أبو تمام.. نبشوه في جاسم وأعدموه في الموصل
عواد ناصر
العقلية الداعشية تمثل التخلف بمستوياته كلها : الفكري والديني والأخلاقي والنفسي.حتى لو لم يكن ثمة أبو تمام لعثـروا على هدف سهل آخر.لأنهم لا يعرفون أبا تمام، ولا يعرفون خطورته على ثقافة إسلامية متعصبة لا تستقيم لها الحياة إلا بالعنف، إنهم قتلوه مرتين لأنهم لا يعرفونه.تمثال شاعر يعني الكفر بتماثيلهم السوداء وأدعيتهم الظلامية التافهة.تمثال شاعر لا يعني قصيدته التي يجهلونها.. لأنهم أميون مسلحون ضد القراءة والكتابة.
تجلت "خطورة" أبي تمام، نقدياً، في أنه نقل القصيدة العربية الكلاسيكية إلى أفق البحث اللغوي الجديد، وهنا تكمن قيمته شاعراً مجدداً. وهذا الكلام ليس موجهاً للداعشيين وحلفائهم، لأنهم غير معنيين به، لأنهم أغبياء وجهلة.
لأبي تمام استهلالات غزلية رائعة حتى وهو يريد المديح ومنها:
نُسَائِلُهَا أَيَّ المَواطِنِ حَلَّتِ وأيِّ ديارٍ أوطنتها وأيتِ
وماذا عليها لو أشارتْ فودعت إلينا بأطرافِ البنانِ وأومتِ
وما كانَ إلاّ أنْ تولتْ بها النوى فَوَلَّى عَزَاءُ القَلْبِ لَمَّا تَوَلَّتِ
فأما عيونُ العاشقينَ فأسخنتْ وأَمّا عيُونُ الشامِتينَ فَقَرَّتِ
ولما دعاني البينُ وليتٌ إذْ دعا ولما دعاها طاوعتهُ ولبتِ
فلمْ أرَ مثلي كانَ أوفى بذمةٍ ولا مثلها لم ترعَ عهدي وذمتي
مَشُوقٌ رَمَتْهُ أَسْهُمُ البَيْن فانْثَنَى صَريعاً لها لمَّا رَمَتْهُ فأَصْمَتِ
ولوْ أَنّها غَيْرُ النَّوَى فَوَّقَتْ لَهُ بأسهمها لمْ تصمْ فيهِ وأشوتِ
كأَنَّ عَليْها الدَّمْعَ ضَرْبة ُ لازِبٍ إذا ما حمامُ الأيكِ فيِ الأيكِ غنتِ
إذا اعتسفتها العيسُ بالركبِ ضلتِ أجابتْ نداءَ الركبِ فيها فأصدتِ
وهكذا تنتقل قصيدة أبي تمام، رغم لغتها الكلاسيكية المتينة، إلى بساطة العاطفة الإنسانية وفق بلاغة حديثة على وفق مقياس زمانه، بأقصى طاقة اللغة على التحديث والتحول والدهشة.
رغم ميل أبي تمام إلى العروض الصافي والأوزان التامة فإنه ينتقي لغته من قاموسه الخاص ليضع القصيدة على أيدي قارئه (أو سامعه في ذلك الوقت) بمزيد من الأريحية الشعرية لأنه ابن قرية، وأبناء القرى أكثر طلاقة من أبناء المدن لأنهم مخلوقات تعيش في مديات مفتوحة في أفق مفتوح بما أن الشعر تاريخ ثقافي للشاعر لا جغرافية محدودة بمسقط رأس الشاعر.
ولد في جاسم (من قرى حوران بسورية) أيام الرشيد، وكان أولاً حدثاً يسقي الماء بمصر، ثم جالس الأدباء، وأخذ عنهم وكان يتوقد ذكاء. وسحت قريحته بالنظم البديع. فسمع به المعتصم، فطلبه، وقدمه على الشعراء، وله فيه قصائد. وكان يوصف بطيب الأخلاق والظرف والسماحة. وقيل : قدم في زيِّ الأعراب، فجلس إلى حلقة من الشعراء، وطلب منهم أن يسمعوا من نظمه، فشاع وذاع وخضعوا له وصار من أمره ما صار.
عندما ترعرع أبو تمام سافر إلى مصر فكان يسقي الماء وارتحل في سبيل المعرفة من الشام إلى مصر وتردد على مسجد الفسطاط حيث حلقات العلم مكتظة بالدارسين يستمعون إلى الشيوخ الذين يلقون الدروس في اللغة والنحو والفقه والأدب وعلوم الدين بجامع عمرو ويستقي من أدب العلماء والشعراء. حفظ الشعر منذ طفولته وصار يقلد الشعراء حتى أبدع في هذا المجال وتفرد فيه بعبقرية نادرة فأصبح شاعراً مطبوعاَ لطيف الفطنة دقيق المعنى له استخراجات عجائبية ومعان غريبة (*).
إعدام رمزي لشاعر ليقتل مرتين: الأولى في قريته بـ (جاسم) ، قريته الحورانية ، وثانية في الموصل المحتلة ، لكن الشاعر حاضر بيننا، رغم إعدامه، فهم لا يقدرون على محوه من تراث قصيدتنا المتطلعة إلى التجديد والحب والجمال.
غيَّر ديوانه الذي شرحه الصولي وطبعته وزارة الإعلام العراقية عام 1987 في خطوة رائدة فقد وضع أبو تمام مختاراته الشعرية حسب ذوقه ومزاجه من عيون الشعر العربي القديم، في (ديوان الحماسة) وكان أن وجد في العصر العباسي فرصة ثقافية حيث بذور التغيير والتجديد على المستويات كافة، ما أدى إلى تطور الأذواق، فاتجه الناس ينهلون من معطيات الحضارة الجديدة، ويتفاعلون معها، وكان من أثر ذلك التغير ابتعاد القارئ العربي عن مطالعة المطولات الشعرية، واستعاض عنها بالمقطوعات القصيرة التي تتلاءم مع ذوقه من حيث الشكل والمضمون. وهكذا صار الشعراء يهتمون بالمقطوعات القصيرة، وأكثر من ذلك أخذ بعض كبار الأدباء والنقاد يجمعون من هذه القصائد ما يحلو لهم تلبية لرغبات الجمهور، ورتبوها حسب المعاني الشعرية لتشمل الأغراض المختلفة. وأقدم ما عرفناه من هذه الاختيارات ما جمعه أبو تمام واشتهر عن المتأخرين وعرف باسم (الحماسة) تسمية له بأول أبوابه، وتليه أبواب أخرى ويبدو أن الباب الأول (أي باب الحماسة) هو أغزر الأبواب وأهمها. ويجدر بنا أن نذكر أن أبا تمام قد قصر اختياراته على شعراء الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، وقد حظي بعض المقطوعات لشعراء عباسيين من أهل الأدب حماسة أبي تمام بتقبل حسن فاهتموا بقراءتها وتدريسها، وشرحها وتفسيرها.
أذكر أن ثلاثة شعراء عراقيين تباروا في قراءة شعر أبي تمام في حانة عراقية على أبي نؤاس، عام 1978، وكانوا سعدي يوسف ورشدي العمل وكاتب السطور (الشاب آنذاك) فكانت جلسة شعرية جميلة ومنها أبيات أخرى أسقطتها على بغداد أيام الحصار البعثي على اليسار والثقافة الديمقراطية وهي من أجمل الثائيات النادرة في الشعر العربي القديم، ولا أنسى أن سعدي يوسف استغاظ وشعر بالغيرة وقتها إذ كيف يتأتى لشاعر شاب أن يحفظ لأبي تمام كل هذه المقاطع وهو لا يحفظها بينما يصطفي سعدي أبا تمام شاعره وأستاذه ويفضله على المتنبي!
ومن بين ما حفظت وقتها وقرأته على أستاذيَّ (أنا الشاعر الشاب):
قسمَ الزمانُ ربوعها بين الصبا.. وقبولها أثلاثا
فتأبّدتْ من كل مخطفة الحشا ... غيداءَ تكسي يارقاً ورعاثا
كالظبية الأدماء صافتْ فارتعتْ... زهرَ العرار الغضِّ والجثجاثا
والقصيدة طويلة إلى أن يبلغ قوله:
لم آتها من أي وجهٍ جئتها إلا حسبت بيوتها أجداثا
بلدُ الفلاحةِ لو أتاها جرولٌ.. أعني الحطيئةَ لاغتدى حرّاثا
بلدٌ خلعتُ اللهوّ خلعي خاتمي... فيها وطلقتُ السرور ثلاثا.
رحم الله أبا تمام ثلاث مرات: شاعراَ حيّاَ في ذاكرة قصيدتنا القديمة والحديثة وشاعراً أعدموه في قريته (جاسم) من أعمال حوران السورية، وثالثة في الموصل الجريحة.
(*) ويكيبيديا العربية