوقف الصدمات ، بل تفاقمت ازمات العائلة بوقوعها تحت طائلة الديون ، فبيعت الأرض
، وتبددت الأملاك القديمة لعائلة المير ، ولم يبق منها الا فتات الاشياء مذكرا اياهم بعز الاسلاف !
المزججات الملونة وشناشيل بنت الجلبي
كان يقف ، وهو في طريقه الى مدرستة المحمودية ليستمتع بمناظر البيت الفخم الذي كانت تزينه الشرفات الخشبية التي تعلوها المزججات الملونة ، وقد انعكست عليها اضواء الشمس ، فتكّون الشناشيل اروع صورة في مخيلة ذلك الصبي الذي لا يقف عن التأمل في المعاني والاشياء ..
لقد ولدت شناشيل ابنة الجلبي منذ زمن الطفولة .. كان يلمح ابنة الجلبي في تلك الشناشيل او يتخيلها جالسة هناك في الاعالي وهي تقاسم الشمس الاضواء ، وخصوصا بعد زخات مطر مفاجئة .. لم يكن أحد يعرف من تكون ابنة الجلبي ، ولكنني تأكدت بعد بحث عميق من هي تلك " الابنة " التي كانت تقف عند تلك الشناشيل الجميلة التي تميزت بها واجهات بيت آل العبد الواحد .
رحيل جدته أمينة
نعم ، بدأ منذ مرحلة مبكرة ينظم الشعر بالعراقية الدارجة ، وهو يصف الطبيعة بأبهى صورها ، او يسخر من بعض زملائه مثيرا الانتباه .. وقع شعره عند مسامع معلميه ، فانتبهوا إليه .. اخذوا يشجعونه على كتابة الشعر بالفصحى .. كان يغيب ، ثم يعود .. مرحلة مراهقة صعبة من حياته ، يهاجر فيها بخياله إلى أماكن يتخيلها وهو يتأمل اسرار المكان الجميل .. كان قوي الارادة بحيث يختزن احزانه ولواعجه في الأعماق ، ولكنه يبدو هاشا باشا ومسرورا بحياته المفعمة بكل جديد ، فهو يعد نفسه ابن عراق جديد أسسه فيصل الأول ..
ويبدو انه اكتوى بنار الحب عندما عشق راعية اسمها هاله ، وأحبها ليس إلا تعويضا للحب الذي افتقده .. ولكنه اكتوى بحزن جديد من جديد للانسان التي احبها ، ولمن كانت مستودعه .. لقد ماتت جدته أمينة التي منحته الاهتمام والعطف والمحبة ..
ولكنه كان قد صلب عوده عندما رحلت في ايلول/سبتمبر 1942 وهو في السابعة عشرة من العمر . رثاها وهو يذرف الدمع عليها ويئن من شدة الاسى ..
تجربة الانسحاق: مرجل للبركان العراقي
لقد مرت به تجربة الشعور بالظلم ، اذ ترسخت لديه المشاعر ان عائلته قد ظلمتها قوى الملاكين الكبار التي استغلت اهله واملاكهم ..
لم يكن واقعيا في فهم الحياة ، بل عالجها برؤى رومانسية ، كشاعر خصب العاطفة وبخيال جامح .. كان يؤمن بالمثاليات فتراه دوما يصطدم بواقعية الاشياء الصعبة وممارساتها بحيث يفتري القوي على الضعيف ، فيكبحه ويسيطر عليه .. كان يشعر انه واسرته قد تعرضوا لظلم كبير ..
وان الإحساس بالظلم من أصعب الأشياء التي تسحق الإنسان ، وان الإحساس بالانسحاق يولّد الانفجار .. كان مسحوقا بابويه ومسحوقا باسرته ومسحوقا بشكله الذي كان يؤذيه كلما وجد نفسه امام المرآة .. كان لا يتخلص من تعليقات هذا او ذاك .. لقد تكّون في اعماق السيّاب سيابا بركانيا هائلا .. لا يقوى السيّاب العادي من ايقاف امواجه الصاخبة التي ستتدفق طوال حياته القصيرة .
ان احاسيسه بالانسحاق بعد رحيل جدته ، ومشكلات الجد المالية ، قد جعلته يهرب بشكل عادي نحو بغداد ليتشّكل السيّاب الجديد ويترك السيّاب القديم في جيكور !!
التحّول الى انسان جديد في القطار نحو بغداد
لقد رحل السّياب عن موطنه الذي عشقه عشقا لا متناهيا ، وهو في القطار الصاعد نحو بغداد تاركا السّياب الاول كي تبدأ حياة السّياب الثاني مذ ولد سيابا جديدا ببغداد التي اكمل فيها ثانويته ،
وبعد تخرّجه من الثانوية صيف 1943 ، وقـبل طالبا ، وهو في مقتبل العمر في دار المعلمين العالية ببغداد .. وكانت تلك " الدار " من اشهر اكاديميات الشرق الاوسط قاطبة نظرا لامكاناتها المعرفية ، ونظام التعليم فيها وازدحامها بالمبدعين القادمين والزاحفين عليها بجدارة متناهية من كل أنحاء العراق وبقيت منارة حضارية وثقافية عراقية تشع بنخبة رائعة من أقوى المبدعين العراقيين الذين اثروا الثقافة العربية بأروع الأعمال .. ولكنها ، ويا للأسف الشديد ، انهارت بعد العام 1958 ،
لتغدو كلية بائسة لا يتخرج فيها الا البعض من الخريجين العاديين وزاد انسحاقها عندما غدت مصنعا مؤدلجا وأداة نظام حكم جائر .. كان بدر في السابعة عشرة من عمره ليقضى فيها أربعة أعوام ..
الحنين الى البصرة .. من خصب شوق بغداد
لقد شعر السّياب الجديد انه انسان حر يمتلك ارادته هنا ، ويقول ما يؤمن به ها هنا .. ويلوذ بالاشعار التي وجد فيها مخلصا من كل مخزونه ، ومعبرأ اساسيا عن كل ما طواه اللا وعي عنده منذ سنين ..
لقد كتب السياب خلال تلك الفترة عدة قصائد مترعة بالحنين والشوق إلى القرية التي كانت حاضنته الاولى ، وكتب الى الراعية هالة التي احبها ..
ويكتب قصائده العمودية أغنية السلوان و تحية القرية.. الخ
في بغداد الواسعة الكبيرة يمضي في شوارعها ، وهو شاب هزيل لا يعرفه أحد ، يرتاد مقاهيها ويجالس بعض ادبائها ، فينتصر لنفسه عندما ينشر له ناجي العبيدي اول قصيدة شعرية في جريدة الاتحاد ..
وهي اول قصيدة تنشر لبدر ، فيفرح فرحا شديدا يجعله لا ينام الليل من هذا الانتصار الذي حققه ببغداد .. فما وجده في بغداد يعاكس كل ما لاقاه وصادفه في موطنه الاول ..
ولكن السياب الجديد لا ينفصل ابدا عن ذاك القديم بكل انسحاقاته ، فالسياب الجديد يعّبر الآن سايكلوجيا عن سياب قديم بكل مرارة ولوعة .
صانع العباقرة العراقيين
لقد حظي السياب باروع عميد اكاديمي في حياة العراق إبان القرن العشرين ، كان يسمى بالدكتور متي عقراوي عميد تلك " الدار " الرائعة ..
وغدا اول رئيس لجامعة بغداد .. وكان الرجل قد فسح المجال امام الشباب المبدعين لينطلقوا بمواهبهم وملكاتهم وثقافتهم في تلك الدار العالية .. ووافق في العام 1944-1945 على تأسيس الشباب جماعة اسموها " اخوان عبقر" وكانت تقيم الحفلات والمواسم الشعرية ، فكان بدر من المؤسسين الى جانب زميلته الشاعرة نازك الملائكة وغيرهما ..
في حين لم ينضم اليها غيرهم من الشعراء الطلبة الشباب . وفي كل من الدار صباحا ، والمقاهي الأدبية مساء يلمع نجم السيّاب في كل من البرازيلية والبلدية والزهاوي ..
وهناك يتشكّل لأول مرة نظام رواد حركة الشعر الحر التي ضمت السياب وبلند والبياتي وعبد الرزاق عبد الواحد ورشيد ياسين وسليمان العيسى وشاذل طاقة .. وثمة تجمعا أشبه بتشكيل من نوع آخر جمع حازم سعيد واحمد الفخري وعاتكة وهبي الخزرجي وغيرهم .
لقد حظيت الثقافة العراقية الحديثة في كل من عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين بأهم مرحلة حرة من الإبداع والمنجزات الهائلة .. وتعد مرحلة الستينيات امتداد لها حتى حلول الفجيعة التاريخية !
غرابة الشاعر واعجوبة الشكل والمضمون
بدر في حجم جسمه ، صغير نحيل ضئيل، له عنق مشرأب ، وعلى جنبي رأسه أذنان كبيرتان .. ويمتد تحت جبهته العريضة خشم كبير مع ملمح لعينين صغيرتين تتحركان بلولبية سريعة على الجانبين ..وفم واسع تبرز الشفة العليا عالية ويصعب عليه اطباقها على الشفة السفلى ..
وتبرز أسنانه كل مرة نظرا لاضطراب الوجه الذي اخذ لون القمح العراقي ، وبوجنتين ناتئتين تمثلان علامتي استفهام لكل حياتنا العراقية التي لا منتهى لاسئلتها الصعبة أبدا ..
هذا الشاعر الشاب النحيل القادم من اعماق الجنوب الدافئ .. يعترف به وبسرعة البرق كل الجمع المثقف في دار المعلمين العالية ، ويشتهر فجأة على مهوى البنات قبل البنين .. بدأن يتناقلن شعره من دفتره الذي ضمه عيون شعره ، وهو نفسه الذي اصدره عام 1947 بعنوان " ازهار ذابلة " .
نحو عالم جديد برفقة عالمية
يقتحم السياب عالم الشعر الحديث بالانكليزية بعد أن يصرف الساعات الطوال ليخوض في عوالم ومرئيات وابداعات وود زورت وكيتس وشيلي .. واليوت واديث سيتويل .. وغيرهم ، ويقرأ ترجمة " أزهار الشر " لبودلير فيهواها من اعماقه ..
كما يعشق احدى زميلاته الشاعرات الذكيات ، إلا أنها تطارحه الهوى حينا وتحجم احيانا .. يتعذب ويتلظى ، ولكنها تسهم أيضا في تكوينه الأخير .. ولا اعتقد أن دينهما قد ابعدهما عن بعضهما الآخر ،
بقدر ما كان لكل من الاثنين طبيعته وافكاره وتربيته .. فيزيد ذلك من احباطه ، خصوصا ، إذا علمنا بأنه قد تعّلق بها أكثر مما هي تعلّقت به .. وربما كانت تتلاعب بعواطفه ، وربما أحبته هي الأخرى ، ولكن ثمة أشياء جعلتها لا تواصل حياتها معه ، فيهرب إلى أن يكون صاحب تجربة سياسية ماركسية في مخاض لا يستقيم وانفاسه وحريته كشاعر وفنان ..
تجربة المثقف والسياسي السجين
وكان الثمن ، الفصل من الدراسة لسنة اكاديمية كاملة في الكلية ، ومن ثم إدخاله السجن عام 1946 لفترة وجيزة ، وسجن ثانية في العام 1948 اثر صدور ديوانه " أزهار ذابلة " بتقديم من الصحفي العراقي الكبير روفائيل بطي ،
اذ قام الاخير بجهده في نشر الديوان بمصر ، وكانت الانطلاقة التاريخية بذكاء منقطع النظير سواء في حرية البناء الشعري ، أو انطلاقة القافية من مهجعها ، أو التناغم مع اوزان الشعر من بيت شعري لآخر ، وكان يحاكي الشعر الغربي ..
وهنا تتمثّل جرأة السياب وشجاعته في ابتكار ما لم يكن مألوفا في الحياة الشعرية العربية وبمنتهى الذكاء في الخروج من جمود الطرق التقليدية .. السجن محطة زادت من كرهه للنظام الحاكم ،
ولكنه كما يبدو لي ، إن الرجل لم يعرف الاستقرار على كراهية الأشياء ، إذ سرعان ما تتغلب عنده نزعة الرضى والمودة للأشياء .. إذ كان ، وربما لا يشعر بذلك ، انه اكبر من بقية الأشياء التافهة .
واخيرا .. الخلود على مر العصور
هكذا ، كان التكوين وتطور الموهبة الى ان انصقلت
بمعرفة واسعة ، وببطولة يصعب الأداء فيها من قبل الاخرين .. فلقد كان تكوينا غير عادي ابدا لشاعر
لم يطل به الشوط ، اذ رحل مبكرا وهو في قمة العطاء ، ولكن ليسجل أروع النصوص التي ستبقى رمزا لما انجبه العراق . إن السيّاب هو علامة فارقة لما نتج عن مرحلة صعبة مزدحمة بالتناقضات ،
ولكنه يعد ابنها الحقيقي لجيل ولد على عهد تأسيسي للعراق الحديث ، أي على عهد فيصل الأول ، وهو جيل رائع بعطائه الثر في مختلف واجهاته الثقافية ..
لقد كان السيّاب ـ أيضا ـ صاحب مشروع شعري متميز في الثقافة العربية الحديثة ، ولأول مرة ، رفقة زملائه الآخرين الذين شاركوه تكوينه الأكاديمي .
إن ما يميّز السياب في تكوينه الأول منطلقاته التي رأيناها منذ طفولته : الطبيعة .. البيت .. الأم .. القرية .. الأشجار .. أصوات الطيور .. خرير الماء وصولا إلى الشعور بالظلم والانسحاق .. البصرة وشناشيلها والرحلة بالقطار نحو بغداد .
سيبقى السياب رمزا للعراق في القرن العشرين إلى جانب بقية رموز أخرى . وسيبقى بدر شاكر
الكتب الشعرية
أزهار ذابلة- مطبعة الكرنك بالفجالة- القاهرة- ط ا- 1947
أساطـير- منشورات دار البيان- مطبعـة الغرى الحديثـة- النجف- ط 1-
حفار القبور- مطبعة الزهراء- بغداد- ط ا- 1952
المومس العمياء- مطبعة دار المعرفة- بغداد- ط 1- 1954
الأسلحة والأطفال- مطبعة الرابطة- بغداد- ط ا- 1954
أنشودة المطر- دار مجلة شعر- بيروت- ط 1- 1960
المعبد الغريق- دار العلم للملايين- بيروت- ط ا- 1962
منزل الأقنان- دار العلم للملايين- بيروت- ط ا- 1963
أزهار وأساطير- دار مكتبة الحياة- بيروت- ث ا- د. ت
شناشيل ابنة الجلبي- دار الطليعة- بيروت- ط ا- 1964
إقبال- دار الطليعة- بيروت- ط ا- 1965
إقبال وشناشيل ابنة الجلبي- دار الطليعة- بيروت- ط ا- 1965. 13- قيثارة
الريح- وزارة الأعلام العراقية- بغداد- ط ا- 1971
أعاصير- وزارة الأعلام العراقية- بغداد- ط ا- 1972
الهدايا- دار العودة بالاشتراك مع دار الكتاب العربي- بيروت- ط ا- 1974
البواكيرـ- دار العودة بالاشتراك مع دار الكتاب العربـي- بـيروت- ط ا- 1974
فجر السلام- دار العودة بالاشتراك مع دار الكتاب العربي- بيروت- ط ا- 1974 365
الترجمات الشعرية
عيون الزا أو الحب و الحرب
عن أراغون- مطبعة السلام- بغداد- بدون تاريخ
قصائد عن العصر الذري
عن ايدث ستويل- دون مكان للنشر ودون تاريخ
قائد مختارة من الشعر العالمي الحديث
دون مكان للنشر ودون تاريخ
قصائد من ناظم حكمت
مجلة العالم العربي، بغداد – 1951
الأعمال النثرية
الالتزام واللالتزام في الأدب العربي الحديث،
محاضرة ألقيت في روما ونشرت في كتاب الأدب العربي
المعاصر، منشورات أضواء، بدون مكان للنشر ودون تاريخ
الترجمات النثرية
ثلاثة قرون من الأدب - مجموعة مؤلفين،
دار مكتبة الحياة- بيروت- جزآن، الأول
بدون تاريخ،و الثاني 1966
الشاعر و المخترع و الكولونيل،
مسرحية من فصل واحد لبيتر أوستينوف، جريدة
المجموعة الكاملة للشاعر
بدر شاكر السياب
غريب على الخليج
الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام، على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار
.منكل حاف نصف عاري
و على الرمال ، على الخليج
جلس الغريب، يسرح البصر المحير فيالخليج
: و يهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيجأعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج"
، صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى : عراق .كالمد يصعد ، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي : عراق
و الموج يعول بي : عراق ، عراق ،ليس سوى عراقالبحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
و البحر دونك يا عراق
.. بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراقوكنت دورة أسطوانه
هيدورة الأفلاك في عمري، تكور لي زمانه
.في لحظتين من الأمان ، و إن تكن فقدتمكانه
هي وجه أمي في الظلام
، وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنامو هيالنخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
،منالدروب وهي المفلية العجوز وما توشوش عن
(حزام)
1
وكيف شق القبر عنه أمام عفراءالجميلة
.فاحتازها .. إلا جديلهزهراء أنت .. أتذكرين
تنورنا الوهاجتزحمه أكف المصطلين ؟
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟
ووراء بابكالقضاء
قد أوصدته على النساء
أبد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال
.كانالرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال
أفتذكرين ؟ أتذكرين ؟
سعداء كنا قانعين
. بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء
،حشد من الحيوات و الأزمان، كنا عنفوانه .كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه
أفليس ذاك سوى هباء ؟
حلم ودورةأسطوانه ؟
ان كان هذا كل ما يبقى فأين هو العزاء ؟
،أحببت فيك عراق روحي أوحببتك أنت فيه
يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء
.و الليل أطبق ،فلتشعا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقىبك و العراق على يدي .. هو اللقاءشوق يخض دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء
جوعإليه .. كجوع كل دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلىالولاده
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خانمعنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها ، والظلام
.حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متىأنام
فأحس أن على الوساده
ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرىالمتهيبات خطاي و المدن الغريبة
،غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرفي المنفى صليبه ،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار
.فتذر في عيني ،منك ومن مناسمها ، غبارما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
،تحتالشموس الأجنبيهمتخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
،بين العيون الأجنبيهبين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو ( خطيه) 2
(و الموت أهون من (خطيه
من ذلك الإشفاق تعصره العيونالأجنبيه
قطرات ماء ..معدنيه
،فلتنطفئ ، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا ..
نقود
يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود
إلى العراق ؟ متى أعود؟
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
.بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة .. يانقود
ليت السفائن لا تقاظي راكبيها من سفار
أو ليت أن الأرض كالأفقالعريض ، بلا بحار
ما زلت أحسب يا نقود ، أعدكن و استزيد ،
ما زلت أنقض ، يانقود ، بكن من مدد اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي و بابي
في الضفةالأخرى هناك . فحدثيني يا نقود
متى أعود ، متى أعود ؟
أتراه يأزف ، قبل موتي، ذلك اليوم السعيد ؟
سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب
،كسر، وفيالنسمات برد مشبع بعطور آبو أزيح بالثوباء بقيا من نعاسي كالحجاب
:منالحرير ، يشف عما لا يبين وما يبين .عما نسيت وكدت لا أنسى ، وشك فييقين
ويضئ لي _ وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي-
ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسيمن جواب
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب ؟
اليوم _ و اندفق السرور علييفجأني- أعود
واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كان تعوزهالنقود ؟ وكيف تدخر النقود
و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما تجود
بهالكرام ، على الطعام ؟
لتبكين على العراق
فما لديك سوى الدموع
.وسوىانتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع
الكويت 1953
أنشودة المطر
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ...
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "
لا بدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
ويلعن المياه والقَدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .
مطر ..
مطر ..
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،
كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،
كأنها تهمّ بالشروق
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .
أَصيح بالخليج : " يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! "
فيرجعُ الصّدى
كأنّه النشيجْ :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى .. "
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،
عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :
" مطر ...
مطر ...
مطر ...
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحىً تدور في الحقول ... حولها بشرْ
مطر ...
مطر ...
مطر ...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ
ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر ...
مطر ...
مطر ...
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر ،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .
مطر ...
مطر ...
مطر ...
في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة !
مطر ...
مطر ...
مطر ...
سيُعشبُ العراق بالمطر ... "
أصيح بالخليج : " يا خليج ..
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجع الصدى
كأنَّه النشيج :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى . "
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،
على الرمال ، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
" مطر ..
مطر ..
مطر ..
في كلّ قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . "
ويهطل المطرْ ..
أنشودة المطر باللغة الانكليزية
RAIN SONG
Your eyes are two palm tree forests in early light,
Or two balconies from which the moonlight recedes
When they smile, your eyes, the vines put forth their leaves,
And lights dance . . . like moons in a river
Rippled by the blade of an oar at break of day;
As if stars were throbbing in the depths of them . . .
And they drown in a mist of sorrow translucent
Like the sea stroked by the hand of nightfall;
The warmth of winter is in it, the shudder of autumn,
And death and birth, darkness and light;
A sobbing flares up to tremble in my soul
And a savage elation embracing the sky,
Frenzy of a child frightened by the moon.
It is as if archways of mist drank the clouds
And drop by drop dissolved in the rain . . .
As if children snickered in the vineyard bowers,
The song of the rain
Rippled the silence of birds in the trees . . .
Drop, drop, the rain
Drip
Dropthe rain
Evening yawned, from low clouds
Heavy tears are streaming still.
It is as if a child before sleep were rambling on
About his mother (a year ago he went to wake her, did not find her,
Then was told, for he kept on asking,
"After tomorrow, she'll come back again . . .
That she must come back again,
Yet his playmates whisper that she is there
In the hillside, sleeping her death for ever,
Eating the earth around her, drinking the rain;
As if a forlorn fisherman gathering nets
Cursed the waters and fate
And scattered a song at moonset,
Drip, drop, the rain
Drip, drop, the rain
Do you know what sorrow the rain can inspire?
Do you know how gutters weep when it pours down?
Do you know how lost a solitary person feels in the
rain?
Endless, like spilt blood, like hungry people, like love,
Like children, like the dead, endless the rain.
Your two eyes take me wandering with the rain,
Lightning's from across the Gulf sweep the shores of
Iraq
With stars and shells,
As if a dawn were about to break from them, But night
pulls over them a
coverlet of blood. I cry out to the Gulf: "O Gulf,
Giver of pearls, shells and death!"
And the echo replies,
As if lamenting:
"O Gulf,
Giver of shells and death .
I can almost hear Iraq husbanding the thunder,
Storing lightning in the mountains and plains,
So that if the seal were broken by men
The winds would leave in the valley not a trace of Thamud.
I can almost hear the palmtrees drinking the rain,
Hear the villages moaning and emigrants
With oar and sail fighting the Gulf
Winds of storm and thunder, singing
"Rain . . . rain . . .
Drip, drop, the rain . . .
And there is hunger in Iraq,
The harvest time scatters the grain in-it,
That crows and locusts may gobble their fill,
Granaries and stones grind on and on,
Mills turn in the fields, with them men turning . . .
Drip, drop, the rain . . .
Drip
Drop
When came the night for leaving, how many tears we
shed,
We made the rain a pretext, not wishing to be blamed
Drip, drop, the rain
Drip, drop, the rain
Since we had been children, the sky
Would be clouded in wintertime,
And down would pour the rain,
And every year when earth turned green the hunger
struck us.
Not a year has passed without hunger in Iraq.
Rain . . .
Drip, drop, the rain . . .
Drip, drop . . .
In every drop of rain
A red or yellow color buds from the seeds of flowers.
Every tear wept by the hungry and naked people
And every spilt drop of slaves' blood
Is a smile aimed at a new dawn,
A nipple turning rosy in an infant's lips
In the young world of tomorrow, bringer of life.
Drip.....
Drop..... the rain . . .In the rain.
Iraq will blossom one day '
I cry out to the Gulf: "O Gulf,
Giver of pearls, shells and death!"
The echo replies
As if lamenting:
'O Gulf,
Giver of shells and death."
And across the sands from among its lavish gifts
The Gulf scatters fuming froth and shells
And the skeletons of miserable drowned emigrants
Who drank death forever
From the depths of the Gulf, from the ground of its
silence,
And in Iraq a thousand serpents drink the nectar
From a flower the Euphrates has nourished with dew.
I hear the echo
Ringing in the Gulf:
"Rain . . .
Drip, drop, the rain . . .
Drip, drop."
In every drop of rain
A red or yellow color buds from the seeds of flowers.
Every tear wept by the hungry and naked people
And every spilt drop of slaves' blood
Is a smile aimed at a new dawn,
A nipple turning rosy in an infant's lips
In the young world of tomorrow, bringer of life.
And still the rain pours down
سفر أيوب
كتب الشاعر هذه القصيدة بعد ان أصيب بمرض السل الرئوي في
الخمسينات حتى إذا تفاقم عليه المرض الذي كان من الأمراض
الصعبة العلاج آنذاك
توجه إلى لندن لغرض العلاج، وقد أبدع قلمه بالأبيات
المدوّنة أدناه وهو على سرير المستشفى هناك يشُكر فيها
الباري على نِعمه التي لا تحصى .
سفر أيوب
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
ولكنّ أيّوب إن صاح صاح:
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمّ إلى الصّدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة. هاتها
*****
أشد جراحي وأهتف
بالعائدين:
ألا فانظروا واحسدوني
فهذى هدايا حبيبي
جميل هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك
جميل هو الليل أصداء يوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء:
لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء
بدر شاكر السياب
لندن
26/12/1962