صناعة اليد البيضاء08/07/2014 06:42
رؤية في دور المثقف الآن
مازن المعموري
تسهم التوصيفات اللغوية في صناعة الخطابات على المستوى الاجتماعي، كما تعمل على تجديد حركة القيم في المجتمع الذي يواجه أزمات وجودية خانقة، ومن هذه التوصيفات تبرز اليد كقيمة اعتبارية لتشكيل شخصية الإنسان الذي ينضوي تحت هيمنة القيم في الشرق خاصة، اليد التي تصبح رمزا ثقافيا وايديولوجيا لتمرير رسائل إلى الآخر الجمعي، وحين تصبح بيضاء فانها تمارس دورا حاسما في سلوك الممارسات اليومية والقيمية لإيجاد المثال وتبرير الفكرة اليوتوبية، ولكن أي بياض يشيع اليوم في دوامة السوادات الحالكة للمثقف العراقي، وهو يواجه ركام التجارب الكثيرة من دون مسح إجرائي للمرحلة وقراءة جادة للحدث.في الثقافة العراقية لا نجد المثقف المستقل، إلا وهو متهم بعزلته، لأننا منذ البدء نؤمن بالمثقف المتحرك والمؤثر، وأنا أتحدث هنا عن الناس وتصوراتهم حول المثقف الذي لا بد له أن يكون قريبا من الشارع وتقلباته، وبما انهم يبحثون عن شخص يمثل آمال المجموع بفكرة اليوتوبيا والمخلص الأبدي، فان عزلة المثقف اليوم تثير الشكوك المستمرة عن بياض يده التي لوثتها السلطة، إذ مازالت حتى الآن تمارس السلطة الفعالية ذاتها تجاه المثقف وتظهر الشاعر كبوق لمهمات التعبئة الشعبية، كما حصل في الآونة الأخيرة مع أحداث "داعش" .
اليد البيضاء تحاول التخلي عن سيرورة التاريخ، لأن الدخول في ماكنة الصراع السياسي يعني فقدان الهوية الشخصية لكينونة المثقف الذي يريد أن يعبر عن وجهة نظر خالصة تجاه مجتمعه وبلده، وهي مفقودة أصلا، لأن القيادة للسياسي وليس للعقل المفكر المتأني في قراءة الواقع وتحصيل النتائج، وهذا التأني لم يكن ليعبر عن كسل المثقف العراقي، بل لأن مؤسسات الدولة غير معنية بترتيب أوراق الفعل الثقافي لصالح المجتمع أولا، ولأننا لا نملك مؤسسات مجتمع مدني مستقلة ثانيا، بل بقيت متمسكة بالنمط التعبوي للثقافة، والغريب ان المثقف العراقي يقبل كل شيء، يقبل أن يمارس دور النافخ للنار، والتابع، والبوق، أما من يبتعد عن ذلك فهو مثقف سلبي وغير مهم لأنه غير قادر على تعبئة الناس وغير قادر على الصراخ .
تفصيص المجتمع، وتكتل الجماعات الدينية،يؤدي مرة أخرى الى إنتاج نماذج جديدة من الشعراء والدعاة المنتمين للمجموع، والمتحدثين باسم تيارات متفرقة ومتناقضة حولت المثقف الى إعلامي بامتياز، حتى وان كان غير منتم، وهذا الواقع هو أحد تبديات العولمة التي اشار لها اولفييه روا ( الجهل المقدس) حيث تم استبدال الاعلامي مقام المثقف، وتحول الحديث عن الرؤية العميقة الى الوصف الأفقي للحدث، كما تم التخلي عن التأويل مقابل الالتزام بالتفسير، وهو ما نراه اليوم في كل المنابر الإعلامية، التي تلتزم بالتعريف وتفسير الحدث أكثر من إنتاج رؤية معرفية له .
درج المثقف العراقي منذ عصر التنوير العربي الحديث، نهايات القرن التاسع عشر على تبديد وجوده الشخصي من أجل الفكرة، سواء كانت تلك الفكرة يسارية أم يمينية، وانضوى المنتج الجمالي شعرا وقصة ومقالا نقديا تحت وصاية الايديولوجيا الحزبية، أو انه بقي يعيش ازدواجية الشاعر العربي القديم مثل الجواهري الذي مدح القاصي والداني من دون تفريق بين ظالم ومظلوم، في حين بقي رجل الدين حائزا على القاعدة الشعبية بصفته الخطاب المضاد للظالم ويمارس دور "خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" حيث أسهم هذا التواصل مع القاعدة الشعبية إلى بروز نماذج قيادية وقفت موقف المخلص من الطغاة حاملين الأكفان على المتون من دون خوف، وهو ما حصل مع الشهيد الثاني محمد محمد باقر الصدر، فهل قدم لنا مثقف عراقي واحد إيمانا بالحياة الجديدة وحقوق الإنسان والدولة المدنية أنموذجا لفناء ذاته من أجل المجتمع؟
يبدو السؤال خطيرا، لكن الواقع يميل إلى ثبات اليد البيضاء دائما، اليد التي تقول الحقيقة أمام الموت والعنف، وقبل كل ذلك الإيمان بالفكرة التي نعيشها ثقافيا، وربما أستطيع القول أن المثقف العراقي بحاجة ماسة إلى الإيمان بكونه مثقفا قادرا على التأثير في الناس، وهو ما شاهدناه بشكل حقيقي في مصر العظيمة، حيث برز الفنان والمثقف والشاعر والمبدع كقيمة عليا في ذهنية الإنسان المصري، أسهم في قيادة حركات ومظاهرات على الرغم من معرفته بقطع رزقه وفصله من عمله والتهديد بالقتل وغيرها من وسائل الضغط السلطوية .
أشير هنا إلى منطق الثقافة وليس منطقة الثقافة، إذ كثيرا ما يتكلم المثقف العراقي عن الثقافة بوصفها منطقة تحوز على مؤهلات خاصة وتلق أنموذجي وأدوات قرائية استثنائية، لكنه يتناسى منطق الثقافة الذي يشترط التواصل والاحتكاك مع الواقع الذي يثير مفاهيمه وحاجياته الآنية والتاريخية، الواقع الذي يستدعي اليد البيضاء للتكلم عن اللحظة الحرجة التي نعيشها اليوم، من أجل الإصلاح والتغيير بدءا من الداخل وليس الخارج، لأن الداخل هو المحرك الأساسي للفعل الخارجي، انطلاقا من مقولة" ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وهو ما يمثل جوهر العلاقة مع الآخر .
وهنا نكون أمام إشكالية أخرى في معرفة اليد البيضاء التي تقودنا لمعرفة الآخر في بياضه، لكن الآخر دائما هو الأسود المشوه والقذر، ويدنا هي البيضاء، الآخر يتهم بياضنا بالزيف والتلوث، فنفقد توازننا أمامه، إلا أن المثقف هو الوحيد الذي يجعلنا نتعقل وجود الآخر في علاقته الحثيثة لاستقراء تكاملنا الوجودي مع الآخر، حيث تسهم تلك الثنائية بتركيب ازدواجنا الوجودي، فعندما يفكر شخص ما بأكل لحم الغير، يلاقي فيه في الحقيقة هويته ، هذه البنية المزدوجة للذات تعمل بصورة أكثر مجازية، نحو تصورات متعددة كالجنسانية، حيث تعود فكرة التهام أجزاء من جسد الشخص إلى حيازة الخواص التي خصت هذا الشخص، وبرأي فرويد يتمم الاخوة التماثل مع الأب، فكل واحد من الاخوة يتملك جزءا من قوته، وفي الحب فليس هناك قبر أفضل من بطن المحبوب أو القريب المحبوب جدا وهو ما يسميه فرويد نرجسية العاشقين وحب الامتلاك (معجم الجسد).
في هذه اللحظة المتأزمة، يصبح من أكلنا، فرصة لاكتشاف ذاتنا أيضا، فما حصل في الموصل سيعيد لنا التوازن، عندما نعرف أن لحمنا الذي أكله الأعداء الأغيار سيقدم لنا حقيقة واقعنا الحريص على التلاحم من جديد كلما تعرض" الأنا " إلى تفتيت وإزاحة المكونات البنيوية، لأنها لا تستطيع أن ترى سواد يدها حتى وان مسحتها برمال الصحراء.