علم اللغة
زانستي زمان
Linguistics
بسم الله الرحمن الرحيم
تكاد تطبق المدارس اللغوية الحديثة على الاعتراف بالمبدأ الذي يفرق بين " اللغة " و "الكلام" ؛ فيجعل "اللغة" منظمة ذهنية جمعية توجد في أذهان أفراد الجماعة , وتحوي القوانين والضوابط والعلاقات التي تحكم الكلام المنطوق أو المكتوب , في حين يجعل "الكلام" هو الجانب التطبيقي العملي للغة , وهو فردي , محسوس , متشعب , خاضع بحسب المواقف والظروف لعوامل عضوية ونفسية واجتماعية كثيرة . ومن ثم يذكرون في مقدمات كتب علم اللغة أن هذا العلم ينبغي أن يعنى بالجانب الأول , وهو القوانين والعلاقات التي تحكم الكلام . ومضت الدراسات اللغوية بعد "سوسير" على الاعتراف بهذا المبدأ , حتى الدراسات الأدبية المتأثرة للّغويات – كالأسلوبية – اعتمدت هذه الثنائية (اللغة – الكلام) , فجاكبسون – مثلا - حينما استعار "نموذج الاتصال اللغوي" من "علم الاتصال" أدخل فيه هذه الثنائية وعرضها في الشكل التالي :
سياق
" نظام" ( = اللـغة )
مرسل ...... "رسالة" ( = الكلام ) ...... مستقبل
قنـاة
وبناء على اعتماده النظرية السوسورية في الفرق بين اللغة والكلام ووجوب أن يكون موضوع علم اللغة هو "اللغة" لا "الكلام" , فقد دعا جاكبسون إلى أن يكون موضوع علم الأدب هو "الأدبية" لا "الأدب" , وجعل النسبة بينهما كالنسبة بين اللغة والكلام في النظرية السوسورية .
لكن التأمل في بعض ظواهر اللغة يشكك الباحث في قيمة هذه الثنائية , وقدرتها بعنصريها فقط على تفسير الكلام الإنساني تفسيرا واضحا , فمثلا :
1 - هناك إمكانات نظرية في "النظام" ؛ أي أن القوانين النظرية أو "القياس" يجيزها , لكن لا نجدها في "الكلام" , فلماذا ؟ مثال ذلك : مادة "ودع" جاء منها المضارع " ولا يقولون وَدَعَ استغنوا عنها بترك , وأشباه ذلك كثير" كما يقول سيبويه ( الكتاب 1/25) . فالإمكان النظري في النظام , وهو وزن " فَعَلَ" يتيح أن يستعملوا "وَدَع" في الكلام , فلماذا تركوه ؟ إن قولنا "استغنوا بكذا" ليس جوابا عن السؤال , فالاستغناء بالشيء ليس باعثا على الترك , وإنما هو معين على الترك ؛ بأن يأتي لنا ببديل عن المتروك . من هنا كان لابد من البحث عن جانب ثالث في اللغة غير "الوضع الأصلي" وغير "الكلام المستعمل" يكون بمثابة القاعدة التي تفرز مثل هذه الظاهرة.
ومن الأمثلة كذلك : الشبه المعنوي المقتضي بناء الاسم , والذي ذكره ابن مالك في ألفيّته بقوله :
* والمعنويِّ في متى وفي هنا "
فمن أقسامه أن يشبه الاسم " حرفا غير موجود .. كـ "هنا" فإنها مبنية لشبهها حرفا كان ينبغي أن يوضع فلم يوضع , وذلك لأن الإشارة معنى من المعاني , فحقها أن يوضع لها حرف يدل عليها كما وضعوا للنفي "ما" وللنهي "لا" وللتمني "ليت" وللترجي "لعل" , فبنيتْ أسماء الإشارة لشبهها في المعنى حرفا مقدّرا" كما يقول ابن عقيل (1/31 ) .
ومن الأمثلة أيضا : الكلام "المستقيم القبيح" وهو "أن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيدًا رأيتُ , وكي زيدًا يأتيك وأشباه هذا " (سيبويه 1/26 ) , فهو مع أنه ممكن بحسب "القانون" البحت, أعني من جهة الاستقامة فقط , لكنه مرفوض في "الكلام" النثري فلماذا ؟ إننا إذا اعتمدنا على القانون الوضعي فقط فلن نحصّل الإجابة , لأن أصل القاعدة قد يَرِدُ عليه استثناء – بقطع النظر عن قوته أو ضعفه – يقول : التركيب جائز والاسم على نية التأخير وإنما قُدِّم لفظًا للأهمية . ومما يدل على جواز مثل هذه التراكيب التي أوردها سيبويه ورودُها في الشعر , قال سيبويه : "ويحتملون قبح الكلام حتى يضعوه في غير موضعه , لأنه مستقيم ليس فيه نقض. فمن ذلك قوله :
صددْتِ فأطْولتِ الصدود وقلّما * وصالٌ على طولِ الصدودِ يدومُ
وإنما الكلام : وقلّ ما يدوم وصال" ( 1/31) , لكنها مرفوضة في الكلام النثري , "فالقانون" أو "النظام" وَحْدَه لا يَحُلُّ لنا هذا الإشكال , بدليل أن هذا النظام نفسه قد أباح هذه التراكيب القبيحة في الشعر , و"الكلام" لا يمكن كذلك أن نلتمس من جهته حل الإشكال , لأنه في الألسنية الحديثة ما هو إلا تطبيق عملي للنظام أو لقوانين اللغة . ومن هنا تأتي ضرورة البحث عن أمر ثالث غير "النظام" وغير "الكلام" يكون واسطة بينهما , ويعتمد عليه الكلام مع النظام , وهو الفرض الذي نفرضه تحت اسم "العرف اللغوي" .
2 – هناك تراكيب متفق على ورودها في "الكلام" , ومع ذلك يرْفضها أصل القاعدة أو "النظام الأساسي" للغة , فكيف حصل هذا ؟ إن كل أمثلة "الشواذ" في اللغة , سواء كانت شواذ الكلمات أم الصيغ أم الجمل تدخل تحت هذه الظاهرة . لا يمكننا تبرير هذه الشواذ برَجْعها إلى "أصل القاعدة" لأنها ترفضها بداهة , ولا إلى "الكلام" لأنه في نظر علم اللغة الحديث تطبيق مباشر للقاعدة . ومن هنا تأتي مرة أخرى أهمية اقتراح "العرف اللغوي" مصدرا ترجع إليه الشواذ .
3 – في اللغة ما يُعرف بالظواهر السياقية أو الموقعية , وهي تنشأ حلاًّ لمشكلات تطبيق النظام اللغوي المجرد على الكلام المعيّن , ففي اللغة العربية – مثلا – يقضي النظام بأن الدال مجهورة والتاء مهموسة , ولكنَّ تَجاور هذين في الكلام على هيئة معينة يوقع في مشكلة تطبيقية موقعية, فإذا وقعت الدال الساكنة وتبعها تاء متحركة كما في "قَعَدْتُ" أدّى جهر الدال – كما يقضي به النظام أو الأصل أو القياس – إلى صعوبة عضوية شديدة ومخالفة "للذوق العربي" , ومن هنا تأتي ظاهرة سياقية موقعية لتحل هذه المشكلة الناشئة من تعارض مطالب الكلام مع مطالب النظام ؛ وهي ظاهرة الإدغام , فتدغم الدال في التاء وتنطقان تاء مشدّدة : "قعتّ"( انظر اللغة العربية معناها ومبناها 262) . وهذا الذوق اللغوي في العربية هو المبرّر لمبدأ "العدول عن الأصل" ( انظر الأصول لتمام 135) ، وهو أساس الظواهر السياقية التي تنشأ لحل مشكلة التعارض بين مطالب النظام والكلام , مثل : التأليف والوقف والمناسبة والإعلال والإبدال والتوصل والادغام والتخلص والحذف والإسكان والكمية والإشباع والإضعاف والنبر والتنغيم ( اللغة العربية لتمام 263 ـ 265 ) .
ويلخص تمام حسان صفة هذا الذوق اللغوي للعربية بأنه الاتجاه الذي يكره توالي الأضداد وتوالي الأمثال ويألف توالي المتخالفات أو الأشتات ( اللغة العربية 264 والأصول 135 ) .
والسؤال هنا : إذا كانت هذه الظواهر السياقية الموقعية تأتي لحل مشكلات تعارض مطالب النظام مع مطالب الكلام , ويقف خلفها "الذوق اللغوي" للغة في رأي تمام حسان , ولم تكن بالطبع منتمية إلى أيٍّ منهما – ضرورةَ أنها تحل مشكلة التعارض بينهما – فما مرجعيتها اللغوية في عملية الاتصال اللغوي ؟! من هنا تأتي ضرورة اقتراح عنصر ثالث بين النظام والكلام , وهو ما نقترحه تحت اسم "العرف اللغوي"