5.2. الأعمال الاجتماعية

النوع الآخر لعمل المنتظرين بعد تزكية النفس هو أداء «الوظائف الاجتماعية» التي لا يتغافلون عنها. وكما أشرنا سابقاً فإن المنتظر أساساً موجود اجتماعي بل عالمي. فلا يمكن تصوّر «الانتظار» من دون «الاجتماع».
وبالطبع لابد من الالتفات إلى أنّ أداء الوظائف الاجتماعية لا يأتي دورها بعد الفراغ من المراحل العليا لتزكية النفس، وذلك أولاً لأن الكثير من وظائفنا الاجتماعية لا تحتاج إلى تزكية النفس وطيّ المراتب المعنوية الخاصة؛ كالإنفاق وأصناف الجهاد المالي. وثانياً فإن العمل الاجتماعي بذاته بنّاءٌ للغاية وهو يعدّ من أهم الطرق لتزكية النفس. نعم من أراد أن يكون مربّياً للمجتمع أو معلّماً لجماعة وأسوة للآخرين، ينبغي له التصدي لجهاد النفس وتزكيتها قبل العمل بهذه الوظائف.[1]
في رواية عن الإمام الباقر (ع)، قال لجماعة من الشيعة تدّعي الاستعداد للقيام: «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ جَاءَتِ الْمُزَامَلَةُ وَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى كِيسِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ حَاجَتَهُ فَلَا يَمْنَعُهُ.»[2] فانظروا إلى العلاقات الحميمة فيما بينهم. وفي رواية أخرى أنّ المؤمنين إن لم يكونوا كذلك ليسوا بإخوان.[3] فإن أردنا أن نصل إلى مقام المنتظر، لابد أن نتّجه عملياً نحو هذه الأجواء. كما ذكر الإمام الباقر (ع) أن أصحاب الإمام متخلّقون بهذه الأخلاق.[4]

المنتظر لا نظير له في علاقاته الاجتماعية

وفي زيارة عاشوراء نقرأ: «إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُم.»[5] أي: يا سيدي ومولاي، إنني لا أُحبّك فحسب، بل أحبّ كلّ من يُحبُّك. وناصر الإمام المهدي أيضاً يُحبّ الناس عاطفياً ويصادقهم عملياً. فلو اختلف المنتظر شخصياً مع أحد يتغاضى عن حقه وإن كان الحق معه. فهو يحتمل المظلومية ولكنه يُصادق المؤمنين. فالمنتظر لا نظير له في علاقاته الاجتماعية مع الآخرين.
وقد كشفت الإحصائيات في جامعات طهران – كما جاء في التقرير – أن العلاقات الاجتماعية لدى الجامعيين المتدينين أفضل منها لدى غير المتدينين منهم، وأنهم يُقيمون العلاقات مع الآخرين أسهل وأفضل وبحيوية أكبر. علماً بأن هذا هو بداية الطريق ولا ينبغي التوقف عند هذا الحدّ.
الشخص العادّي في الأيام الأولى لدى دخوله محيطاً جديداً كالمدرسة أو الجامعة، تجده ينظر إلى الجميع بنظرة معصومة، متواضعة، سائلة، محتاجة إلى صديق ومتعطّشة إلى العلاقات العاطفية. ولكنه بعد مدة حيث حصوله على أصدقاء عدة تراه لا يكترث بأحد. قلبه صغير كالعصفور لا يسع لأكثر من عشرة أصدقاء. فقد كان في الأيام الأولى من دخوله الجامعة يُسلّم على الجميع، ولكنه بعد سنة إن سلّم عليه طالب حديث الدخول، نظر إليه باغتراب.
فمن كان قلبه صغيراً يمتلئ وعاؤه بالعثور على أربعة أصدقاء. وهو لا يطلب بعدُ أربعين صديقاً، ولا تجد التواضع في عينيه والسعة في صدره ولا يمكنه أن يُقيم الصداقة مع جماعة أكبر ولا يسعه أن يمتلك 100 صديق. الإنسان العادّي يريد أربعة أصدقاء ليبثّ إليهم شكاواه ويبوح لهم بأسراره، غير أنّ دائرة صداقة المنتظر واسعة للغاية. فإنّ صداقاته لا من باب الاحتياج بل من باب المحبة للناس.
المنتظر في مقام العمل، أهل الخدمة إلى الآخرين، أهل التزكية وجهاد النفس، أهل العمل الجهادي، أهل الجهد والسعي الحثيث. وعلامته أنه متفوّق في دروسه على الجميع؛ وفي الوقت ذاته له فرصة للعمل أيضاً، وباستطاعته أن يجمع بينهما لأنّ نفسه سليمة.
تسلّم الشهيد جمران درجة 22 من أستاذ كان معروفاً بعدم منحه درجة 20 للطلاب، وقد تم تسجيل هذه الدرجة في الجامعة بإصرار من نفس هذا الأستاذ[6]. وهو يقول في مناجاته: «إلهي! ينبغي أن أتفوّق من الناحية العلمية على الجميع، لئلا يعيّرني الأعداء من خلال ذلك. يجب أن أُثبِت لهؤلاء القاسية قلوبهم الذين جعلوا من العلم وسيلة للتفاخر على الآخرين، بأنهم أحقر من التراب الذي تحت قدماي. لابد أن أُخضِع كل أولئك الظالمين المتغطرسين والمتكبرين، ثم أكون أكثر أهل الأرض خضوعاً وتواضعاً.»[7]
نحن لا مفرّ لنا في هذا العالم الحرّ المليء بالمنافسات سوى أن نُثبت بأن المهدويّين أفضل من الجميع. لابدّ أن نصل إلى هذه المرتبة بحيث لو طُرح هذا السؤال: من هو المنتظر؟ لأجاب الجميع: «هذا واضح، من هو أنشط من الآخرين، من هو كثير الخدمة، متفوّق في الدراسة، ثابت الجأش، قويّ العزيمة، وبعبارة واحدة من يعرف كيف يعيش.»
المنتظر لا يتعامل مع الناس بشكل جيّد فحسب، بل يُجابه أعداء الناس أيضاً. المنتظر مقارعٌ للظلم. نحن لا نعيش في الخلأ. وعالمنا زاخر بالظلم والجور. ومن هنا فإنّ المنتظر ليس من أهل المحبة فحسب، بل هو من أهل العِداء أيضاً. وليس من أهل العدل فحسب، بل هو ممّن لا يرضخ للظلم أيضاً.
إنّ البعض يرغب في أن يُحدّد الحالة الاجتماعية بحدود معينة. كأن يرى مساعدة الناس ورعاية الفقراء محدودة بمنطقة أو مدينة أو حتى بلد معين. ولا يرغب في اجتثاث جذور الفقر ومكافحته. فهو مستعد لتأسيس مؤسسات خيرية، وليس مستعداً لأن يكافح أساس الفقر وأصله (أي الذين أوجدوا الفقر والحرمان؛ وهم أصحاب الثروة والقوة وعلى رأسهم الاستكبار العالمي). فهذا المنهج يعتبر ضرباً من ضروب مناهضة المجتمع وإخفاء الظالمين الذين دمّروا المجتمعات البشرية بظلمهم. وهو في الحقيقة إيجاد منطقة آمنة لمثل هؤلاء الظلمة.

يتبع إن شاء الله...

[1] عن أمیر المؤمنین (ع): «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ.»، نهج البلاغة، الحکمة73.
[2] قِيلَ لِأَبِي جَعْفَرٍ (ع): «إِنَّ أَصْحَابَنَا بِالْكُوفَةِ لَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ فَلَوْ أَمَرْتَهُمْ لَأَطَاعُوكَ وَاتَّبَعُوكَ. قَالَ: يَجِي‏ءُ أَحَدُكُمْ إِلَى كِيسِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَاجَتَهُ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: هُمْ بِدِمَائِهِمْ أَبْخَلُ. ثُمَّ قَالَ: ... إِذَا قَامَ الْقَائِمُ جَاءَتِ الْمُزَامَلَةُ وَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى كِيسِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ حَاجَتَهُ فَلَا يَمْنَعُهُ‏.» الاختصاص للشیخ المفید، ص24.
[3] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ الباقِر (ع)، قَالَ يَوماً لأصْحابِهِ: «أيُدخِلُ أحَدَكُمْ يَدَهُ في كُمِّ صاحِبِهِ فَيَأخُذَ حَاجَتَهُ مِنَ الدَّنانيرِ؟ قالوا: لا. قال: فَلَستُم إذاً بِإخوانٍ.» کشف الغمة، ج2، ص148.
[4] الاختصاص للشیخ مفید، ص24. نص الرواية مذكورة في الهامش ص؟؟؟.
[5] مفاتیح الجنان، زیارة عاشوراء؛ کامل الزیارات، ص174؛ المصباح للکفعمي، ص482.
[6] يقول المهندس مهدي جمران (شقيق الشهید الدکتور مصطفی جمران): «كان أستاذ في الكلية الفنية لا يمنح للطالب درجة أكثر من 14 أو 15 والدكتور قد تسلّم منه درجة 22 العجيبة! وعندما سُئل: لماذا منحت جمران درجة 22؟ أجاب: درجة 20 حق كراسه الذي لم أجد فيه أيّ نقص يحتاج إلى التعديل، وقد كتبه بجودة وموسوعية بالغة حتى اضطررت لأن أقدّمه على نفس ما هو عليه لطباعته كتاباً.» المحاضرة الثانية للمهندس مهدي جمران في ملتقى «مصطفى الأفكار» الدولي، الثاني من أكتوبر 2011، المصدر: الموقع الإعلامي لمجمع شباب الشهيد جمران:
(http://www.m-chamran.com/?Content=15)
[7] خدا بود و دیگر هیچ نبود، ص28.