الإعلام كان خارج الحدث وعلى أطراف المدينة
وكالات الأنباء العالمية تفشل في الوصول لمكان الحدث، والقصص الإخبارية المتناقضة تكشف التنازلات المريعة عن قيم الأخبار.
العرب/ كرم نعمة:غياب التغطية الميدانية لوسائل الإعلام العالمية ووكالات الأنباء، في أحداث العراق الأخيرة، أدى إلى اعتمادها على التحليل وتبني تداعيات الخبر بدلا من الخبر نفسه، وكشف الإخفاق الصحفي لهذه الوسائل في متابعة الحدث العراقي.
سقطت وكالات أنباء عالمية وصحف ومحطات تلفزيونية دولية في هوة عميقة من الالتباس وعدم الدقة في معالجة الخبر العراقي وافتقاده إلى الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية منذ اجتياح المسلحين مدينة الموصل.
وكشفت المعالجة المتناقضة للخبر العراقي التنازلات المريعة في قيم الأخبار وحساسيتها لوكالات مثل رويترز وفرانس برس، وانقادت تقاريرها لقيود الخطاب الحكومي العراقي، فيما لم تنجح في التواجد بمكان الحدث.
وغلبت صيغة التداعيات وليس الخبر نفسه على التقارير الصحفية للأحداث العراقية على امتداد الأسابيع الماضية، ولم تستطع أي من الوكالات والصحف الدولية من الوصول عبر مراسليها سواء المحليين أو الموفدين إلى مكان الحدث.
واستقرأ المتابعون الإعلاميون وغالبية الجمهور الخط البياني المتعرج في تغير صناعة الخبر في الحدث العراقي، فبينما كان التركيز في الأيام الأولى على “داعش” باعتبارها صانعة الحدث، أضيفت لاحقا تسميات المسلحين وثوار العشائر، الأمر الذي يكشف فشل الوكالات في استقاء أخبارها من مصادرها الحقيقية.
ويكشف العجز الخبري لوكالات دولية الأزمة التقليدية لمصداقية الإعلام وعدم قدرته على الوصول ومتابعة الخبر حتى في زمن الإنترنت والاتصالات فائقة السرعة وحضور “المواطن الصحفي”.
وعزا بعض المتابعين فشل وكالات أنباء وصحف دولية في متابعة حقيقة الخبر العراقي في مدن الموصل وصلاح الدين وديالى والانبار إلى القيود التي فرضتها السلطات الحكومية العراقية وقطع الإنترنت وخدمات وسائل التواصل الاجتماعي.
وكانت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية الحكومية قد أصدرت تعليمات ملزمة لوسائل الإعلام في البلاد والمراسلين الأجانب، منعت بموجبها إجراء لقاءات أو مقابلات مع الجماعات المسلحة، فيما أوقفت خدمة الإنترنت في المدن التي لا تخضع لسيطرتها.
خدعة الصورة
وبثت الوكالات العالمية في بداية سقوط مدينة الموصل بيد المسلحين وانسحاب القوات الحكومية منها، أرقاما مليونية عن موجة نازحين من المدينة باتجاه مدن كردستان العراق، إلا أنها سرعان ما تراجعت عن متابعة أحداث وتداعيات وأوضاع النازحين في إشارة إلى المبالغة في التقارير الأولية وعدم دقتها.
ولم تستطع أي من الوكالات والصحف العالمية بث تقارير من مركز مدينة الموصل أو صلاح الدين بعد انسحاب القوات الحكومية منهما، وكانت كل مصادر تقاريرها من أطراف تلك المدن أو من مدن كردستان العراق أو العاصمة بغداد.
ورافقت ذلك عملية تلفيق للصورة في الإحداث، ففي الوقت الذي اعتمدت المحطات التلفزيونية العالمية بما فيها “بي بي سي” و”سي ان ان” وسكاي نيوز على أفلام مصورة بالهواتف النقالة نشرت على الإنترنت ولم يتم التأكد من صحتها، انعدمت الصورة التلفزيونية للحدث الفعلي في المدن العراقية الساخنة.
ولم تستطع مؤسسة إعلامية كبرى مثل هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” التميز بتقديم الخبر العراقي على حقيقته مع إنها خصصت بداية نشراتها الرئيسية على مدار أكثر من أسبوع لأخبار العراق منذ بداية الأحداث وأوفدت كبير مراسليها جون سمبسون إلى بغداد.
واكتفى سمبسون بالتجول في أحياء العاصمة وإعداد تقرير عن استعراض جيش المهدي في الأحياء الشعبية ثم التوجه إلى النجف وإعادة كلام مكرر على لسان رجال دين شيعة.
وخضعت العديد من وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية على الإنترنت لخدعة فوتوغرافية عندما نشرت صورا عن الدمار في مدن سورية على أنها من الموصل وصلاح الدين العراقيتين.
وفشلت المصادر الصحفية الكبرى في نشر صور عن أخبار تم تداولها عن تدمير تماثيل ومراكز دينية مسيحية ومراقد إسلامية، فيما لجأت صحف ومواقع أخبار بقصد أو دونه إلى نشر صور اتضحت لاحقا أنها من مدن سورية.
وكشف تقرير مطول لوكالة رويترز كتبه ديفيد شيبرد من مدينة بعشيقة على أطراف مدينة الموصل، الإخفاق الصحفي في متابعة الحدث العراقي.
ويتناول التقرير الأحداث في الموصل بعد أسبوعين من سيطرة المسلحين عليها، دون أن يضيف معلومة جديدة، باعتماده على أشخاص كمصادر قال إنهم من الموصل، لم يذكروا ما يفيد أكثر من التعبير عن مشاعرهم.
وأشارت رويترز، التي تعد من كبرى الوكالات العالمية التي تبث أخبارها بأكثر من لغة، إلى كاتب التقرير شيبرد من مدينة بعشيقة التي تبعد 25 كيلو مترا عن مركز مدينة الموصل ومراسل آخر من المحافظة نفسها لم تذكر اسمه خشية عليه، فيما ذكرت أسماء مراسيلين آخرين من مدينة بغداد، الأمر الذي يفقد التقرير حيويته ومصداقيته.
تراجع حساسية الإخبار
ولم تكن وكالة الصحافة الفرنسية "فرانس برس" بحال أفضل في صناعة الخبر العراقي، عندما يكشف خط بيان القصص لديها نفس التعرج وتراجع حساسيته الإخبارية.
وتميزت تقاريرها بالتركز على هامش التداعيات ومتابعة التصريحات الحكومية من العاصمة بغداد ولم تبث أي تقرير إخباري من مركز الحدث نفسه في الموصل أو صلاح الدين.
ولاحظ المتابعون التباين في طبيعة أخبار وكالة الصحافة الفرنسية للحدث العراقي، الأمر الذي يعكس توجهات محرر الديسك أكثر من خط تحريري ثابت.
واعتمدت كبرى الصحف الأميركية مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز في متابعة الحدث العراقي على تقارير وكالة "اشيوتيد برس" التي لم تقدم أكثر من إعادة طبخ أخبار الوكالات الأخرى.
ولا تبث "اشيوتيد برس" أخبارها باللغة العربية أسوة بوكالتي رويترز وفراس برس، الأمر الذي يحتم عليها صياغة خبر مقدم للمتابع الغربي تركز فيه على التعريف وتسهيل تقديم المعلومة أكثر من متابعة تصاعد الحدث.
إلا أن واشنطن بوست اهتمت في تقرير لها بالخطاب المتضارب الذي تقدمه المصادر الحكومية الرسمية في بغداد مع تصاعد تقدم المسلحين في مدن إلى الشمال منها.
وأشارت إلى أن تصريحات المتحدث الرسمي الذي عينه المالكي والتي يقدمها في مؤتمر صحفي داخل المنطقة الخضراء المؤمنة، دائما توحي بتقدم قوات الجيش العراقي ودحرهم للمسلحين وإعادة سيطرتهم على المدن، وهو الأمر الذي لا يحدث في الواقع.
وتؤشر الصحيفة الأميركية إلى واقع الإعلام الحكومي في بغداد، فالتلفزيون الرسمي لا يعرض سوى الأغاني الحماسية المصحوبة بصور أرشيفية، ناشرا أخبارا غير حقيقية عن الأماكن التي تدور فيها المعارك.
وترى أن تغطية وسائل الإعلام المعارضة لحكومة المالكي تكتفي بتصوير الأزمة على أنها تمرد لثوار العشائر ضد الحكومة وليست توغلا من قبل الحركة الإسلامية المتطرفة.
وسقطت غالبية الصحف البريطانية الكبرى في نفس هوة وكالات الأنباء وعدم دقتها على الرغم من إرسال مجموعة من مراسليها إلى العراق.
وعالجت الصحف البريطانية ضعف الخبر العراقي بعدد من الآراء لكتاب وصحفيين ينظرون بعدسة غربية إلى الواقع العراقي.
وكانت مقالات وآراء مايكل بيرلي وكاثرين فيلي في صحيفة التايمز، وتقارير فرديناند فانتيتس في صحيفة الاندبندنت، وسام جونز وإريكا سولومون في صحيفة فاينانشيال تايمز، وبنيدكت بروغان في الديلي تليغراف، لا تقدم أكثر من سيناريوهات محتملة لمستقبل البلاد والدور الإيراني والأميركي في صناعة الواقع السياسي في عراق ما بعد احتلال عام 2003.
ولم يكن من مسؤولية هؤلاء الكتاب، على أهميتهم، تقديم مادة صحفية عن أرض ساخنة في المحافظات الشمالية للعراق.
فيما عبرت تقارير ومقالات باتيريك كوكبيرن وروبرت فيسك في صحيفة الاندبندنت، وإن كانت من العاصمة العراقية بغداد، عن نفس الزاوية المكررة التي ينظران منها إلى الحدث العراقي.
ولم تقدم تقارير كوكبيرن وفيسك أكثر مما يحدث على الهامش في بغداد وليس مصدر الحدث في الموصل أو صلاح الدين.
وركزا على أراء وتوقعات رجال الدين في النجف وكربلاء وارتفاع أسعار ذخيرة البنادق في بغداد التي تضاعفت ثلاث مرات، باعتبارها هامشا للخوف من القادم، وموت التقسيم القديم للشرق الأوسط حسب معاهدة سايكس-بيكو وتشظي العراق إلى كيانات طائفية وقومية، وتقارير هامشية توضح صورة مبسطة للقارئ الإنكليزي