زواج النبي (صلى الله عليه وآله) بخديجة
ولد محمّد (صلى الله عليه وآله) في بيت من أرفع بيوت العرب شأناً وأعلاها مجداً وأكثرها عزّةً ومنعةً ، فنمى وترعرع وشبّ ، وشبّت معه آمال الحياة كلّها ، وقد شاء الله أن يربّي محمّداً (صلى الله عليه وآله) ويعدّه ويؤهّله لحمل الرسالة والاضطلاع بتبليغ الأمانة ، فأحاطه برعاية خاصّة رسمت حياته وفق قدر ربّاني متناسب مع ما ينتظره من عظم المسؤولية في حمل آخر رسالة عالمية إلهية .
وحين بلغ محمّد (صلى الله عليه وآله) سن الخامسة والعشرين من عمره الشريف كان لا بدّ له من الاقتران بامرأة تناسب إنسانيته وتتجاوب مع عظيم أهدافه وترتفع إلى مستوى حياته بما ينتظرها من جهاد وبذل وصبر ، لقد كان بإمكان محمد (صلى الله عليه وآله) وهو بهذه المؤهّلات الراقية أن يتزوج من أية فتاة أرادها من بني هاشم ، ولكن مشيئة الله شاءت أن يتّجه قلب خديجة نحوه صلوات الله عليه ، ويتعلّق قلبها بشخصه الكريم فيقبل(صلى الله عليه وآله) ذلك الطلب ويقترن بخديجة .
لقد أعطت خديجة زوجها حبّاً وهي لا تشعر بأنّها تعطي ، بل تأخذ منه حبّاً فيه كلّ السعادة ، وأعطته ثروة وهي لا تشعر بأنّها تعطي ، بل تأخذ منه هداية تفوق كنوز الأرض، وهو بدوره أعطاها حبّاً وتقديراً رفعاها إلى أعلى مرتبة وهو لا يشعر بأنّه قد أعطاها ، بل قال : ما قام الإسلام إلاّ بسيف عليّ ومال خديجة ، ولم يتزوّج بغيرها حتى توفّيت وهو لا يشعر بأنّه أعطاها .
وقصة زواج خديجة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعدّ منعطفاً مهماً ومن النقاط اللامعة في حياتها، فقد كانت لها روح الاستقلال والاعتماد على النفس والحرية بشكل واضح ، وكانت تمارس التجارة كأفضل الرجال عقلاً ورشداً، ورفضت الزواج من الأشراف والأثرياء الذين تقدّموا اليها، ورضيت باندفاع للزواج من محمد (صلى الله عليه وآله) الفقير اليتيم ، بل تقدّمت بشوق لتقترح على محمد (صلى الله عليه وآله) الزواج منها، وأن يكون المهر من أموالها ، فلمّا أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يتزوّج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على عمّ خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام قائلاً :
« الحمد لربّ هذا البيت الذي جعلنا زرع إبراهيم وذرّية اسماعيل ، وأنزلنا حرماً أمناً وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثمّ إنّ ابن أخي ـ يعني محمداً (صلى الله عليه وآله) ـ ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به ، ولا يقاس به رجل إلاّ عظم عنه ، ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلاً في المال فإنّ المال رفد جار وظل زائل ، وله في خديجة رغبة ، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها ، والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله ، وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم ودين شائع ورأي كامل » .
ثم سكت أبو طالب ، فتكلّم عمّها وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر وكان رجلاً عالماً ، فتداركت خديجة الموقف وزوّجت نفسها من محمّد (صلى الله عليه وآله)[1] .
ويروى أنّ خديجة وكّلت ابن عمّها ورقة في أمرها ، فلمّا عاد ورقة إلى منزل خديجة بالبشرى وهو فرح مسرور نظرت اليه فقالت : مرحباً وأهلاً بك يا ابن عمّ ، لعلك قضيت الحاجة ، قال : نعم يا خديجة يهنئك ، وقد رجعت أحكامك إليّ وأنا وكيلك ، وفي غداة غد اُزوجك إن شاء الله تعالى بمحمّد (صلى الله عليه وآله)[2] .
ولمّا خطب أبو طالب (عليه السلام) الخطبة المعروفة وعقد النكاح قام محمّد (صلى الله عليه وآله) ليذهب مع أبي طالب، فقالت خديجة : إلى بيتك ، فبيتي بيتك وأنا جاريتك[3] .
وبعد أن تمّ الزواج المبارك انتقل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى دار خديجة، تلك الدار التي ظلّت معلماً شاخصاً ولساناً ناطقاً يحكي أحداث الدعوة والجهاد وصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعاناته .
[1] بحار الأنوار : 16 / 14 ، وراجع تذكرة الخواص : 302 .[2] بحار الأنوار : 16 / 65 .
[3] بحار الأنوار : 16 / 4.