تطور موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين والعلامة الحلي
1- ملاحظات على تشكل الدول بعد انهيار المغول
1 ـ كان فقدان المغول للسلطان أكبر ضربة تلقوها بعد جنكيز وهولاكو ، فقد سبَّبَتْ انقسامهم وصراعهم على السلطة ! وحرَّكت الزعماء المحليين في البلاد فانتفضوا على القواعد العسكرية المغولية وطردوهم من بلادهم أو أخضعوهم ! وصار بعضهم مواطنين عاديين أو جنوداً تحت إمرة الزعماء المحليين ، وقليل منهم رجع الى منغوليا ومنطقتها .ولم يبق من المغول لاعبٌ في الصراع على السلطة إلا الإيلخانيون في بغداد وتيمور لنك وأولاده وأحفاده في شرق إيران ، لكن هؤلاء كانوا يصارعون بصفتهم مسلمين شيعة ، ووارثين للمغول في نفس الوقت !2 - أخذ انهيار عهد المغول أشكالاً متعددة ، فبعض البلاد بادر زعماؤها المحليون الى السيطرة وطرد الحامية المغولية كما في البلاد الصغيرة ، وبعضها احتاج الى مدة ومعارك كرٍّ وفرٍّ بين القوى الجديدة والقديمة ، كما في بعض ممالك إيران ، أما تركيا فواصل الزعماء العثمانيون توسيع مملكتهم بالممالك المجاورة ، وعزلوا الحامية المغولية في مدينة سيواس الأناضولية .3- يلاحظ أن السلطانية عاصمة المغول انتهت بعد وفاة بو سعيد ، وصارت العاصمة بدلها تبريز وبغداد وهراة ، وأن الدول التي تشكلت في العراق وإيران وتركيا كانت شيعية محضة ، أو منفتحة على التشيع ، ومنها دولة العثمانيين التي كان يغلب عليها التشيع الى إمارة با يزيد العثماني .4- كانت مصر هدفاً لغزو المغول في زمن هولاكو، وفي عهد ابنه قازان ، ثم في زمن تيمور لنك ، وقد احتلوا دمشق مقدمة لغزو مصر ، لكن الله تعالى شاء أن تنجو منهم مصر ، وأن يتراجع هولاكو وتيمور عن غزوها ، وأن ينهزم السلطان قازان في معركة عين جالوت على يد الأمير قطز المملوكي ! ومن الطبيعي أن يسبب ذلك العداء الشديد بين المغول والمماليك ، حتى كان بينهم احتكاكات عسكرية كثيرة في أطراف العراق ومصر وتركيا ، وحتى في داخل مصر ، وفيما وراء النهر ، خاصة بخارى !ونتج عن ذلك أنه في مقابل تبني المغول للتشيع ، تبنى المماليك الخلافة العباسية وجاؤوا بشخص عباسي ونصبوه خليفةً شكلياً ، ولم يكن يسمع به أحد إلا في مناسباتٍ التشريفات ، واستمروا على ذلك حتى سقط حكمهم بيد العثمانيين سنة923. كما جمع المماليك رموز المتعصبين المعادين للمغول وللشيعة واستعملوهم للدعاية الواسعة والتحريك ضد المغول وضد المذهب الشيعي ! واستطاعوا بذلك أن يحدثوا موجة تعصب في عوامهم ضد الشيعة والتشيع ، وكان من أبرز من سخَّروه لذلك عبد الحليم بن تيمية ، الذي رد على مذهب الشيعة في كتابه الذي سماه (الرد على الرافضي) وسموه بعده منهاج السنة ، قد كفَّرَ فيه الشيعة واتهمهم بأنهم هم الذين جاؤوا بالمغول ! فساند بذلك حملة المماليك ضدهم في بلاد الشام حتى هاجموا مناطقهم وهي بعلبك وكسروان وجبل عامل ! مع أن ابن تيمية نفسه كان اعترف بإسلام السلطان قازان عندما احتل دمشق وجاءه مع وفد علماء دمشق وخطب معلناً له الطاعة وخطبوا باسمه كسلطان المسلمين في خطب الجمعة !5- يتعمد أكثر المؤرخين أن يغيِّبوا عن قرائهم وأنفسهم أهم الأدوات في فهم الأحداث وصراع القوى في تاريخنا الإسلامي، وخاصة فترة المغول ! وهي أن الصراع كان مذهبياً بين الشيعة ومن معهم من السلاطين وجهاز الدولة ، وبين بقايا الخلافة في الشام ، وبعض سلاطين المماليك الشراكسة حكام مصر الذين كانوا يتعصبون للمذهب السني ! فبدون فهم عامل الصراع المذهبي لايستطيع الباحث أن يفهم مجرى الصراع السياسي في تلك المرحلة !نعم ، توجد عوامل أخرى مؤثرة في الأحداث ومن أهمها العامل القومي والإقليمي، والصراع على السلطة حتى بين السنة أنفسهم أو الشيعة أنفسهم ، لكن العامل المذهبي كان وما زال الى يومنا في طليعة هذه العوامل .6- تَمَحْوَرَ الخلاف السني الشيعي حول وجوب اتِّباع الصحابة ، أو اتِّباع أهل البيت عليهم السلام . ولبُّه حول موقف الشيعة من أبي بكر وعمر ، فقد جعله السنيون المقياس الشعبي والرسمي والعقائدي والسياسي من الشيعة !فالشيعة مُصِرِّون على أن المسلمين مكلفون باتِّباع أهل البيت عليهم السلام دون غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وآله أوصى بالثقلين القرآن والعترة ولم يوص باتِّباع الصحابة ، فالمسلم حرٌّ في أن يعتقد فيهم ما يصل اليه علمه ، ومنهم أبو بكر وعمر !والسنيون مصرِّون على وجوب اتباع الصحابة خاصة أبي بكر وعمر ، وقد جعلوا ولايتهما أول ركن في الإسلام ، وجعلوا المساس بهما كفراً يوجب خروج صاحبه من الدين ، وهدْر دمه واستباحة عرضه وماله !كان هذا في كل مراحل التاريخ وما زال في عصرنا ، فباستطاعتك أن تلمسه عند من شئت من علماء السنيين وحكامهم وحركاتهم الدينية ! أو تقرأ فتاوى الوهابية في الشيعة ، وتنظر الى تنفيذها بفعل الزرقاوي وأتباعه في العراق !ومن أدلة ذلك في موضوعنا ما أحدثه مرسوم السلطان خدابنده من غضب واستنفار في السنيين المتعصبين ، خاصة من مُجَسِّمة الحنابلة في بغداد ودمشق مركز الفكر الأموي ، كما ترى في أشدهم تعصباً عبد الحليم بن تيمية .كل هذا مع أن مرسوم خدابنده لم يكن أكثر من حذف أمر أضافه وابتدعه المنصور العباسي كما عرفت !7- قد يكون وراء مدح أتباع الخلافة لابن خدابنده السلطان أبي سعيد وقائده جوبان وقولهم إنه تاب عن فعل أبيه ، وأمر أن يُذكر في خطبة الجمعة إسم أبي بكر وعمر.. أن وزيره جوبان حاكم تركيا تساهل في ذلك ، فكانوا يطمعون في نجاح عملهم لتراجع السلطان بو سعيد رسمياً عن مذهب أبيه رحمه الله!4- كان المد الشيعي الذي أحدثه نصير الدين الطوسي قدس سره مداً قوياً نتج عنه تشيع عدد من سلاطين المغول وقسم من جنودهم ، وبلغ أوجه على يد تلميذه العلامة الحلي قدس سره وإعلان السلطان خدابنده تشيعه رسمياً ، وإصداره المراسيم لمصلحة أهل البيت عليهم السلام ونشرمذهبهم في العالم الإسلامي .وقد ساعد على نجاح هذه المد الشيعي أنه لم ينشأ من فراغ ، بل كان وريثاً لعدة موجات شيعية بدأت بولاية الإمام الرضا قدس سره في القرن الثاني ، ثم موجة الفاطميين والبويهيين في القرن الثالث والرابع والخامس .كما ساعد على نجاحه أن الحكم المغولي طبق بتوجيه نصير الدين والعلامة الحلي سياسة مذهب أهل البيت عليهم السلام في الحريات المذهبية والعامة ، وفي الإعمار والخدمات ، وحقق إنجازات موفقة .لكنَّ لكل شئ وقتاً ومدىً، فقد ضعفت مركزية المغول بعد السلطان خدابنده حتى على بعض قادته وجنوده ! ومن أمثلة ذلك أن القائد المغولي جوبان فرض سيطرته على البلاط والسلطان الصغير ، الأمر الذي أوجب أن يترك العلامة الحلي عاصمتهم ، ثم حصل الإنهيار الواسع بموت السلطان بو سعيد .8- كان العامل المذهبي مؤثراً في كل تلك الأحداث والتحولات التي نتج عنها تَشَكُّلُ دول جديدة ، بل كان أحياناً العامل الأول قبل العامل القومي والصراع على السلطة . ولهذا نجد أن العراقيين الذين يغلب عليهم التشيع لم يطرحوا أحداً منهم لقيادة البلد ، بل قبلوا بحكم المغول ورثة السلطان بو سعيد رغم صراعاتهم فحكم العراق عدة ملوك منهم لمدة طويلة زادت عن قرنين !ومع أن العراق كان فيه أقلية سنية متعصبة ، والمفروض أن تمثل خط الخلافة ، وأشدهم حنابلة بغداد، لكنهم لم يتحركوا ولم يتصدوا لقيادة للعراق ، ورضوا بحكم ذرية هولاكو الشيعة ، وكانوا يعملون للتأثير عليهم ، ويقيمون العلاقات المذهبية القوية مع سنة دمشق ومماليك مصر . وهذا يدل على ضعف الوجود السني في بغداد والعراق من جهة ، وعدم جاذبية طرح الخلافة من جهة أخرى ! ولذلك بقي العراق موحداً تحت حكم الملوك المغول الشيعة مع ولايات من إيران يغلب عليها التشيع كالأهواز وتبريز وهمدان وغيرها ، حتى نشأت الدولة الشيعية الصفوية في إيران فوحدتها بسهولة تحت سلطانها.9- نجح العثمانيون وهم مغول من أولاد عثمان جُق فوسعوا مملكتهم في ظل حكم المغول وغزوا الممالك المسيحية المجاورة للقسطنطينية وممالك في أوروبا الشرقية، حتى صاروا عند موت بو سعيد ملوك دولة كبيرة قوية رغم صراعهم الدموي فيما بينهم ، وعزلوا حامية المغول التي كانت تتمركز في مدينة سيواس في الأناضول ، حتى جاء تيمور لنك فاحتل بلادهم وأسر ملكهم بايزيد بعد معركة طاحنة قرب أنقرة سنة804 ، ومع ذلك استعادوا قوتهم بعده وأنهوا الوجود المغولي في بلادهم .10- احتاجت عملية تَشَكُّل الأمة بعد المغول واستيعاب موجتهم الثالثة الى نحو قرن من الزمان ! نتج عنها ولادة الدولة العثمانية والصفوية . أما دولة المماليك فقد شاء الله أن تبقى خارج حكم المغول حتى احتلها السلطان سليم العثماني سنة923.11- يسأل بعضهم: لماذا المماليك والمغول.. وأين العرب؟ وجوابه أن العرب كانوا استنفذوا مخزونهم العسكري ، وهذا بعض التفصيل:قرأتُ أن أحدهم كان يمدح البابا أمام ملك أوروبي ، فسأله الملك: كم فرقة من الجيش يملك البابا؟! وسمعت من معاصرين أنه عندما احتل الإنكليز العراق وهزموا الجيش العثماني ومعه مجاهدي القبائل الشيعية وعلماءهم ، واحتلوا بغداد ودخلوا النجف الأشرف ، قبضوا على مئات الناس وأعدموا فرسان الثورة الشعبية في النجف الذين يسمونهم كاظم صبي وجماعته رحمهم الله . ثم أخذ الضابط الإنكليزي يحاكم المعتقلين ، فأتوا له بالعالم الخطيب الزاهد الشيخ محمد علي الخراساني قدس سره فدخل الشيخ المحكمة وهو يحمل سبحته ويردد وِرْدَهُ اليومي: (اللهم العن الإنكليز.. اللهم العن الإنكليز) ولم يسلم على الضابط وجلس ! فسأل الضابط المترجم: ماذا يقرأ هذاالشيخ ؟ فأخبره ، فسأل: هل هو مرجع؟ قالوا: لا ، هو خطيب واعظ . فسأل: هل عنده قبيلة أومسلحون؟ قالوا: لا . قال: أطلقوا سراحه لا شئ عليه .هاتان القصتان فيهما تبسيط لتأثير الشخصيات على المجتمعات ، لكنهما من جهة أخرى تركزان على أن العامل الحاسم في الصراعات السياسية عبر التاريخ هو القوة المسلحة ، فقد كان لها الكلمة الفصل في صناعة الأحداث ، وكان تأثير كل أمة وشعب بقدر ما يملك من قوة قتالية .لذا كان من الضروري فهم منابع القوة العسكرية ومقوماتها، من العدد الكافي وطاعة الجنود ، والشجاعة والمهارة القتالية ، والتمويل..الخ.ويظهر أن هذا الأمر كان سبباً في تركيز النبي صلى الله عليه وآله على جذب اليمن للإسلام فاليمن هي مخزون العرب المقاتل ، لوجود العدد والطاعة في أهلها .إن قبائل الجزيرة فيها مقومات البدء بالإنطلاق لتحقيق أهداف النبوة فقط ، لكنها لا تكفي لاستمرار المسيرة المطلوبة بدون مخزون اليمن .وفي مرحلة لاحقة ، وبعد فتح المسلمين العرب للمناطق المحيطة بهم ، وهي العراق وإيران والشام ومصر ، استهلكت القوة العسكرية العربية ، ومنها القوة اليمانية التي كان لها الدور الأول في الفتوحات ، لانشغالهم بإدارة البلاد التي فتحوها وتأثير الرفاهية عليهم وعلى أولادهم ، فكان لابد من دخول مخزون مقاتل جديد هو مخزون خراسان ، المنطقة ذات الكثافية السكانية الأولى في إيران ، والتي يتوفر فيها العدد والطاعة والمهارة القتالية .ولذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله بدور مخزون خراسان واليمن في حركة المهدي عليه السلام في المستقبل ، كما أخبر وصيه أمير المؤمنين عليه السلام بأن العباسيين سيستغلون حديث النبي صلى الله عليه وآله عن مخزون خراسان وراياتها السود ، وأنه ملكهم سنتهي بموجة المغول من جهة خراسان، فقال: (ملك بني العباس عُسْرٌ لا يُسْرَ فيه ، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والسند والهند والبربر والطيلسان لن يزيلوه، ولايزالون في غضارة من ملكهم حتى يشذ عنهم مواليهم وأصحاب ألويتهم، ويسلط الله عليهم علجاً يخرج من حيث بدأ ملكهم لايمر بمدينة إلا فتحها ولاترفع له راية إلا هدها ولا نعمة إلا أزالها).(غيبة النعماني/258). ومعناه أن مخزون المغول الآتي بعد قرون سينهي ملك بني عباس ، ويكون ككاسحة صخور ضخمة لا يقف أمامها المشاة! فقصة المغول أن منطقتهم ذات مخزون مقاتل مطيع أكثر من غيرها، وقد هاجموا بلاداً ضعف مخزونها المقاتل بسوء تصرف قادتها وترفهم!وقصة المماليك عجز النظام العباسي عن تجنيد مقاتلين من العرب ماهرين مطيعين ، لسد حاجته في حماية الخليفة وعاصمته وبلاده من العدو ، فقرر أن يستورد مقاتلين من مخازن شعوب أخرى ، وأخذ الخليفة يشتري الفتيان اسواق القوقاز ومنغوليا وتركيا وغيرها ! وصارت تجارة الرقيق والعبيد أهم تجارة بين عاصمة الخلافة وأقاصي الأرض ، ونشأت (مافيا)سرقة الناس لبيعهم في عاصمة الخلافة ، وقد نقلوا أن التركمان الغُزّ سرقوا جماعة كان فيهم طالب علم فكانوا في طريقهم يَحُلُّون وثاقه وقت الصلاة ليصلي بهم إماماً ! فاعتنم الفرصة وسألهم يوماً: هل يجوز بيع القرآن ؟ قالوا: لا ، فقال: إن الإمام كالقرآن فلايجوز لكم بيعي فأطلقوني ! فتشاوروا مع رئيسهم ثم قالوا له: هل يجوز إهداء القرآن؟ قال نعم. قالوا: أنت كالقرآن لانبيعك بيعاً بل نهديك هديةً !وقد بلغ من كثرة المماليك وأذاهم في بغداد ، أن الناس ضجوا وأجبروا الخليفة المعتصم أن يبني له ولمرتزقته عاصمة جديدة ، فبنى سامراء !ثم انتقلت (ثقافة)الخلافة هذه الى مصر وبقية البلاد فاستكثر صلاح الدين من المماليك الشراكسة القوقازيين والمغول حتى صاروا مجتمعاً ، وسيطروا على الحاكم ثم على البلد ، ونصبوا أنفسهم حكاماً لأكثر من ثلاث مئة سنة حتى احتل العثمايون مصر ودخلها سلطانهم سليم في سنة923 ، وألحقها بدولته .2- التشكل السياسي والفكري الجديد لبغداد والعراق
يمكنك أن تعرف تأثير موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين والعلامة الحلي رضوان الله عليهما ، في بغداد ، من الصورة الخيالية التي يقدمها أتباع الخلافة ، ومن الواقع الذي اختارته بغداد ، بعد انهيار مركزية دولة المغول !فقد صور رواة الخلافة أن المغول احتلوا بغداد بمساعدة الشيعة ، وأنهم فرضوا على أهل بغداد والسنة في العراق حكماً شيعياً ، ثم فرضوا عليهم المذهب الشيعي ومنعوا ذكر أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة . وزعموا أن السنيين ثاروا في بغداد ! وقد تقدم قولهم لابن بطوطة إن الحنابلة في محلة باب الأزج خرجوا في اثني عشر ألف مقاتل مستنكرين مرسوم السلطان محمد خدابنده في حذف إسم أبي بكر وعمر من الأذان !ولم تمض مدة حتى انكشفت هذه الأكاذيب ، فقد شاء الله تعالى أن ينهار حكم المغول بعد هذا التاريخ بقليل بموت السلطان بو سعيد بن خدابنده ، فأين كان السنة ، والإثنا عشر ألف مقاتل من محلة باب الأزج وحدها ؟بل لماذا لم يظهر من مجموع السنة أتباع الخلافة في العراق عشرة آلاف مقاتل ليحسموا الأمر ويطردوا بقية المغول ويعيدوا الخلافة؟!ولماذا اختار أهل العراق حاكماً من المغول الشيعة؟أو رضوا به ولم يقاوموه؟الجواب: أن بغداد طلقت الخلافة العباسية بالثلاث غير آسفة عليها ، فعندما جاءت موجة الثقافية الشيعية ونمط الحكم الحيوي الذي قدمه التشيع في الحرية والبناء ، تغيرت آراء الناس فلم يعد يتعصب لخلافة بني العباس أحد ، ولم يعد يعادي مذهب أهل البيت عليهم السلام أحد ، اللهم إلا الشاذ النادر ، وصار الناس سنة وشيعة يفضلون نمط حكم الشيعة ! لذلك تراهم بعد انهيار المغول في العالم ، اختاروا ملوكاً من الإيلخانيين المغول الشيعة ، أو رضوا بهم .أما الحفنة المتعصبة لخلافة بني عباس فليس أمامهم إلا السكوت ، لأنهم إن رفعوا راية الخلافة لم يجدوا من يقبلهم حتى من أقاربهم !هذا هو السبب في أنك تقرأ في القرن الثامن والتاسع التفاف البغداديين والعراقيين عموماً حول الحكام الإيلخانيين الشيعة ، ووقوفهم معهم أمام الغزو الخارجي ، سواء كان من المغول كتيمور ، أو من الفرس أو الترك .وهذا يعني أن الناس صاروا يفضلون نمط الحكم الشيعي في الحرية والإعمار ، وأن هؤلاء الحكام صاروا عراقيين يشعر الناس أنهم منهم ولهم ، وقد تقدم الحديث عن سياستهم الموفقة .3- تشكل الدول الشيعية وشبه الشيعية في إيران
كثرة الأحاديث السُّنِّية في مدح الإيرانيين
تكثر الأحاديث الصحيحة في مصادر السنيين في مدح الفرس ! ومنها ما يفضلهم على العرب ! وسببه أن الفرس كانوا القوة العسكرية والفكرية للسلطة العباسية وهم الذين أسسوا لها المذاهب في مقابل مذهب أهل البيت عليهم السلام ، ودونوا لها المصادر .من ذلك ما رواه أبو نعيم في كتاب ذكر أصفهان/12، بطرق منها أبي بكر أن النبي قال: إني رأيت الليلة كأن غنماً سوداً تتبعني ، ثم أردفها غنم بيض، حتى لم أرَ السود فيها ! فقال أبو بكر: هذه الغنم السود العرب تتبعك ، وهذه الغنم البيض هي العجم تتبعك فتكثر حتى لاترى العرب فيها ! فقال رسول الله: صلى الله عليه وآله هكذا عَبَّرها الملَك . وعن أبي هريرة قال: ذكرت الموالي أو الأعاجم عند رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: والله لأنا أوثق بهم منكم) ! وحديث: (لو كان العالم والإيمان في الثريا)..وفي مسند أحمد/417 ، عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وآله إذ نزلت عليه سورة الجمعة ، فلما قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه صلى الله عليه وآله حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً ، وفينا سلمان الفارسي قال: فوضع النبي صلى الله عليه وآله يده على سلمان وقال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). ورووه بطرق ومصادر كثيرة تبلغ صفحات !وحديث: (ضحكت من ناس يؤتى بهم من قبل المشرق يساقون إلى الجنة يساقون الى الجنة) ، رواه أحمد:5/338 والروياني/202 ، والطبراني الكبير:6/157، وغيرهما .وحديث الضياطرة..رواه في شرح النهج:20/284، قال:جاء الأشعث إليه(إلى علي عليه السلام) فجعل يتخطى الرقاب حتى قَرُب منه ، ثم قال له: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحَمْراء على قربك ، يعني العجم ، فركض المنبر برجله حتى قال صعصعة بن صوحان: ما لنا وللأشعث ! ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لايزال يذكر . فقال عليه السلام: من عذيري من هؤلاء الضياطرة ، يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار ، ويهجر قوماً للذكر ! أفتأمرني أن أطردهم؟! ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين . أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ليضربنكم على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً).انتهى.وكلها تدل على أن للإيرانيين دوراً مميزاً في نصرة الإمام المهدي عليه السلام ، وقد وثقنا ذلك الفصل(23) من معجم الإمام المهدي عليه السلام.إيران مخزن جنود ومخزن علمي للعباسيين
مضافاً الى المخزون العسكري الذي استطاع القادة الخراسانيون أن يشكلوا منه جيشاً يثور على الحكام الأمويين ويسيطر على خراسان ، ثم على بقية إيران ، ثم يتجه الى العراق والشام ويقضي على قوات الأمويين ، ثم على قوة الحسنيين التي بلغت سبعين ألف مقاتل !فقد كان مخزون الإستعداد العلمي لايقل عن الجيش لخدمة الدولة العباسية ! فعندما رأى المنصور العباسي أن أئمة أهل البيت عليهم السلام من العلويين هم المرجعية العلمية للأمة ، فكَّر أن يؤسس في مقابلهم مرجعية وينشئ مذاهب ! فلجأ الى مالك بن أنس مولى بني الأصبح فقال له: (إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة قال مالك فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ)! (تاريخ ابن خلدون:1/17 ، وفي الديباج لابن فرحون/25، (وفي رواية عن مالك فقلت له ان أهل العراق لا يرضون علمنا فقال أبو جعفر نضرب عليه عامتهم بالسيف ونقطع عليه ظهورهم بالسياط) ! ونحو ذلك الجرح والتعديل:1/12، وتاريخ الذهبي:11/321 ، وتقريب المسالك لعياض/123 . راجع محاولتهم لجعل مالك عربياً وطعن الأئمة والنسابين في نسبه: التمهيد لابن عبد البر:1/89 ، وفي/91: (أمه العالية بنت شريك بن عبد الرحمان بن شريك من الأزد وحملت به سنتين وقيل ثلاث سنين) وتاريخ بخاري الصغير:2/30، و200، ومشاهير ابن حبان/223، والتعديل والتجريح لابن خلف:3/1244 ، وإكمال الكمال:1/98 ، وسير الذهبي:8/70، وتهذيب التهذيب:3/403 ، ومعجم المؤلفين لكحالة:8/168، وأنساب السمعاني:1/174 .ثم كان المذهب الثاني في عهد ولده هارون الرشيد باسم أبي حنيفة على يد تلميذه القاضي أبي يوسف وهما فارسيان .ثم المذهب الثالث في عهد المعتصم على يد الشافعي وهو فارسي مولى قريش .والمذهب الرابع في عهد المتوكل على يد أحمد بن حنبل وهو فارسي مولى بني شيبان .فأئمة المذاهب كلهم من المخزون الإيراني، وكذلك كبار أئمتهم المؤلفين لمصادر هذه المذاهب . ويكفي أن تقرأ فقه أي مذهب سني وتفحص أسماء علمائه ورواته ، أو عقائده ، أو تفسيره...الخ. لترى أن القسم الأكبر منهم إيرانيون !ويبدو أن هذا هو السبب الذي جعل بعض الباحثين وبعض المتعصبين في عصرنا يقول: إن إيران كانت كلها قبل الصفوين سنية ، فأجبروها على التشيع ! فهم يرون أن كل ما عند المذاهب أو جله من الإيرانيين ، فيتصورون أن إيران كانت كلها سنة !إيران مخزن إعلامي لأهل البيت عليهم السلام
وقد عبرنا بمخزن إعلامي لأن العلماء الإيرانيين السنة تغلب عليهم صفة الإبتكار لمذاهبهم والعمل بالرأي ، بينما الشيعة منهم يغلب عليهم التلقي عن أهل البيت عليهم السلام ، وابتكارهم إنما هو في التبليغ ، وليس عندهم عمل بالرأي .والتشيع في إيران قديم من مطلع الإسلام ابتدأه بفعالية سلمان الفارسي رحمه الله.وينبغي أن نشير هنا الى اشتباه وقع فيه بعض الذين أرخوا للتشيع وأرادوا أن يردوا عنه تهمة أنه مذهب فارسي ، فتراهم يقررون أن التشيع عربي النشأة والموطن من المدينة المنورة الى اليمن والكوفة والشام والعالم ، ويستشهدون بنماذج وبمفردات تعصب ضد الشيعة والتشيع من الإيرانيين ، وكل هذا صحيح لكن الخطأ فيما يوحي من كلامهم بأن إيران لم تعرف التشيع إلا متأخراً . ولا يتسع المجال لأن نسرد المفردات التي ترد ذلك ، لكنا نلخص شريط التشيع في إيران بأن سلمان الفارسي رحمه الله غرس بذرته المباركة عندما قام بدوره الواسع في فتح إيران، ثم في حكمه لها سنين من المدائن عاصمة كسرى ، ومعه كبار الصحابة من شيعة علي رحمه الله كحذيفة وعمار والعشرات من شخصيات الشيعة وفرسانهم ممن شاركوا في فتح العراق وإيران وعملوا فيها ، وبلغوا الدين ، وعلموا القرآن ، وحدثوا الإيرانيين .ثم نصل الى عهد أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه من الإيرانيين الذين كانوا يلتفون حول منبره في الكوفة حتى جاء الأشعث بن قيس وأراد أن يجلس قرب المنبر فلم يجد مكاناً فقال كما تقدم: (يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحَمْراء على قربك ، يعني العجم...الخ.) .ثم نصل الى أصحاب الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فنجد كثرة من أصحابهم من مناطق إيران المختلفة ومدنها العديدة ، كما نجد العديد منهم من كابل وبلخ وبخارى وسمرقند والشيشان والكرج أي جورجيا ومدن آذربيجان وتركيا .من نماذج ذلك ما رواه الكشي:2/866: عن ( محمد بن جعفر بن إبراهيم الهمداني ، وكان إبراهيم وكيلاً ، وكان حج أربعين حجة، قال: أدركت بنتٌ لمحمد بن إبراهيم بن محمد فوصف جمالها وكمالها ، وخطبها أجلة الناس فأبى أن يزوجها من أحد ، فأخرجها معه إلى الحج ، فحملها إلى أبي الحسن عليه السلام ووصف له هيأتها وجمالها وقال: إني إنما حبستها عليك تخدمك ، قال: قد قبلتها فاحملها معك إلى الحج وارجع من طريق المدينة ، فلما بلغ المدينة راجعاً ماتت ! فقال له أبو الحسن صلوات الله عليه: بنتك زوجتي في الجنة يا بن إبراهيم) .ثم نصل الى ثورة التوابين وبعدها ثورة المختار للأخذ بثار الحسين عليه السلام فنرى كثرة الإيرانيين المشاركين فيها ، حتى سماهم إعلام السلطة الكيسانية نسبة الى كيسان الفارسي الذي كان من أصحاب المختار الخاصين .ثم نصل الى عصر الإمام الباقر عليه السلام وتأسيس الأشعريين الشيعة لقم وانتقال العلماء والرواة المضطهدين في الكوفة اليها ، وسرعة عمرانها وامتلائها بالشيعة ونشاطهم لنشر التشيع في إيران .ثم نصل الى مجئ الإمام الرضا عليه السلام الى إيران ، والهزة العميقة التي أحدثها في عقيدة الإيرانيين وأفكارهم ، والتلاميذ الذين تخرجوا عليه ، وتأثروا به .ثم نصل الى دولة الشيعة الزيديين في شمال إيران التي دامت أكثر من قرن .ثم نصل الى حركة البويهيين وكانوا سياسيين طالبين للملك ، لكنهم كانوا مع أكثرية جنودهم شيعة ، وسيطروا على إيران ، ثم احتلوا العراق وفرضوا على الخلافة العباسية الإعتراف بسلطانهم وحقه في تعيين الخليفة وعزله !ومع تحفظنا على سلوك البويهيين وسياستهم ، لكن حركتهم تدل على أرضية واسعة للتشيع في إيران ، استغلها البويهيون لتجنيد الجنود وخوض المعارك والوصول الى الحكم ، وكانت بالنتيجة موجة شيعية حققت نجاحاً سياسياً فريداً ، وضاعفت من اتساع التشيع في إيران وغيرها .ثم نصل الى موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين الطوسي قدس سره بعد سقوط الخلافة والتي كانت استثماراً لمخزون التشيع الماضي في إيران ، وإطلاقاً لموجة تشيع جديدة وجدت أرضية فاستوعبت إيران كلها .تأثير موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين على إيران
يدل اتخاذ هولاكو عاصمة له قرب قزوين ، على أنه كان يرى في إيران منطقة متوسطة ، وأن محيطها الثقافي يلائم المغول ، الذين يميلون الى الثقافة الفارسية لأنها تنتشر في منطقة بخارى وسمرقند ، والقبائل المجاورة للمغول .ثم إن منطقة قزوين قريبة من بغداد وبلاد العرب، كما أنها تتوسط القبائل التركية الكبيرة التي تمتد الى القوقاز وتركيا الفعلية، وكان إسمها بلاد الروم .وكان هولاكو وسلاطين المغول يعرفون الفارسية ويقرؤون ويستكتبون بها ، ولعلها كانت اللغة الأولى في بلاط السلطان وعاصمته ، أو اللغة الثانية الى جنب العربية . ودام الأمر على هذه الحال أكثر من قرن !وقد كان لهذه الموجة المغولية سياسياً ، والشيعية ثقافياً ، تأثيرٌ كبيرٌ في الشعوب الإسلامية البعيدة ، فكيف بأهل إيران القريبة ؟!يمكنك أن تأخذ نموذجاً لهذا التأثير ابن الفوطي الذي أخذه المغول غلاماً صغيراً من بغداد وجاؤوا به الى عاصمتهم السلطانية ، فرأى فيه نصير الدين الطوسي قدس سره ملامح النبوغ فوظفه في مكتبة مرصد مراغة القريبة من السلطانية ، وكان ابن الفوطي يحنُّ الى وطنه حتى عاد به الى بغداد حاكمها الجويني .كان ابن الفوطي من عائلة حنبلية فبقي حنبلياً رغم إتقانه الفارسية ، وهو من شيوخ الذهبي ، وقد مدحه الذهبي وغيره ووصفوه بالإمام .وكان تأثير الموجة الثقافية الشيعية عليه كان كبيراً ، فقد تخلى عن جمود حنابلة بغداد وتعصبهم ، وانفتح على الثقافات والمذاهب ، وقرأ وسمع عن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وأصول مذهبهم وفروعه ، بل درس كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة على مؤلفه الكاتب الإربلي رحمه الله ، فاحترم الأئمة عليهم السلام واعتقد بمكانة رفيعة لهم ، وظهر اعتداله في مؤلفاته ، حتى عده بعض علمائنا شيعياً كصاحبي الأعيان والذريعة.هذا التأثير على مثل ابن الفوطي ، يدلنا على الحالة الثقافية والشعبية في العراق وإيران ، وعلى أن أصول التشيع وكثيراً من مفاهيمه وصلت الى أنحاء إيران ، وكان لها احترام واسع بين الناس ، واعتقدها كثير منهم .وهناك عامل مهم آخر ، فقد رأى الجميع أن الخلافة العباسية السنية سقطت لفساد حكوماتها ، وأن التشيع لأهل البيت عليهم السلام ظهر كبديل متكامل كفوء ، وقد كان ذلك أمراً يملأ أذهان العوام والمثقفين والسياسيين على السواء .لذلك ينبغي أن نسجل أن موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين قدس سره كان لها تأثيرٌ خاصٌّ في إيران على مستوى الناس ودخولهم في التشيع ، وعلى مستوى الفكر السياسي ، خاصة أن نصير الدين إيراني يحبه الإيرانيون ويفتخرون به مرجعاً كبيراً وفيلسوفاً نابغاً ، ووزيراً محترماً نافذ الكلمة عند هولاكو وأولاده ، وقد كتب لهم وللمغول كثيراً من مؤلفاته بالفارسية !وبهذا تعرف كم يفرط في الخطأ أولئك الذين يريدون فصل المسار السياسي وتشكل الدول في إيران بعد انهيار المغول ، عن موجة التشيع التي أحدثها نصير الدين والعلامة الحلي والسلطان محمد خدابنده رحمهم الله .وينبغي الإلتفات الى أن حركة السربداريين نشأت في زمن السلطان بوسعيد وأن حركة الصفويين بدأت بأولاد الشيخ صفي الدين الأردبيلي جد الملوك الصفوية ، وهو معاصر للعلامة الحلي والسلطان خدابنده ، حتى وصلت الى دولة قوية على يد حفيده السلطان إسماعيل الصفوي .4- حركة السربدارية في شرق إيران ضد المغول
يتفق المؤرخون على أن حركة السربدارية في خراسان وشمال إيران ، حركة شعبية ضد الحكم المغولي ، وأنها بدأت في قرية باشتين من ولاية بيهق ، وامتدت الى كيلان في شمال إيران، وشملت شرقاً منطقة طوس وقسماً من بلاد ما وراء النهر ، الى حدود سمرقند .كما يتفقون على أنها حركة شيعية ملتزمة بمذهب أهل البيت عليهم السلام وتطبيق فقهه ، فقد شعر ملكها علي بن المؤيد بالحاجة الى وجود مرجع كبير يفتي ويشرف على القضاء ، فأرسل وزيره القاضي شرف الدين الآوي الى المرجع الشيعي محمد بن مكي قدس سره وهو تلميذ ابن العلامة الحلي قدس سره يطلب منه الحضور الى عاصمتهم ، فاعتذر بسبب أن المماليك فرضوا عليه الإقامة الجبرية في دمشق ، وكتب له متناً فقهياً مختصراً وشاملاً سماه: اللمعة الدمشقية .وهذا يدلنا على أن المخزون العقيدي والسياسي للموجة الشيعية التي أحدثها نصير الدين والعلامة الحلي كان قوياً واسعاً ، له قاعدة شعبية مستعدة لأن تقوم بحركة مسلحة ضد المغول ، حتى لو كان سلطانهم شيعياً بالإسم .ولذلك لم يَنْتَهِ هذا المخزون بضعف المغول وانهيارهم ، بل تابع نموه وظهر بأشكال أخرى في دول شيعية مستقلة، كان أبكرها حركة السربدارية ودولتهم .وقد كتب مؤرخون ماضون ومعاصرون في حركة السربدارية ، ومنهم المستشرق الروسي أي. ب. بتروشفسكي في كتابه: حركة السربدارية في خراسان . كما أخرجت فيلماً يحكي قصة مقاومة المسلمين الإيرانيين للمغول .شرارة ثورة السربدارية:
أوسع من أرخ لهذه الحركة من المصادر العربية ، السيد الأمين في مستدركات أعيان الشيعة:2/177 ، وهذ خلاصة منه ومن غيره:كان في مسجد سبزوار رجل إسمه الشيخ خليفة يقيم في المسجد ويُدَرِّس الطلبة والناس ، وقد التفَّ حوله الناس ، فأراد بعض المتعصبين من علماء السنة منعه من التدريس وزعموا أنه ينشر البدع ودونوا فتوى بوجوب قتله ، وأرسلوها إلى السلطان بو سعيد ، فأرجع الأمر الى علماء المنطقة والحاكم ، فقرر أعداء الشيخ خليفة اغتياله سراً ، ففي يوم22ربيع الأول سنة736 ، تفاجأ الناس عند الفجر بالشيخ خليفة مقتولاً في ساحة المسجد قدس سره!أقول: لا يبعد أن يكون هذا العالم سيداً حسينياً ، وأن يكون قبره هو المعروف بمزار الشيخ خليفة الحسيني في سبزوار ، فقد ورد ذكره في الذريعة:13/164، قال: (شرح تهذيب المنطق للأمير هبة الله الحسيني المعروف بشاه مير... توجد نسخة منه في مكتبة حسينية التسترية في النجف ، كتبت قرب عصر المؤلف ، وهي بخط ميرم بن ميركي بن علاء الدولة فيروز شاه ، كتبها في مزار الشيخ خليفة الحسيني في سبزوار وفرغ من كتابتها في ذي القعدة سنة957...).انتهى.وكان أبرز تلاميذ الشيخ خليفة رحمه الله الشيخ حسن الجوري من قرية جور في نيشابور فرجع بعد شهادةاستاذه وأخذ ينشر تعاليمه في نيشابور فالتف حوله الناس ، وبعث برسالة إلى الأمير محمد بك بن أرغون شاه ، يطلب منه رفع بعض المظالم ، فأرادوا قتله فاختفى متنقلاً في مناطق إيران حتى استطاع الحاكم المغولي أرغون شاه جاني قرباني أن يعتقله في مشهد سنة739 ، فسَجَنه في إحدى قلاع قهستان مدة ثم أطلقه .وفي هذه المدة وقعت حادثة قرية باشتين في بيهق ، كانت شرارة الحرب مع السلطة المغولية ، فقد نزل خمسة من المغول في دار حسين حمزة وحسن حمزة من أهالي قرية باشتين فضيفوهم ، لكنهم طلبوا منهما الخمر والوجه الحسن وأصروا على طلبهم وأساؤوا إليهما ، فقتل البيهقيون المغول الخمسة ، وقالوا: نحافظ على أعراضنا ونحن مستعدون أن نسلم رؤوسنا الى المشنقة ، فسموا (سَرْ بِدار) أي رأس على المشنقة ، وفرَّ صاحبا البيت من وجه السلطة ، وأرسل علاء الدين هندو وزير حاكم خراسان ، الى أهل القرية أن يسلموا الأخوين فامتنعوا ، وتزعم الحركة عبد الرزاق العلوي الحسيني السبزواري بن الخواجة فضل الله الباشتيني ، فغضب الوزير وأرسل مائة جندي لاعتقالهما ، فواجههم عبد الرزاق وهزمهم ، وقصد مركز علاء الدين هندو فهرب مع ثلاثمائة من رجاله إلى أسترآباد فلحقوه وقتلوه في منطقة جرجان ، ثم استولوا على أمواله وتقاسموها بينهم ، وكانوا سبع مائة رجل .ثم سيطروا على مدينة سبزوار وجُوَيْن وأسفرايين وجاجرم وبياراجمند ، وضربوا النقود ، ولما توفي أميرهم عبد الرزاق سنة738 خلفه أخوه وجيه الدين مسعود ، وخاض حروباً مع عسكر المغول من سنة739 إلى سنة745 ، حيث وقعت لهم معركة مع حاكم هرات أرغون شاه جاني قرباني فهزموه وهرب أرغون شاه ، فقويت دولة السربدارية بقيادة وجيه الدين مسعود وتوجيه الشيخ حسن الجوري ، وأرسل الأمير محمد بيك بن الأمير أرغون شاه رسالة إلى الشيخ حسن الجوري يطلب منه عدم مساعدة جماعة السربداريين ، فبعث الشيخ رسالة إلى طوغاي تيمور جاء فيها: يجب على الملك وعلينا أن نطيع الله عز وعلا وأن نعمل حسب آيات القرآن المجيد . وكل من يخالف هذا الأمر يكون متمرداً وعاصياً ، ويجب على الآخرين محاربته والقضاء عليه . إذا عمل الملك حسب ما أمره الله ورسوله صلى الله عليه وآله سنتبعه وفي غير هذه الحالة فالسيف يكون الفاصل بيننا وبينه .ومعنى ذلك أنه اشترط عليهم أن يُلغوا العمل بشريعة اليَاسَة الجنكيزية التي كانت سارية بينهم ، وكانوا يجبون الضرائب بموجبها ! فتوجه طوغاي تيمور خان بعسكره لمحاربة السربدارية وكانت المعركة بينهم في ما زندران ، وكان معسكر السربدارية على نهر كركان من ثلاثة آلاف وسبعمائة رجل ، وقد أرسلوا مبعوثاً الى طوغاي تيمور بطلبون موافقته على العمل بالشريعة لإنهاء الحرب وحقن الدماء ، فأجاب طوغاي: أنتم جماعة من القرويين تريدون التآمر علينا ، ووقع بينهم معركة سنة742 ، انتصر فيها السربدارية وبسطوا سلطتهم على أنحاء خراسان .ثم حشد عليهم ملك هراة معز الدين حسين كرت وكان حليفاً وصديقاً لطوغاي تيمور خان المغولي فكانت معركته معهم في13 صفر سنة743 قرب مدينة زاوه ، وكان النصر حليف السربدارية حتى قتل الشيخ حسن الجوري فأخذهم الرعب وانهزموا ، وأسر ملك هرات كثيراً منهم .وقد روى ابن بطوطة المعاصر لتلك المعركة ما سمعه من المتعصبين أتباع ملك هرات ، فقال في رحلته:1/425: (ومدينة هراة عظيمة كثيرة العمارة ، ولأهلها صلاحٌ وعفافٌ وديانةٌ ، وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة ، وبلدهم طاهر من الفساد . وسلطان هراة هو السلطان المعظم حسين بن السلطان غياث الدين الغوري صاحب الشجاعة المأثورة والتأييد والشجاعة . ظهر له إنجاد الله تعالى وتأييده في موطنين اثنين ما يقضى منه العجب ! أحدهما عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه وكان منتهى أمره حصوله أسيراً في يديه .والموطن الثاني عند ملاقاته بنفسه لمسعود سلطان الرافضة وكان منتهى أمره تبديده وفراره وذهاب ملكه ، وولي السلطان حسين الملك بعد أخيه المعروف بالحافظ وولي بعد أبيه غياث الدين . كان بخراسان رجلان أحدهما يسمى بمسعود والآخر يسمى بمحمد وكان لهما خمسة من الأصحاب وهم من الفُتَّاك ويعرفون بالعراق بالشطار(اللصوص)ويعرفون بخراسان بسرا بداران ، ويعرفون بالعراق بالصقور فاتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب الأموال ، وشاع خبرهم وسكنوا جبلاً منيعاً بمقربة من مدينة بيهق وتسمى أيضاً مدينة سيزار(سبزوار) ، فكانوا يكمنون بالنهار ويخرجون بالليل والعشاء فيضربون على القرى ويقطعون الطرق ويأخذون الأموال ! وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد فكثر عددهم واشتدت شوكتهم وهابهم الناس ، وضربوا على مدينة بيهق فملكوها ثم ملكوا سواها من المدن ، واكتسبوا الأموال وجندوا الجنود وركبوا الخيل ، وتسمى مسعود بالسلطان ، وصار العبيد يفرون عن مواليهم إليه ، فكل عبد فر منهم يعطيه الفرس والمال ، وإن ظهرت له شجاعة أمره على جماعة ، فعظم جيشه واستفحل أمره ، وتمذهب جميعهم بمذهب الرفض وطمحوا إلى استئصال أهل السنة بخراسان ، وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضية ، وكان بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحسن وهو عندهم من الصلحاء فوافقهم على ذلك وسموه بالخليفة !(كذب للتهويل) وأمرهم بالعدل فأظهروه حتى كانت الدراهم والدنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربها فيأخذها(شهادة مهمة من عدو) ، وغلبوا على نيسابور وبعث إليهم السلطان طغيتمور بالعساكر فهزموه ، ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه فهزموه وأسروه ومنوا عليه ، ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفاً من التتر فهزموه وملكوا البلاد ، وتغلبوا على سرخس والزواة وطوس وهي من أعظم بلاد خراسان ، وجعلوا خليفتهم بمشهد علي بن موسى الرضى ، وتغلبوا على مدينة الجام ونزلوا بخارجها ، وهم قاصدون مدينة هراة وبينها وبينهم مسيرة ست ! فلما بلغ ذلك الملك حسيناً جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم هل يقيمون حتى يأتي القوم أو يمضوا إليهم فيناجزونهم ؟ فوقع إجماعهم على الخروج إليهم وهم قبيلة واحدة يسمون الغورية ويقال إنهم منسوبون إلى غور الشام وأن أصلهم منه ، فتجهزوا أجمعين واجتمعوا من أطراف البلاد ، وهم ساكنون بالقرى وبصحراء مرديس وهي مسيرة أربع لا يزال عشبها أخضر ترعى منه ماشيتهم وخيلهم وأكثر شجرها الفستق ومنها يحمل إلى أرض العراق ، وعضدهم أهل مدينة سمنان ونفروا جميعاً إلى الرافضة وهم مائة وعسشون ألفاً ما بين رجالة وفرسان ، ويقودهم الملك حسين .واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفاً من الفرسان وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج وصبر الفريقان معاً ثم كانت الدائرة على الرافضة وفر سلطانهم مسعود وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفاً حتى قتل وقتل أكثرهم وأسر منهم نحو أربعة آلاف .وذكر لي بعض من حضر هذه الوقعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضحى وكانت الهزيمة عند الزوال ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلى وأتي بالطعام فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون وسائرهم يضربون أعناق الأسرى !وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح العظيم وقد نصر الله السنة على يديه ، وأطفأ نار الفتنة ! وكانت هذه الوقعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين). انتهى.وفي نص ابن بطوطة مكذوبات سمعها من المماليك الغوريين الأحناف في هرات منها عن شخصيات السربدارية ومذهبهم ، وعن أعداد جيش الطرفين ، وهو يدل على أن جيش حسين كرت ملك هرات كان من المماليك فقط ، ولاذكر فيه لأهل المنطقة من الخراسانيين والأفغان ! بينما السربدارية هم أهل البلاد .كما أنه يفسر الصراع بين الشاه حسين الغوري وبين وبين تيمور لنك المغولي!وبعد هزيمة السربدارية وشهادة الشيخ الجوري ، تلقوا هزيمة أخرى ، فقد جهز وجيه الدين مسعود جيشاً واحتل مدينة آمل ، إلا أن أحد الأمراء نصب لهم كميناً داخل الغابات وحاصرهم وقتل عدداً منهم واعتقل وجيه الدين مسعود ، فقتله حاكم ولاية رستمدار في ربيع الثاني سنة745 .ثم تسلم قيادتهم عدة أشخاص كان أبرزهم الخواجة شمس الدين علي ، وقد حكم خمس سنوات وخاض حرباً مع أرغون شاه جاني قرباني ، وحاصر مدينة طوس وكان على وشك الإستيلاء عليها ، فهاجمته قوات معز الدين حسين كرت ملك هرات عليه، ودبروا له خادمه المدعو حيدر القصاب فقتله غيلة .إلا أن تلك الهزائم الثلاث لم تقض على حكومة السربدارية ، فقد تولى بعد الخواجة شمس الدين يحيى الكرابي من قرية كراب من أعمال بيهق ، وحقق انتصارات واسعة وسيطر على منطقة طوس ومشهد من جديد .انتصار السربدارية على المغول: في السادس عشر من شهر ذي القعدة سنة754 ، تمكن السربداية من القضاء على آخر معقل لحكومة سلالة هولاكو وبذلك نظفوا منهم مناطق دولتهم ، وقد شملت ولاية كركان وأسترآباد وقسماً من ساحل بحر الخزر الى مدينتي طوس ومشهد .وأبرز قادتهم ملكهم علي بن المؤيد الذي كان كما يقول عنه دولتشاه متعصباً في مذهب الشيعة أكثر من أسلافه ، وقد أمر بضرب النقود باسم الأئمة الإثني عشر عليهم السلام وكان يحترم السادة ورجال الدين احتراماً خاصاً ، ويقول دولتشاه: كان الناس مرتاحين في عصره وكانت ملابسه بسيطة ، وكان يوزع ما في داره في رأس كل سنة ويتجول في الليالي في الأزقة والمحلات ، ويتفقد الضعفاء والأيتام.وفي سنة783 دخل تيمور لنك مدينة سبزوار منتصراً واستقبله علي بن المؤيد فأبقاه على حكمه وأكرمه لكنه اعتقله عنده مدة اثنتي عشرة سنة وأمر بقتله سنة795 .وبعد موجة تيمور قام أهالي سبزوار في سنة785 بقيادة الشيخ داود السبزواري لإحياء حكومة السربدارية، إلا أن تيموراً توجه بنفسه إلى سبزوار وحاصر المدينة وارتكب مذبحة رهيبة وأمر بدفن ما يقرب من ألفي رجل أحياء في جدار أحد الأبراج ! ولكنهم عاودوا انتفاضتهم بعد وفاة تيمور سنة807 ، ضد ولده السلطان شاهرخ بن تيمور ، وكانت بينهم معارك ، سيطر على أثرها شاه رخ على عاصمتهم سبزوار ، وأنهى دولة السربدارية .رسالة علي بن المؤيد الى الشهيد الأول قدس سره
حكم علي بن مؤيد الحكم سنة766، وشعر بحاجة الدولة الى مرجع كبير ، وكان إسم العلامة الحلي وتلاميذه يملأ الآفاق ، ومنهم محمد بن مكي الجزيني العاملي كبير فقها الشيعة في بلاد الشام ، فكتب اليه ابن المؤيد طالباً الرسالة التالية، كما في شرح اللمعة الدمشقية:1/141: ( بسم الله الرحمن الرحيم .سلامٌ كنشر العنبر المتضوع يُخَلِّف ريحَ المسك في كل موضعِسلامٌ يباهي البدرَ في كل منزل سلامٌ يضاهي الشمسَ في كل مطلعِعلى شمس دين الحق قد دام ظله بجَدٍّ سعيدٍ في نعيمٍ مُمَتَّعِأدام الله تعالى مجلس المولى الهمام ، العالم العامل الفاضل الكامل ، السالك الناسك ، رضي الأخلاق وفي الأعراق ، علامة العالم مرشد الأمم ، قدوة العلماء الراسخين ، أسوة الفضلاء المحققين ، مفتي الفرق الفارق بالحق ، حاوي الفضائل والمعالي ، حائز قصب السبق في حلبة الأعاظم والأعالي ، وارث علوم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، محيي مراسم الأئمة الطاهرين عليهم السلام ، سر الله في الأرضين ، مولانا شمس الملة والدين ، مد الله أطناب ظلاله بمحمد وآله ، من دولة راسية الأوتاد ونعمة متصلة الأمداد إلى يوم التناد . ووبعد ، فالمحب المشتاق مشتاقٌ إلى كريم لقائه غاية الإشتياق ، وأن يمن بعد البعد بقرب التلاق: حرم الطرف من مُحَيَّاكَ لكنْ حظيَ القلبُ من مُحَيَّاكَ رَيَّيُنهي إلى ذلك الجناب ، لا زال مرجعاً لأولي الألباب ، أن شيعة خراسان صانها الله عن الأحداث ، متعطشون إلى زلال وصاله والإغتراف من بحر فضائله وإفاضاته ، وأفاضل هذه الديار قد مزقت شملهم أيدي الأدوار ، وفرقت جلهم أو كلهم صنوف صروف الليل والنهار . قال أمير المؤمنين عليه سلام رب العالمين: ثلمة الدين موت العلماء ، وإنا لا نجد فينا من يوثق بعلمه في فتياه ، ويهتدي الناس برشده وهداه ، فهم يسألون الله تعالى شرف حضوره والإستضاءة بأشعة نوره والإقتداء بعلومه الشريفة ، والإهتداء برسومه المنيفة . واليقين بكرمه العميم وفضله الجسيم أن لا يخيب رجاءهم ولا يرد دعاءهم ، بل يسعف مسؤولهم وينجح مأمولهم . قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ... ولا شك أن أولي الأرحام أولى بصلة الرحم الإسلامية الروحانية ، وأحرى القرابات بالرعاية القرابة الإيمانية ثم الجسمانية ، فهما عقدتان لا تحلهما الأدوار والأطوار ، بل شعبتان لايهدمهما إعصار الأعصار . ونحن نخاف غضب الله على هذه البلاد لفقدان الرشد وعدم الإرشاد ، والمأمول من إنعامه العام وإكرامه التام أن يتفضل علينا ويتوجه إلينا متوكلاً على الله القدير ، غير متعلل بنوع من المعاذير إن شاء الله تعالى . والمتوقع من مكارم صفاته ، ومحاسن ذاته إسبال ذيل العفو على هذا الهفو ، والسلام على أهل الإسلام . المحب المشتاق: علي بن مؤيد ).انتهى.ولم يذكروا تاريخ هذه الرسالة ، فقد حكم علي بن المؤيد السلطة سبعة عشر سنة من سنة766 وعزله تيمور سنة783 ، وقتله سنة795 .قصة غامصة عن تيمور وعلي بن مؤيد
قال ابن عربشاه في عجائب المقدور/19: (قصد(تيمور) بعساكره مدينة سبزوار وكان واليها يدعى حسن الجوري مستقلاً بالإمارة وهو رافضي ، فما أمكنه إلا الإطاعة واستقباله من الهدايا والخدم بما استطاعه، فأقره على ولايته وزاد في رعايته).انتهى.وقد أخطأ ابن عربشاه ، لأن الجوري قتل قبل ذلك سنة743، وكان حاكم سبزوار ودولة السربدارية علي بن المؤيد ، الذي نقل عنه ابن عربشاه القصة الغريبة التالية:فصل: وكان من عادة تيمور وفكره أنه كان في أول أمره إذا نزل بأحد مستضيفاً استنسبه وحفظ إسمه ونسبه وقال له: إذا بلغك أني استوليت وعلى الممالك استقليت فأتني بعلامة كذا ، فإني أكافؤك إذا . فلما انتشر ذكره وشاع أمره وفشا في الدنيا خبره وخبره هرعت الناس بالعلائم إليه ، ووفدت من كل فج عميق عليه ، وكان ينول كل أحد منزلته ويحله مرتبته .ذكر ما جرى لذلك الداعر في سبزوار: وكان في مدينة سبزوار رجل شريف من الشطار يدعى السيد محمد السربدال معه جماعة من الرجال كلهم دعار يسمون السربداليه يعني الشطار ، وكان هذا السيد رجلاً مشهوراً ، بالمآثر والفضائل مذكوراً ، فقال تيمور عليَّ به ، فإني ما جئت إلا بسببه وقد كنت متشوقاً إليه ومتشوقاً لعلم ما لديه ، فدعوه له فدخل عليه فقام إليه واعتنقه وقابله ببشرة منطلقة وأكرمه وأدناه ، وقال في جملة فحواه: يا سيدي السيد قل لي كيف أستخلص ممالك خراسان وأحويها ؟ وأنى أحوزها أقاصيها وأدانيها ؟ وماذا أفعل حتى يتم لي هذا الأمر وأرتقي هذا المسلك الصعب الوعر ؟ فقال له السيد: يا مولانا الأمير أنا رجل فقير وقير من آل الرسول من أين أنا وهذا الفضول؟وإني وإن قيل لي شريف رجل عاجز ضعيف ، لا طاقة لي بموارد الهلك ، ومن أنا حتى أتشاوف لمصالح الملك ومن داخل الملوك أو خارجهم أو عارضهم في أمورهم أو مازحهم كان كالعائم في مجمع البحرين وكالجاثم في منتطح الكبشين، والخارج عن لغته لحان وشتان ما بين المأمون والطحان ، فقال له: لا بد أن تدلني على الطريقة وتخبرني عن المجاز إلى هذه الحقيقة ، ولولا أنني تفرست فيك ذلك وتكهنت أن برأيك تقتدي المسالك ، ولولا أنك أهل لهذه المعرفة ما فهت لك ببنت شفة ، ولا استغنيت عنك استغناء التفه عن الرفه ، فإن فراستي أياسية وقضاياي كلها قياسية ، فقال ذلك المشير: أيها الأمير أوَ تسمع في هذا مقالتي وتتبع إشارتي؟ فقال: ما استشرتك إلا لأتبعك ولا جاربتك إلا لأمشي معك . فقال: إن أردت أن يصفو لك المشرب وتنال الممالك من غير أن تتعب فعليك بخواجة علي بن المؤيد الطوسي ، قطب فلك هذه الممالك ومركز دائرة هذه المسالك ، فإن أقبل عليك بظاهره لم يكن بباطنه إلا معك ، وإن ولى عنك بوجهه فلن يفيدك غيره ولن ينفعك . فكن على استجلاب خاطره وحضوره إليك أبلغ جاهد ، فإنه رجل صلب وظاهره وباطنه واحد ، وإن طاعة الناس منوطة بطاعته وأفعال الكل مربوطة بإشارته ، فما فعل فعلوا فإن حط حطوا وإن رحل رحلوا ! وكان هذا الرجل أعني خواجه علي المذكور رجلاً شيعياً موالياً علياً يضرب السكة باسم الإثني عشر إماماً ، ويخطب بأسمائهم ، وكان شهماً هماماً . ثم قال السيد: يا أمير أدع خواجه علي فإن لبى دعوتك وحضر حضرتك فلا تترك من أنواع الإحترام والتوقير والإكرام والتكبير شيئاً إلا وأوصلته إياه فإنه يحفظ لك ذلك ويرعاه ، وأنزله منزلة الملوك العظام في التعظيم والتوقير والإحترام، ولا تدع معه شيئاً مما يليق بحشمتك ، فإن ذلك كله عائد إلى حرمتك وعظمتك! ثم خرج السيد من عند تيمور.وجهز قاصده إلى الخواجة علي المذكور يقول له إنه قد مهد له الأمور فإن جاءه قاصده فلا يتوقف عن الطاعة ولا يقعد عن التوجه إليه ولا ساعة ، ويكون منشرح البال آمناً سطواته في الحال والمآل ، فاستعد خواجه علي لقدوم الوارد وورود القاصد وهيأ الخدمات والتقادم والحمولات ، وضرب باسمه واسم متولاه الدرهم والدينار ، وخطب باسمهما في جوامع الأمصار ، وقعد لأمره منجزاً وأقام للطلب مستوفزاً ، وإذا بقاصد تيمور جاء منه بكتاب فيه من ألطف كلام وألين خطاب ، يستدعيه مع انشراح الصدر وتوفير التوقير وتكثير البر ، فنهض من ساعته ملبياً بلسان طاعته ولم يلبث غير مسافة الطريق ، وقصد بأمل فسيح وعهد وثيق ، فلما أخبروه بوفوده جهز لاستقباله أساورة جنوده ، وسر سروراً شديداً وكأنه استأنف ملكاً جديداً فلما وصل قدم هدايا فاخرة وتحفاً متكاثرة ، وطرائف ملوكية وذخائر كسروية ، فعظمه تعظيماً بالغاً وأولاه إنعاماً سائغاً ، وأسبل على قامة رجائه من خلع إعزازه وإكرامه ذيلاً سابغاً ، واستمر به على ولايته وزاد في بره وكرامته ، فلم يبق في خراسان أمير مدينة ولا نائب قلعة مكينة ، ولا من يشار إليه ، إلا وقصد تيمور وأقبل عليه ، فمن أكابرهم أمير محمد حاكم باورد ، وأمير عبد الله حاكم سرخس ، وانتشرت هيبته في الآفاق وبلغت سطوته مازندران وكيلان وبلاد الري والعراق ، وامتلأت منه القلوب والأسماع ، وخافه القريب والبعيد ، وعلى الخصوص شاه شجاع ، وكل هذا في مدة قصيرة وأيام قلائل يسيرة ، نحواً من سنتين ، بعد قتله السلطان حسين العجم أبا الفوارس شاه شجاع . ولما صفت له بلاد خراسان وأذعن لطاعته كل قاص ودان ، راسل شاه شجاع سلطان شيراز وعراق العجم يطلب منه الطاعة والإنقياد ، وإرسال الأموال والخدم). انتهى.أقول: يريد ابن عربشاه أن يقول إن سبب نجاح تيمو لنك أسراراً غيبية وصل اليها بواسطة الصوفي السزواري السيد وأستاذه الصوفي علي بن مؤيد !وقد كان هذا النوع من الفكر موجوداً عند تيمور كالذي رواه ابن تغري في المنهل الصافي/633، من زعم تيمور بأن الصوفي الشريف بركة ، ساعده في معركة فاصلة ، وهنا يريد ابن عربشاه أن يقول إن سبب خضوع ملوك إيران لتيمور هو السر الذي أخذه من علي بن مؤيد ! بينما عرفت أن ابن مؤيد كان حاكماً بالشرع وليس بالتصوف ، وأن تيموراً احتل سبزوار سنة783، وأبقى علي بن مؤيد حاكمها لكنه أخذه معه في سفره ، وربما وضعه في عاصمته سمرقند ، ثم قتله سنة795، وإبقاؤه عنده اثني عشر سنة أمر غامض ، لكن يصعب تفسيره بقصة ابن عربشاه !أعلام الشيعة على مشانق المغول والمماليك والعثمانيين
في ربيع الأول سنة737، قتل القائد المغولي العام الشيعي الشيخ خليفة مؤسس حركة السربدارية في سبزوار ، وأراد قتل تلميذه الشيخ حسن الجوري ففر منه ! (مستدركات أعيان الشيعة:2/178) .وفي سنة788 ، قتل تيمور لنك المغولي آخر ملوك السربدارية علي بن مؤيد ، الذي أرسل وزيره ليدعو المرجع الشهيد محمد بن مكي ليتولى القضاء والفتوى في دولته . ولم يستطع الإستجابة له بسبب مؤامرات الملوك والنواصب في الشام عليه وعلى الشيعة الذين كانوا يرجعون اليه في بلاد الشام !وكان آخر فصول مؤامرتهم أنهم سجنوه في دمشق ثم دبروا له شهادة شهود بأنه يخالفهم في عقيدته ويطعن في أبي بكر وعمر ، وقتلوه بالسيف ، ثم جلدوه الحد بزعمهم ، ثم صلبوه على عود المشنقة ، ثم حرقوا جثته الطاهرة قدس سره ، وشاء الله أن يكون ذلك قبل سنتين من شهادة علي بن مؤيد رحمه الله.قال في طرائف المقال:2/426 ، في ترجة الشهيد: (الشيخ السعيد الشهيد شمس الدين محمد بن مكي العاملي الجزيني ، وهو المشتهر بالشهيد على الإطلاق ، وفضله أشهر من أن ينكر ، ونبله أجل من أن يذكر ، كان عالما ماهرا زاهدا متبحراً مجتهدا فائقا في زمانه على من في عصره جامعا للمعقول والمنقول ، وكان والده أيضاً من فضلاء المشايخ... وجدت بخط شيخنا المبرور المغفور العالم العامل أبي عبد الله المقداد السيوري ما هذه صورته: كانت وفاة شيخنا الأعظم شمس الدين محمد بن مكي تاسع عشر شهر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وسبعمائة ، وقتل بالسيف ثم صلب ثم رجم ثم أحرق بالنار ببلدة دمشق ، لعن الله الفاعلين لذلك والراضين به . في دولة بيدمرو وسلطنة برقوق بفتوى المالكي لعنه الله سمي برهان الدين وعباد بن جماعة الشافعي ، وتعصب جماعة كثيرة بعد أن حبس في القلعة الدمشقية سنة كاملة وكان سبب حبسه أن وشى نقي الدين الجبلي بعد ارتداده وظهور أمارة الإرتداد منه أنه كان عاملاً ثم بعد وفاة هذا الفاجر قام على طريقه شخص إسمه يوسف بن يحيى وارتد عن مذهب الإمامية ، وكتب محضراً يشنع فيه على الشيخ شمس الدين بن مكي بأقاويل شنيعة معتقدات فضيعة ، وأنه كان أفتى به الشيخ محمد بن مكي . وكتب في ذلك المحضر سبعون نفساً من أهل الجبل ممن كان يقول بالإمامة والتشيع وارتدوا عن ذلك وكتبوا خطوطهم تعصباً مع ابن يحيى في هذا الشأن ، وكتب في هذا ما ينيف على الألف من أهل السواحل من المسننين، وأثبتوا ذلك عند قاضي صيدا وأتوا بالمحضر إلى القاضي عباد بن جماعة بدمشق فنفذه إلى القاضي المالكي وقال له: تحكم بما فيه مذهبك وإلا عزلتك !فجمع الملك بيدمرو الأمراء والقضاة والشيوخ لعنهم الله جميعاً وأحضروا الشيخ محمد وقرأ عليه المحضر ، فأنكر ذلك وذكر أنه غير معتقد له مراعياً للتقية الواجبة ، فلم يقبل منه وقيل له: قد ثبت ذلك عليك شرعاً ولا ينقض حكم القاضي. فقال: الغائب على حجته فإن أتى بما يناقض الحكم جاز نقضه وإلا فلا ، وها أنا أبطل شهادة من شهد بالجرح ، ولي على كل واحد حجة بينه، فلم يسمع ذلك منه ولم يقبل . فقال الشيخ للقاضي عباد بن جماعة: إني شافعي المذهب وأنت الآن إمام هذا المذهب وقاضيه فاحكم بمذهبك وإنما قال الشيخ ذلك لأن الشافعي يُجَوِّز توبة المرتد ، فقال ابن جماعة: على مذهبي يجب حبسك سنة في استتابتك ، أما الحبس فقد حبستك ولكن تب إلى الله واستغفر حتى أحكم باسلامك ، فقال: ما فعلت ما يوجب الإستغفار حتى أستغفر، خوفاً من أن يستغفر فيثبت على الذنب، فاستغلظه ابن جماعة وأكد عليه ، فأبى عن الإستغفار فسارَّه ساعة ، ثم قال: قد استغفرت فثبت عليك الحق ! ثم قال المالكي: قد استغفر والآن ما عاد الحكم إلي ! غدراً وعناداً لأهل البيت عليهم السلام ، ثم قال: عاد الحكم إلى المالكي، فقام المالكي لعنه الله وتوضأ وصلى ركعتين، ثم قال: حكمت بإهراق دمه فاكسوه اللباس ففعل به ما قدمناه من القتل والصلب والرجم والإحراق ! لعنهم الله جميعاً ، الفاعل والراضي والأمر ومن تعصب ، وساعد في إحراقه رجل يقال له محمد الترمذي لعنه الله ، مع أنه ليس من أهل العلم ، وإنما كان تاجراً فاجراً). انتهى.وقد أجاب الشهيد قدس سره على رسالة علي بن مؤيد بكتاب اللمعة الدمشقية وهي متن فقهي شامل . وقد شرحها بعده الشهيد الثاني الشيخ زين الدين الجبعي ، الذي استشهد بيد العثمانيين ورثة المماليك بنفس التهم الفارغة التي قتل بها الشهيد الأول وسميا بالشهيد الأول والثاني تمييزاً لهما . فاعجب لمن كتبت له اللمعة وقد قُتل بيد المغول ومن ألفها وقد قُتل بيد المماليك ، ومن شرحها وقد قُتل بيد العثمانيين !قال الشهيد الأول قدس سره في مقدمة اللمعة ، بعد الحمد والصلاة:(أما بعد ، فهذه اللمعة الدمشقية في فقه الإمامية إجابة لالتماس بعض الديانين وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وهي مبنية على كتب).انتهى.وقال السيد الخوئي قدس سره في معجم رجال الحديث:18/286:(وقال الشهيد الثاني قدس سره في شرحها: أي المطيعين لله في أمره ونهيه ، وهذا البعض هو شمس الدين محمد الآوي ، من أصحاب السلطان علي بن مؤيد ، ملك خراسان وما والاها في ذلك الوقت إلى أن استولى على بلاده تيمورلنك ، فصار معه قسراً إلى أن توفي في حدود سنة خمس وتسعين وسبع مائة ، بعد أن استشهد المصنف قدس الله نفسه بتسع سنين ، وكان بينه وبين المصنف قدس سره مودة ومكاتبة على البعد إلى العراق ، ثم إلى الشام ، وطلب منه أخيراً التوجه إلى بلاده في مكاتبة شريفة أكثر فيها من التلطف والتعظيم والحث للمصنف رحمه الله على ذلك ، فأبى واعتذر إليه وصنف له هذا الكتاب بدمشق في سبعة أيام لا غير ، على ما نقله عنه ولده المبرور أبو طالب محمد وأخذ شمس الدين محمد الآوي نسخة الأصل ولم يتمكن أحد من نسختها منه لضنته بها، وإنما نسخها بعض الطلبة وهي في يد الرسول تعظيماً لها ، وسافر بها قبل المقابلة فوقع فيها بسبب ذلك خلل ثم أصلحه المصنف بعد ذلك بما يناسب المقام ، وربما كان مغايراً للأصل بحسب اللفظ ، وذلك في سنة اثنتين وثمانين وسبع مائة ، ونقل عن المصنف أن مجلسه بدمشق في ذلك الوقت ما كان يخلو غالباً من علماء الجمهور ، لخلطته بهم وصحبته لهم ، قال: فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب كنت أخاف أن يدخل عليَّ أحد منهم فيراه ، فما دخل علي أحد منذ شرعت في تصنيفه إلى أن فرغت منه ، وكان ذلك من خفي الألطاف وهو من جملة كراماته ، قدس روحه ونور ضريحه). إنتهى.