بالرغم من أن أجهزة المخابرات أُنشئت لحماية الدول وتحصين أمنها الداخلي والخارجي من أي اختراق من خارج الحدود إلا أن العديد من أجهزة المخابرات في الأنظمة الشمولية تخصصت في حماية تلك الأنظمة حتى وإن كان ذلك على حساب أمن الدولة والشعب؛ لأن الأهم لدى تلك الأجهزة هو بقاء النظام وحمايته حتى وأن كان الشعب غير راضٍ عن ذلك النظام.للمخابرات في الأنظمة الشمولية أساليب شتى إلى حد وصفها بالإبداع الإجرامي، وهو ما أنجزته المخابرات السورية بإنشاء وإطلاق «داعش» تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية، فهذا التنظيم إحدى تجليات جهاز المخابرات السوري، وبالتحديد مخابرات القوات الجوية.البداية سبقت اندلاع الثورة الشعبية في سوريا، فمخابرات القوة الجوية السورية كانت تعمل وتنسق مع تنظيم القاعدة في سوريا، وكان ذلك التنسيق يستهدف تسهيل تجنيد ومرور مقاتلي التنظيم إلى العراق وإلى لبنان، وكانت المخابرات السورية على علم بالقادمين من دول الخليج والسعودية واليمن وأوروبا وشمال إفريقيا، وبعضهم يتم تسهيل ذهابهم مباشرة إلى العراق للقتال ضمن تشكيلات القاعدة في العراق، وهم الذين سبقوا المشاركة في الأعمال القتالية في أفغانستان، أما الذين يحتاجون إلى تدريب فيرسلون إلى إيران لتدريبهم تحت إشراف فيلق القدس، وقبل ذلك كانوا يتدربون في معسكرات للحرس الثوري في بعلبك بلبنان. وقد أمكن للمخابرات السورية تكوين تشكيلات عدة تحت مظلة القاعدة، وإن حملت أسماء متعددة، وشاركت في تنفيذ الكثير من الأعمال الإرهابية في لبنان كواقعة نهر البارد، وفي العراق الذي هددت حكومته بشكوى النظام السوري لمجلس الأمن الدولي.وبعد الضغوط الأمريكية على نظام دمشق والتهديد بعمل عسكري ضد النظام إذا لم يلجم هذه الجماعات الإرهابية، تعاونت سلطات سورية، ووضعت مقاتلي القاعدة الموجودين على الأرض السورية في السجون، ومن أهمها معتقل صيد نايا الذي كان قد ضم رؤوس التنظيم السوري، في حين تعاونت مع المخابرات الأمريكية والعراقية لتقديم أسماء الموجودين في العراق، الذين وصلوا إلى قرابة الألف مقاتل، وفي داخل السجون السورية والعراقية، وبعد أن تم حل إشكالات التنافر بين الأسد والمالكي بضغط من الجنرال قاسم سليماني الذي أفهم الطرفيين أن كليهما مهدد بامتدادات الثورة الشعبية السورية، فتحت السجون العراقية والسورية معاً لعناصر استخبارية سورية وإيرانية وعراقية لتنظيم فصيل مقاتل من عناصر القاعدة الموجودين في السجون السورية والعراقية، وتم ذلك عبر اختراق مدبر، اعتمد فيه على ضباط متمرسين كانوا على علاقة وثيقة بتنظيم القاعدة، وعلى رأسهم المدعو أبو القعقاع الذي أدخل معتقل صيد نايا، وهناك كون فرع جيش دولة العراق والشام الإسلامية، وفي سجن التاجي تم اختراق مقاتلي تنظيم القاعدة المعتقلين في ذلك السجن؛ ليبدأ تكوين الظهير الآخر للتنظيم، واستهدف أكثر من ألف مقاتل مُكنوا من الفرار من ذلك السجن، ومُنحوا تسهيلات لوصولهم إلى الأراضي السورية؛ ليشكلوا مع المقاتلين السوريين الذين جرى إطلاق سراحهم من معتقل صيد نايا؛ ليتكون جيش دولة العراق والشام الإسلامية من قرابة ألفي مقاتل شرس، جميعهم متدربون ومخترقون من ضباط المخابرات السورية والإيرانية، بخاصة الذين تكفلوا بإيصال الأموال والأسلحة لهم؛ ليصبح هذا الجيش قوة عسكرية فعالة، تخدم ادعاءات النظام السوري، وتربك خطط الجيش السوري الحر، وقد تقضي عليه.كيف تم ذلك وما هي خطط جيش دولة العراق والشام المستقبلية...؟
مع أن حركة طالبان الأفغانية الباكستانية أنشئت من قبل طلبة العلم الأفغانيين الذين يتلقون العلم الشرعي في باكستان وبرعاية من قبل المخابرات الباكستانية في عهد الرئيس أيوب خان، الذي أحاط الحركة في بدايتها برعايته، وطلب من المخابرات الباكستانية المشاركة في وضع أسس إنشائها؛ لأنه أراد أن تكون هناك قاعدة دينية شرعية لحكم أفغانستان بعد أن يتخلص من حكم الموالين للسوفييت، ولمواجهة قوات الشمال من المجاهدين في أفغانستان التي كانت لها علاقات مع دول الجوار الأفغاني تزاحم النفوذ الباكستاني، وباكستان وأيوب خان بذاته يعتبران أن دور باكستان أساسي في تخليص أفغانستان من الشيوعيين، لذا يجب أن تكون العلاقات الباكستانية الأفغانية أقوى وأهم من العلاقة مع الهند وإيران اللتين أقامتا علاقات مع فصائل المجاهدين الأفغان وبالذات مع مجاهدي الشمال. نعلم أن طالبان أخذت بالتوسع حتى سيطرت على عموم أفغانستان، وحكمتها حتى بعد مقتل الرئيس الباكستاني الداعم، فبعد أن فقدت دعم باكستان «العلني» إذ تذكر كثير من المصادر أن المخابرات الباكستانية ظلت تدعم طالبان حتى بعد إزاحتها عن حكم أفغانستان، ولتعويض الدعم الباكستاني العلني، عقدت طالبان تحالفاً مع القاعدة، إذ وجدت القاعدة بزعامة أسامة بن لادن أن حكم القاعدة لأفغانستان يوفر لهم مكاناً آمناً، وهكذا بايع بن لادن الملا عمر أمير دولة طالبان الأفغانية، وبعد أن تشاركا حكم الإمارة الإسلامية في أفغانستان تشاركا نفس المصير بعد إزاحتهما من حكم أفغانستان، حيث قتل الأول ولا يزال الثاني مطارداً.
هذا الإيجاز عن إنشاء طالبان أوردناه لإظهار التشابه بين إنشاء تلك الحركة الإرهابية، وتنظيم دولة العراق والشام الإسلامية، فهناك كثير من التشابه بطريقة الإنشاء والدور المطلوب القيام به، ومثلما تكفلت المخابرات الباكستانية بإنشاء طالبان، قامت المخابرات السورية بإنشاء تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية «داعش» ومثلما تعاني باكستان الآن من تبعات احتضان طالبان ستعاني سورية والعراق من تبعات إنشاء هذا الفصيل الإرهابي المسلح. المخابرات السورية دعت هذا التنظيم وكما أوضحنا أمس قبل بدء الثورة الشعبية السورية، وكانت تنشئ فصائل إرهابية ذات صبغة «إسلامية» ولها روابط بالتنظيم الإرهابي العالمي «القاعدة» وكانت تلك الفصائل تسند إليها أدوار في دول الجوار كالعمليات الإرهابية التي تم تنفيذها في العراق ولبنان، وقد استفادت المخابرات السورية من الفوضى الأمنية في العراق ولبنان وسيطرت الأجهزة الإيرانية، سواء عبر فيلق القدس أو أجهزة المخابرات الإيرانية، وقامت بتحويل العراق ولبنان كحاضنين لهذه التنظيمات الإرهابية، حيث كان يتم تهريب وإرسال المقاتلين إلى معسكرات خاصة وتدريبهم وتكوين فصائل مقاتلة تحت مسميات إسلامية. مقاتلون يتبنون نظرية «الجهاد» وبقناعة غيبة مطلقة، إلا أن القيادة والتمويل لعناصر مخابراتية إيرانية وسورية، وفي العامين الماضيين انضمت لهم المخابرات العراقية. وهكذا، عندما حانت اللحظة المطلوبة تم توظيف هذا التنظيم الإرهابي لدعم مزاعم النظام السوري بأن الثوار مجموعات من الإرهابيين، كما أن هذا التنظيم الذي اعتمد على من كانوا معتقلين في المعتقلات السورية 800 مقاتل دعموا بألف مقاتل جرى تهريبهم من سجون المالكي في التاجي ومعهم عدد من المقاتلين الذين كانوا يتنقلون بين الأراضي العراقية والسورية، وبالذات «الجزيرة»، وكونوا ما يسمى بدولة العراق والشام الإسلامية وأمروا عليهم أبوبكر البغدادي، وهذا ما أغضب عناصر القاعدة من السوريين الذين كانوا قد شكلوا فصيلاً أسموه «جبهة النصرة» وأمروا عليهم أبومحمد الجولاني، وهؤلاء أكثر ارتباطاً بالقاعدة وتشكك بعلاقة تنظيم العراق والشام الإسلامية «داعش» ويتهمونها بأنها صنيعة المخابرات السورية. هذان الفصيلان ذوا الجذور القاعدية، أربك المشهد على الأرض السورية، فبالإضافة إلى دعم الادعاءات التي يروجها النظام بأن ما يحصل هو عمل إرهابي لمتشددين من القاعدة، بدأ تنظيم العراقالشام يزاحم الجيش السوري الحر، بل ويخوض معارك ضده مما سيشكل ليس إلهاءً للجيش السوري الحر وإشغاله عن دوره في تحرير الشعب السوري، بل وحتى إضعافه وتهميشه مثلما فعلت طالبان مع قوات الشمال للمجاهدين الأفغان، مما أتاح للقادمين مع الغزو الأمريكي لأفغانستان على استلاب السلطة، وهو ما سوف يتم في سورية إن لم يعالج سرطان «داعش».